وأنت وبصمات أصابعك.. وجريمتك

وافق الكونغرس عام 1924 على تأسيس قسم تحديد الهوية في «اف بي آي» فجمع المكتب بصمات 200 مليون شخص

TT

  دخل وليام ويست، في سنة 1904، السجن الفيدرالي في ليفنويرث (ولاية كنساس) بعد ان حكمت عليه محكمة كنساس الفيدرالية بالسجن مدى الحياة، لأنه قتل زوجته عمدا. استغرب الميجور روبرت ماكلوغري، مدير السجن، لأن ويست كان سجينا في السجن، وظن ان ويست هرب من السجن وارتكب الجريمة. واسرع المدير ونادى الحراس ليتأكدوا من أن ويست موجود في زنزانته. وعاد الحراس، وقالوا انه موجود. نظر المدير الى ملف ويست، السجين القديم، ووجد انه حوكم عليه بالسجن مدى الحياة، لأنه قتل زوجته عمدا. ونظر الى ملف ويست، السجين الجديد، ووجد نفس الشيء، ووجد تطابقا في الاسم (وليام ويست) والعمر والوصف ومكان الميلاد.

كان الميجور ماكلوغري، مدير السجن، قد عاد، قبل الحادث باسبوعين، من سنت لويس (ولاية ميسوري) حيث شاهد المعرض التجاري العالمي، وقابل الميجور جون فرايار، خبير بصمات الاصابع في  مباحث «سكوتلاند يارد» في بريطانيا. وكان جناح بريطانيا في المعرض قد عرض احدث الاختراعات البريطانية، ومنها جهاز بدائي لتصوير وتحليل بصمات الاصابع. لكن، لم يستعمل البريطانيون الجهاز استعمالا رسميا حتى ذلك الوقت.

وتذكر الميجور الاميركي الميجور البريطاني، ووجد انه، لحسن الحظ، لا يزال في المعرض، ولم يعد الى بريطانيا، وطلب منه مساعدته في حل لغز السجينين. وسافر الميجور البريطاني الى السجن الاميركي، وهو يحمل الجهاز الميكانيكي الثقيل، وتأكد من أن هناك اختلافا في بصمات السجينين، القديم والجديد. وأعلن ان بصمات القديم حلزونية، ومقياسها 13 فاصل 32، وبصمات الجديد دائرية، ومقياسها 30 فاصل 26. وتأكد الجميع من ان الرجلين، حقيقة، مختلفين. وانتهت اشاعات نشرتها صحف محلية عن تقمص اشخاص ووجود عفاريت في السجن، وان الشخصين توأمان وابتعدا عن بعضهما عندما كانا صغيرين. كانت تلك اول مرة تستعمل فيها البصمات استعمالا رسميا. وتبع سجن كنساس، في نفس السنة، سجن نيويورك الفيدرالي. وكان د. هنرى ديفورست، خبير بصمات في نيويورك، قدم، قبل ذلك بسنتين، مشروع استخدام البصمات الى لجنة الخدمة المدنية في ولاية نيويورك.

تفوق الاميركيون على البريطانيين في استعمال علم البصمات استعمالا رسميا، رغم ان البريطانيين هم الذين اخترعوه. لكن، قبل حادث سجن ولاية كنساس بعشرين سنة، تخيل مارك توين، روائي اميركي، استعمال البصمات في قصة «حياة على نهر المسيسبي»، عن جريمة حيرت رجال الشرطة. غير ان مارك توين لم يعرف ان السير فرانسيس غالتون، عالم الاجناس البريطاني، سيكتب، بعد صدور قصته الخيالية بعشر سنوات، اول كتاب عن بصمات الاصابع، عنوانه «بصمات الاصابع».نشر كتاب غالتون اول تقسيم لانواع البصمات واشكالها واتجاهاتها، واسمائها وارقامها. وتتلمذ على يدي غالتون هنديان: المسلم عزيز الحق، والهندوسي هيم شاندرا، واسسا في الهند (كانت مستعمرة بريطانية في ذلك الوقت) اول قسم لعلم البصمات.

 لكن، لا يريد الاميركيون ان يستسلموا للبريطانيين، ويتنازلوا لهم عن اسبقية الوصول الى علم البصمات، لأن الاميركي غلبيرت تومسون، عالم الجيولوجيا في البوكوركي (ولاية نيو مكسيكو)، كان اول من استعمل بصمات يده لضمان اصل وثيقة اعترفت بها المحاكم. فعل ذلك قبل ست سنوات من كتاب البريطاني غالتون.

سمى تومسون اصبعه «لاينغ بوب» (بوب الكذاب) تندرا، وذلك لأنه ضمن صدق اي وثيقة يبصم عليها، مقابل 75 دولارا. كان المبلغ كبيرا في ذلك الوقت، لكن تومسون تعب وحقق وتأكد من محتويات كل وثيقة قبل ان يبصم عليها.

الا ان تاريخ علم البصمات يعود الى ما قبل الاميركيين والبريطانيين، فقد ترك البابليون، قبل ميلاد المسيح بأربعة آلاف سنة، آثار بصمات على الواح من الطين المجفف مع  ارقام ومعاملات تجارية، وترك الفرس، بعد ميلاد المسيح بأكثر من الف سنة، اول اوراق رسمية عليها آثار بصمات اصابع.  وترك طبيب فارسي ملاحظات انه «اكتشف» ان هناك فرقا بين بصمات كل اصبع عن الآخر. وبعد ذلك بقرنين، كتب مارسيلو ماربيغي، طبيب تشريح في ايطاليا، اول بحث عن اشكال وانواع البصمات.

اصبحت البصمات وسيلة لاثبات هوية الناس لأنها معقدة، ولأنها تمتاز بصفات منها الآتية: اولا، كما كتب غاري جونز، محقق سابق في مكتب التحقيق الفيدرالي (اف بي آي) ومؤلف كتاب «مقدمة لمقارنات البصمات»، انه «لا توجد بصمتا اصبعين متشابهتين ابدا، لا وسط بلايين الناس، ولا في بلايين المعلومات في شبكات الانترنت». ثانيا، «تعتبر البصمات، في كل مراكز الشرطة في العالم، اول اداة لإثبات الهوية، واكثرها استعمالا». ثالثا، يقول خبراء جريمة اميركيون ان البصمات اكثر صدقا من الحامض النووي (دي ان ايه)، رغم ان آخرين يقولون العكس.

لكن، اثبتت حالات قليلة ان البصمات كذبت. اثبتت ذلك حالتان وقعتا في سنة 1997، واحدة في اميركا والثانية في اسكوتلندا:

في الحالة الاولى: اعتقلت شرطة ولاية ماساجوستس ستيفن كوانز بتهمة محاولة قتل رجل شرطة، عندما اطلق عليه الرصاص وهرب. نفى ستيفن التهمة، لكن قالت الشرطة للقاضي انها وجدت بصمات اصابعه على كوب ماء شرب منه قبل الحادث. واقتنع القاضي، وحكم عليه بالسجن 35 سنة.  لكن، ظل ستيفن ينفي التهمة حتى بعد ان دخل السجن، واقسم بأن يبرئ نفسه، ودرس في السجن عن الحامض النووي، وجمع اجور تنظيف حمامات السجن، واستأجر محاميا اقنع قاضيا آخر بمقارنة حامضه النووي مع عينة من مكان البصمات على كوب الماء. واثبتت المقارنة ان حامضه يختلف عن حامض الشخص الذي شرب من كوب الماء. وبرأه القاضي، بعد ان قضى في السجن ست سنوات.

وفي الحالة الثانية: اعتقلت شرطة اسكوتلندا زميلتهم الشرطية شيرلي ماكي بتهمة قتل شخص داخل منزله، وقالوا انهم عثروا على بصمات اصابعها داخل المنزل. نفت الشرطية التهمة. وعندما قدمت الى المحكمة، استعان محاموها بخبراء بصمات اميركيين استعملوا اجهزة الكترونية لفحص البصمات داخل المنزل وقالوا انها لا تطابق بصمات الشرطية. وقالوا ان اجهزة فحص البصمات الاسكوتلندية ليس متطورة، وانها سبب ادانة الشرطية. واقتنعت المحكمة واطلقت سراح الشرطية.

وافق الكونغرس، سنة 1924، على قانون تأسيس قسم تحديد الهوية في مكتب التحقيق الفيدرالي (اف بي آي)، وكان ذلك نواة اكبر قسم لفحص البصمات في العالم. وجمع المكتب، خلال الاربعين سنة التالية، بصمات 200 مليون شخص، ووضعها في ملفات تملأ عدة طوابق في رئاسته في شارع بنسلفانيا في واشنطن، على مسافة قريبة من الكونغرس ومن البيت الابيض. وطور المكتب مؤخرا نظام حفظ البصمات، وحولها من ملفات ورقية الى كومبيوترات، ونقلها الى كلاركسبيرغ (ولاية ويست فرجينيا).

وبعد هجوم 11 سبتمبر (ايلول)، واعلان الحرب ضد الارهاب والارهابيين، زادت قائمة البصمات، بالاضافة الى قوائم في فروع المكتب في الولايات الاميركية، وفروع المكتب في السفارات الاميركية في الخارج. لعب فرع المكتب في السفارة الاميركية في اسبانيا دورا كبيرا في التحقيقات التي اعقبت التفجيرات الارهابية في قطارات «مترو» مدريد سنة 2004. وفي اعتقال براندون ميفيلد، محامي في بورتلاند (ولاية اوريغون) اعتنق الاسلام بعد ان احب طالبة مصرية بنت استاذ جامعة مصري في نفس الولاية. قال مكتب التحقيق انه اعتقل براندون بعد ان وجد آثار بصمات اصابعه على اوعية لها صلة بالانفجارات في مدريد، لكن مكتب التحقيقات الاسباني، بعد ان فحص البصمات، اختلف مع مكتب التحقيقات الاميركي، واضطر الاميركيون لإطلاق سراح براندون، وقالوا ان خطأ وقع في طريقة تحليل بصمات براندون، وليس في تقسيمات البصمات نفسها، لكن، قال بعض الناس ان الخطأ ليس في تحليل البصمات، ولا في علم البصمات، ولكن في النوايا الاميركية التي شكت في براندون لأنه اميركي اعتنق الاسلام. بعد هجوم 11 سبتمبر، تحولت مسؤولية جمع وحفظ بصمات الاجانب الذين يدخلون الولايات المتحدة من مكتب التحقيق الفيدرالي الى ادارة الهجرة والجمارك (آيس) التابعة لوزارة أمن الوطن. ويعتقد ان هناك بصمات اكثر من 50 مليون اجنبي، بالاضافة الى بصمات 25 مليون مجرم، بعضهم اميركيون وبعضهم اجانب. (لا تشمل القائمة، طبعا، بصمات عشرة ملايين اجنبي دخلوا الولايات المتحدة بطرق غير قانونية). ويعقد الاعتماد على البصمات بعض المشاكل، او يسبب مشاكل لاشخاص ابرياء. حدث هذا بالنسبة للمكسيكي ليو روساريو، تاجر مخدرات هارب من العدالة، ويعتقد مكتب التحقيقات انه موجود في الولايات المتحدة. وما كان اسمه سيشتهر لولا انه سبب مشاكل معقدة لمكسيكي آخر هو رينيه سانشيز الذي يقيم في الولايات المتحدة بطريقة قانونية.

اعتقلت شرطة الهجرة في نيويورك، قبل اربع سنوات، سانشيز، وقالت ان بصماته تطابق بصمات تاجر المخدرات، لكن سانشيز نفى انه تاجر المخدرات، ولا حتى يشبهه، وهو اصغر منه بأكثر من عشر سنوات، واطول منه بنصف قدم، واقل منه وزنا بعشرين رطلا تقريبا. غير ان الشرطة تمسكت بتطابق البصمات. وقبل ذلك بثلاث سنوات، طارد شبح تاجر المخدرات سانشيز، وهو عامل في مكان لتصليح السيارات، اعتقلته الشرطة ثلاث مرات، معتقدة انه تاجر المخدرات، وكانت تطلق سراحه بعد ان تتأكد انه شخص آخر، وان هناك خطأ ما في البصمات او في تطبيقها. لكن، تشددت الشرطة مع الاجانب بعد هجوم 11 سبتمبر، ولهذا عندما اعتقلت سانشيز مرة اخرى، رفضت اطلاق سراحه. وايدها الان بيغ، قاضي محكمة نيويورك، الذي خاطب سانشيز، وقال له: «لا تكذب البصمات. ما دامت بصماتك هي نفس بصمات ليو روساريو (تاجر المخدرات الهارب)، لا بد ان تكون انت ليو روساريو». وحسب وصف مراسلة جريدة «نيويورك تايمز»، التي حضرت المحاكمة، بكى سانشيز، وسأل القاضي: «لماذا لا تقارن صورته بصورتي، بدل ان تعتمدوا على البصمات؟» لكن، لم يغير القاضي رأيه. ونقلت الشرطة سانشيز الى سجن مانهاتان في نيويورك ولا يعرف احد متى سيخرج من السجن، ومتى سيتخلص من شبح تاجر المخدرات.