من هو اليهودي؟

هجرة يهود آسيا إلى إسرائيل تفتح ملف ألغام جديدا

TT

هجرة حوالي 300 يهودي من الهند، مطلع الأسبوع، إلى إسرائيل كانت حصيلة معارك سياسية ودينية محتدمة دارت على مدى سنين طويلة في المؤسسات الإسرائيلية وتوجت هذا الأسبوع بقرار مبدئي ستكون له أبعاد وتبعات في المستقبل. فهذه الشريحة من اليهود لم تكن تحظى باعتراف المؤسسة الدينية الأرثوذكسية في الماضي ولا حتى المؤسسة السياسية التي يفترض أنها معنية بزيادة عدد اليهود. والاعتراف بها اليوم، من المؤسستين، هو تطور لافت. البعض يقول إنه تطور محدود الضمان، والبعض يعتبره بداية لما هو شيء كبير. ولكن الغالبية تحاول وضعه في حجمه الطبيعي حتى لا يثير مشكلة سياسية أو دينية.

هذا التباين في التقديرات يعكس تباينا في وجهات النظر في المجتمع اليهودي برمته تجاه هذا الموضوع. ولذلك لم يكن صدفة أن الإسرائيليين، صحافة وجماهير وقيادة، استقبلوا اليهود الآسيويين، بنفس طريقة استقبال اليهود الإثيوبيين. فقد شكك الكثيرون بيهوديتهم واتهم المتدينون المتزمتون منهم الحكومة بمواصلة المساس «بالنقاء اليهودي»، بواسطة زيادة عدد الغيار (غير اليهود) في إسرائيل. وانضم كثير من العلمانيين إلى المنتقدين فقالوا إن يهود آسيا لا يمتون لليهودية بصلة وكل ما هناك هو أنهم يفتشون عن مستوى معيشة ينقذهم من حالة الفقر المدقع التي يعيشونها، وقد سمعوا عن مستوى المعيشة العالي في إسرائيل ودرسوا أسرار الحياة الإسرائيلية والتيارات اليهودية والصراعات بينها فأتقنوا لعبة الانخراط فيها وأداروا معركة ناجحة للهجرة إلى إسرائيل.

ويعتبر هذا النقاش قديما جدا في اليهودية، تجدد بشكل حاد مع إقامة الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، واحتد أكثر مع قيام إسرائيل. وتعود جذوره إلى الخلاف المحتدم في اليهودية حول السؤال المبدئي: من هو اليهودي؟

أسس الديانة اليهودية، كما هو معروف، تكمن في الوصايا العشر التي نزلت على سيدنا موسى عليه السلام في جبل سيناء. واستنادا إلى المعتقدات اليهودية فإنها كانت منقوشة على لوحين من الحجر تم حفظهما في «صندوق العهد»، أقدس المقدسات اليهودية، لكن هذا الصندوق اختفى خلال الحروب، وحلت مكانه «الخزانة المقدسة» التي تضم الأسفار الخمسة للتوراة مكتوبة على صفائح من الجلد.

وقد كتبت التوراة خلال ثلاثمائة وخمسين سنة (من سنة 450 وحتى 100 قبل الميلاد). واختلف حكماء اليهود في تفسير التوراة وتقويم التاريخ اليهودي، فتوصلوا إلى صياغة تفسيرات تحافظ على الحد الأدنى من الاتفاق في مجلدين، «المشناة» و«التلمود». وهما يعتبران المرجعية الأساسية للنظم الاجتماعية والاقتصادية والدينية لليهودية. لكن اليهود اختلفوا في العديد من القضايا الأساسية رغم وجود هذه المرجعية. وحتى يومنا هذا لا توجد إجابة شافية على سؤال: من هو اليهودي.

فحسب الشرائع الدينية يعتبر اليهودي من تكون أمه يهودية أو من يقول انه من ذرية يهودية ويثبت انه حافظ على أحكام الدين، وحرص على احترام حرمة السبت والطقوس رغم بعده عن جذوره، أو من عبر عملية تجيير دينية في اليهودية (أي عملية تهويد)، أو من ولد لأم عبرت عملية التجيير. والخلاف هو حول البندين الأخيرين. فمن يدعي انه من سلالة يهودية وانه التزم بالشرائع اليهودية عليه أن يأتي بالبرهان. ومن يريد التهويد عليه أن يختار رجال دين يهود يقبلون بتهوده ويعترفون بأنها كانت عملية طاهرة.

إحدى القضايا الخلافية في اليهودية تتعلق بمشكلة الانتماء اليهودي. فهو ليس انتماء دينيا فحسب، إنما هو انتماء اثني. وعلى مدى التاريخ، وقبل نشوء الصهيونية بمئات القرون، جعله قادة الدول اليهودية انتماء قوميا، ولذلك دار صراع حاد بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية من جهة وكذلك بين التيارات الدينية نفسها حول هذا الانتماء. وفي حين أصر المتزمتون من التيار الديني الأرثوذكسي على فرض شروط قاسية للتهود، خرج العلمانيون بحملة معارضة يحذرون من انقراض اليهودية بسبب التزمت ويطالبون بالانفتاح لزيادة عدد اليهود. وفي اليهودية لا يوجد نظام تكفير، حيث أن التيار الديني المتزمت يقبل باليهودي لمجرد توفر الصفات المذكورة أعلاه فيه. فإذا كانت أمه يهودية يتم اعتباره يهوديا بغض النظر إن كان متدينا ملتزما أو علمانيا غير مؤمن. ولهذا فقد كان للعلمانيين طول الوقت وزن كبير في اليهودية. وزاد هذا الوزن أكثر مع نشوء الحركة الصهيونية، حيث تألفت بالأساس من العلمانيين. وأصبح هذا الدور حاسما اثر قيام اسرائيل.

يقول المؤرخ اليهودي بن تسيون يهوشع انه في التاريخ اليهودي يوجد 13 سبطا. وفي زمن حكم رحبعام سنة 920 قبل الميلاد انقسمت المملكة اليهودية إلى قسمين بسبب ظلم الملك والضرائب الفاحشة التي فرضها، هما مملكة يهودا، التي ضمت سبطين اثنين كاملين وقسم من سبط ليفي، ومملكة إسرائيل التي ظلت موالية لرحبعام وضمت عشرة أسباط، بينها من تبقى من سبط ليفي. وقد احتل الآشوريون مملكة إسرائيل ودمروها وقاموا بتهجير سكانها إلى العراق. وقد خاف هؤلاء من بطش الآشوريين فهربوا باتجاه الشرق والشمال، ثم تاهوا. وانقطع الاتصال بهم. ويعتقد بعض «حكماء اليهود» أن الله عاقب أبناء هذه السباط على ضلالهم ولم يعد لهم الحق في العودة إلى أرض إسرائيل. فيما يعتقد البعض الآخر أنهم تعلموا الدرس من خطيئتهم وأصبحوا «يهودا أتقياء». ويقدم المؤرخ اليهودي د. يوط لفنسكي عدة براهين على أن هؤلاء «عرفوا بالتقوى وشدة الإيمان» ويلجأ أيضا إلى سورة الأعراف في القرآن الكريم فيقتبس منها الآية 159: «ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون». ويكتب أن النبي محمد (ص) طلب من جبريل عليه السلام أن يأخذه ليلتقي هذه الأمة فأجابه بأنهم بعيدون عنه مسافة ست سنوات مشيا، إشارة إلى أنهم في الشرق البعيد. ويضيف ان ابن العباس روى أن النبي تمكن من لقائهم وعرض عليهم الانضمام إلى الإسلام، فوافق سبطان على ذلك وامتنع الأسباط الثمانية.

ولا يعرف مكان انتشار هؤلاء بالضبط لكن الأبحاث التاريخية اليهودية تذكر أنهم سلكوا طريق الحرير في الهند وسلكوا طريق إيران وأفغانستان. وقال هليل ألكين، الذي سافر إلى المجموعة التي تعيش اليوم في المناطق الحدودية بين الهند وبورما وأعد بحثا معمقا عنها أصدره في كتاب قبل خمس سنوات، أن هناك أكثر من دليل على أن هؤلاء هم من سلالة سبط أو أكثر من الأسباط اليهودية العشرة التائهة. ويضيف: «في هذه المنطقة عاش الناس حياة بدائية متخلفة واتخذوا لأنفسهم ديانة غير واضحة المعالم. وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وصل إليهم المبشرون المسيحيون من بريطانيا وجعلوهم مسيحيين. والمسيحية كما هو معروف تعتمد التوراة أيضا (كتاب العهد القديم). فعلى ما يبدو، أن هؤلاء الناس عندما قرأوا التوراة وجدوا الكثير من الأمور المشتركة بين ديانتهم القديمة وبين التوراة. واكتشفوا أنهم من أبناء سبط منشة، أحد الأسباط التائهة المذكورة. فتنامى لديهم الوعي على الأصول وأرادوا أن يعودوا إلى ديانتهم اليهودية. وقد شجعهم على ذلك قدوم بعضهم إلى إسرائيل ورؤيتها تعبيرا عن الحلم».

من هنا بدأت السياسة تتقدم على الجانب الديني البحت. فقد اتضح أن الكثير من سكان تلك المناطق يرون أنفسهم ذوي جذور يهودية. فالغالبية الساحقة من المؤرخين الأفغان يعتبرون أن جذورهم تعود إلى بني إسرائيل، ويرون أنه حتى ما قبل الغزو السوفياتي إلى أفغانستان كان الملك ظاهر شاه، يعتبر نفسه من ذرية بني إسرائيل وكتب التدريس اليهودية تشير إلى الأمر نفسه. وفي اسرائيل بادر رجل دين من اليمين المتطرف إلى البحث في القضية، وهو الرابي الياهو أفيحيل، وأسس جمعية أطلق عليها اسم «عميشاف» (شعبي عاد) تعمل منذ سنة 1975 على تجميع بقايا الأسباط العشرة وإعادتهم إلى إسرائيل. ووفق مزاعمه وحساباته فإن كل الشعب الأفغاني وبضعة ملايين من سكان باكستان والهند هم من أولئك اليهود الذين يرى أنه من الواجب إحضارهم إلى إسرائيل. وهو يقدر عددهم بعشرين مليون نسمة. وقد بدأ مشروعه لجلبهم إلى إسرائيل، وتمكن حتى الآن من جلب ما يقرب من خمسة آلاف، اسكن معظمهم في المستوطنات اليهودية القائمة في المناطق الفلسطينية المحتلة. واقنع العديدين منهم بالتطوع في صفوف قوات الجيش الإسرائيلي.

إلا أن هذا النشاط وغيره اصطدم بمعارضة شديدة جدا من المؤسسة الدينية الأرثوذكسية في إسرائيل ومن الحكومة. فالمؤسسة الدينية لا تقتنع بأن هؤلاء هم من ذرية السباط العشرة. وتقول انه حتى في حالة كهذه، يجب أن يعبروا عملية التهويد حسب الأصول الدينية الدقيقة ويبرهنوا على أنهم معنيون وقادرون على إتباع الديانة اليهودية قبل أن يصلوا إلى البلاد. وأما الحكومة فهي غير معنية باستقدام ملايين اليهود الشرقيين من هذه المنطقة وتتهرب من الفكرة وتقدم مختلف التفسيرات لموقفها. وفي المناقشات الداخلية تقول صراحة إنها غير معنية بغمر إسرائيل بملايين الأفغان. وفيما يتعلق بسكان الهند الذين يعتبرون أنفسهم يهودا، تقول الحكومة الإسرائيلية إنها تخشى من رد فعل الحكومة الهندية. ففي الهند بإمكان كل مواطن أن يتنازل عن جنسيته ويغادر البلاد، إذا أراد. ولكنها تمنع النشاط التبشيري الهادف إلى تغيير ديانة هؤلاء المواطنين إلى الديانة اليهودية. والقيادة الدينية اليهودية في إسرائيل تصر على أن لا يهاجروا قبل أن يعتنقوا اليهودية، لذلك أرسلت إليهم ستة رجال دين يهود ليعملوا على تجييرهم (تهويدهم). وحسب مسؤول ملف الهند في وزارة الخارجية الإسرائيلية، فإن هذه المسألة تهدد بتفجير أزمة خطيرة بين البلدين. وخلال مناقشة في لجنة الاستيعاب البرلمانية جرت في مثل هذه الأيام من السنة الماضية قال هذا المسؤول: «إننا نتحدث عن دولة بالغة الأهمية لإسرائيل. ففي السنة الماضية (2005) بلغ حجم التبادل التجاري بيننا وبين الهند 2.5 مليار دولار في السنة، ونحن نبيع لهم الأسلحة المتطورة بكميات كبيرة، ولا عاقل واحدا في إسرائيل معني بخسارة بلد كهذا».

بيد أن أنصار الهجرة اليهودية من الهند يرفضون هذا التفسير. وحسب الرباي يغئال كريسبيل، أحد الذين لم يكونوا مقتنعين بوجود يهود في الهند لكنه اقتنع عندما التقى بهم مباشرة، فإنه شاهد بنفسه إشارات دخول رسمية إلى الهند (فيزا) يحملها مبشرون بالمسيحية. وقال إن المشكلة ليست في الهند بل في العقول الإسرائيلية التي لا تتحمس ليهود من هذه الشاكلة. ويعصف هذا الجدل بإسرائيل منذ سنوات ويتفاقم كلما يجري الحديث عن هجرة مجموعة كهذه. ففي الأسبوع الماضي، وحالما نشر عن قدوم 250 مهاجرا من الهند وبورما، كتبت عدة مقالات ونشرت عدة تصريحات مع وضد الفكرة. وفي الكثير من الحالات بدا أن الإسرائيليين يخشون من أن تكون المسألة قضية مجموعة من الهنود الأذكياء الذين يعرفون حقيقة الوضع في إسرائيل بعد أن درسوا الأوضاع الاقتصادية والمعاشية فقرروا استغلال موضوع الأسباط العشرة. ويرفض هليل هالكين هذا الادعاء ويقول إن هؤلاء الهنود ليسوا من الفقراء المعدمين «وأنا ادعي أن حياتهم هناك في الهند هي أفضل نسبيا من الحياة المتعبة في إسرائيل. كل ما هناك أنهم يريدون العودة إلى جذورهم». ويقدر هالكين عددهم بحوالي عشرين ألفا حاليا. ويقول إن هناك مليوني شخص يعتقدون أنهم من بذور ذرية بني منسة. لكنه لا يتوقع أن هجرتهم ممكنة إلى إسرائيل.

وتشاطره الرأي الكاتبة الصحافية اليهودية المتدينة بامبي شيلغ، رئيسة تحرير مجلة «ايرتس أحيرت» (بلاد أخرى)، فتقول إنها تؤيد هجرة أولئك اليهود الهنود البالغ عددهم 7000 نسمة، ولا تعتقد بأن مجيئهم يهدد إسرائيل بشيء. وقالت ردا على سؤال بخصوص احتمال مطلب أفغاني في يوم من الأيام «بالعودة»: «هذا أمر غير واقعي ولا أعتقد أن له أي أساس من الصلاح أو الواقعية. فعملية التجيير إلى اليهودية عملية شاقة وطويلة للغاية ولا أعتقد أن أولئك الأفغان أو حتى اليهود يستطيعون عبورها بنجاح في فترة قصيرة».