متى يتقاعد الإنسان؟

الدول الصناعية تشيخ وتواجه قنبلة موقوتة في سوق العمل والمعاشات

TT

أعلنت الحكومة البريطانية هذا الأسبوع عن مشروع قانون من شأنه إدخال تعديلات جذرية على نظام التقاعد. ومن بين مقترحات المشروع رفع سن التقاعد الحكومي من 65 إلى 68 سنة، بحلول عام 2050 إلى جانب المساواة بين الرجل والمرأة، في ما يخص سنوات الخدمة، التي يجب أن يكون الموظف قد أداها للحصول على التقاعد، وتخفيضها الى 30 سنة.

ويعتبر التقاعد من القضايا المثيرة للجدل ليس في بريطانيا فقط، بل في عموم أوروبا والدول الصناعية، كما أنه من الموضوعات التي تؤرق صُناع القرار في هذه الدول، خصوصا مع زيادة عدد المتقاعدين بسبب ارتفاع معدلات عمر الانسان. وفي هذا السياق أكد جون هاتون وزير العمل والتقاعد البريطاني، أنه من الواجب رفع سن التقاعد الحكومي لضمان بقاء الأخير متاحا للمواطنين، خاصة مع ميل هؤلاء للعيش أطول. وأشار هاتون الى أن رفع سن التقاعد أصبح ضروريا، لتجنب تأجيل الحمل الثقيل لنظام التقاعد، الذي سيقع على كاهل الأجيال القادمة.

ومثل بريطانيا لا تُخفي كثير من الدول المتقدمة تخوفها من تحول التقاعد الى قنبلة موقوتة، ستكون لها آثار مدمرة في المستقبل، خصوصا مع تراجع معدل الولادة. ويخشى الكثيرون في هذه الدول من انهيار نظام التقاعد على المدى الطويل وعدم قدرته على تحمل رعاية الاعداد المتزايدة من المتقاعدين في ظل الاختلال السكاني وميل الكفة لصالح الكهول المتقاعدين على حساب الشباب العاملين والمساهمين في صناديق المعاشات. وقد ذهبت بعض السيناريوهات المستقبلية للحديث عن امكانية اضطرار الاجيال القادمة في هذه الدول للعمل حتى آخر أيام حياتها.

وبحسب تقديرات وردت في تقرير لبنك «غولدمان ساكس» الاستثماري، فإنه بحلول عام 2020 ستواجه الولايات المتحدة والصين واليابان وروسيا مجتمعة نقصا يبلغ 42 مليونا في أعداد العاملين في سن العمل، بينما تقول تقديرات المركز الأوروبي للاحصاءات «يورو ستات»، إن أوروبا ستفقد نحو 52 مليونا من قوتها العاملة بحلول 2050.

ومع زيادة عدد المتقاعدين الذين أصبحوا يعدون بعشرات الملايين في الدول الغربية، فقد برزت أسئلة كثيرة حول تكاليف رعايتهم والعناية بهم. ففي ألمانيا مثلا سيصل بحلول سنة 2040 الى نحو 30 مليونا عدد الذين سيتجاوز سنهم 65 سنة والمؤهلين للحصول على التقاعد الحكومي.

وبعد أن كان سن التقاعد في هذه الدول محطة يأمل أن يصلها الكثيرون للاستمتاع بوقتهم بعد سنوات طويلة من العمل، فقد تحول في السنوات الأخيرة، مع غلاء المعيشة، الى كابوس بالنسبة للكثيرين، خاصة من الذين يعتمدون على منحة التقاعد الحكومي فقط، والذين لم يساهموا في صناديق معاشات خاصة. وفيما يضطر العديد من هؤلاء الى مواصلة العمل بعد سنوات من بلوغهم سن التقاعد الرسمي، لكي يتمكنوا من تلبية متطلباتهم المعيشية، فان كثيرين يجدون صعوبة في الحصول على عمل، مما دفع الحكومة البريطانية الى اصدار قانون ضد التمييز العُمري في التوظيف، الذي دخل حيز التطبيق منذ نحو شهرين. في العالم العربي لا يثير موضوع التقاعد، ظاهريا ربما، نفس الاهتمام والجدل الدائر بالمقارنة بـ«دولة الرعاية الاجتماعية» في الغرب. ففي السعودية ومع تنامي عدد المتقاعدين في المملكة، الذي لامس 800 ألف متقاعد، وتباينت اراء حول سن التقاعد المناسبة، ما بين دعوات لرفعها وأخرى لتخفيضها، ومنحت المرأة من خلال هذه المطالبات استثناءً بتخفيض سن التقاعد الاجباري المناسب لها الى نصف سنوات تقاعد الرجل.

ولعل الدراسة الوحيدة عن واقع التقاعد والمتقاعدين في السعودية، صدرت قبل ثلاث سنوات، وتناولت السن المناسبة للتقاعد الاجباري، وخدمات المتقاعدين واوضاعهم وكيفية الاستفادة من خبراتهم والخصائص الديموغرافية والوظيفية لهم.

وبينت الدراسة، التي اعدها كل من الدكتور علي السلطان استاذ الادارة العامة بمعهد الادارة العامة بالرياض، وابراهيم بن طالب عضو هيئة التدريس بالمعهد، وشملت عينة كبيرة من السكان، أن 51 في المائة من العسكريين، من عينة الدراسة، ترى ان سن التقاعد الاجباري المناسب للموظف المدني هو 60 عاماً، كما ان 61 في المائة من المدنيين و21 في المائة من العسكريين يرون ان سن التقاعد الاجباري المناسب للموظف هو 65 عاماً، في حين ان 22 في المائة من المدنيين و16 في المائة، من العسكريين يرون ان سن التقاعد الاجباري المناسب للموظف هو 68 عاماً، ورأى 33 في المائة من المدنيين و28 في المائة من العسكريين ان عدد سنوات الخدمة اللازمة لاستحقاق التقاعد المبكر للموظف المدني ينبغي ان تتراوح بين 15 ـ 20 عاماً، كما رأى 33 في المائة و25 في المائة من العسكريين ان عدد سنوات الخدمة اللازمة لاستحقاق التقاعد المبكر للموظف المدني تتراوح بين 21 ـ 25 عاماً، ونحو 35 في المائة رأوا ان عدد سنوات الخدمة اللازمة لاستحقاق التقاعد المبكر يجب أن تتراوح بين 26 ـ 30 عاماً. وبخصوص اتجاهات المتقاعدين نحو سن التقاعد المناسبة للمرأة العاملة، رأى 71 في المائة من الذكور و54 من الاناث، ان سن تقاعد المرأة ينبغي ان يقل عن سن تقاعد الرجل، ورأى 68 في المائة من الذكور و57 في المائة، أن سن تقاعد المرأة ينبغي ان يقل عن سن تقاعد الرجل بـ5 سنوات على الاقل. وشدد 70 في المائة من الذكور و56 في المائة من الاناث على ضرورة تخفيض سنوات خدمة المرأة الى 30 عاماً بدل 40 عاما، و39 في المائة من الذكور و58 في المائة من الاناث يرون وجوب المساواة بين الرجال والنساء تماماً في جميع خدمات التقاعد.

وفي مصر هناك اصوات تطالب بجعل التقاعد أو المعاش الكامل مستحقا عند سن الخامسة والخمسين او الخمسين بدلا من الستين حاليا، لاتاحة فرص عمل للشباب، غير ان نقاشا علميا حول سن التقاعد في مصر لم يجر حتى الان مع أن هناك مشروع قانون جديدا للوظائف العامة اعلنت وزارة التنمية الادارية ملامحه الاساسية منذ ايام، وقالت انها ستطرحه للنقاش العام على المجتمع المدنى والنقابات والاحزاب. ورغم أن القانون لم يتعرض بشكل مباشر الى سن المعاش لكنه سيعيد رسم خريطة قواعد التوظيف في الحكومة الى ابعد مدى وسيؤثر عمليا على عمر التقاعد لأنه سيجعل استمرار التعاقد مع الحكومة رهنا بمعايير وليس ابديا كما هو الآن.

وعلى عكس بلدان عديدة يطالب البعض في مصر حتى ان كانوا على استحياء بمد سن الاحالة على المعاش الى 65 عاما للعاملين في بعض الجهات الرسمية، اسوة بما حدث مع القضاة، الا ان هذا الاتجاه يرفضه الأكاديميون في مصر، نظرا لارتفاع معدلات البطالة وتكدس الاجهزة الحكومية بالعمالة، حيث يؤكد الدكتور حمدي عبد العظيم الرئيس السابق لأكاديمية السادات للعلوم الادارية، ان معدلات البطالة في تزايد مستمر، وهناك ارقام تؤكد أنها وصلت حاليا الى اكثر من 12 في المائة من قوة العمل مع ان الأرقام الرسمية تقدرها بما لا يتجاوز 8 في المائة فقط، واضاف ان مد سن الاحالة الى المعاش يعنى عدم وجود فرص جديدة للتوظيف، فضلا عن ان القيادات التي وصلت الى سن التقاعد تشكل عبئا كبيرا على موازنة الدولة وفي حالة خروج هؤلاء على المعاش يمكن توفير أكثر من أربع فرص عمل لخريجين جدد مقابل الفرد الواحد. وتحكم تحديد سن التقاعد في مصر مجموعة من القوانين، بعضها قوانين وبعضها قوانين عامة، يأتي على رأسها قانون العاملين المدنيين في الدولة رقم 47 لسنة 1978 ويحدد سن الاحالة الى المعاش للعاملين في الحكومة والهيئات العامة والادارة المحلية عند سن الستين، وبالنسبة للعمال الذين يقومون بخدمات معاونة يمكن مد السن الى 65. كما تحكم قوانين خاصة سن الاحالة الى التقاعد، يأتي على رأسها قانون القضاة وينص على احالة العاملين في السلك القضائي عند سن 68 عاما. في حين ينص قانون الأزهر على احالة الموظفين الحاصلين على الثانوية الازهرية الى المعاش عند سن 65 عاما.

وتنظم قوانين خاصة سن الاحالة الى المعاش للعاملين في القوات المسلحة والشرطة، وغالبا ما يتم احالة هؤلاء قبل سن الستين، وقد شملت التعديلات الجديدة لهاتين الفئتين إمكان احالة العامل الى التقاعد عند رتبة عسكرية معينة (غالبا لعدم الكفاءة او لأي أسباب اخرى).

ويؤكد مصدر مسؤول، رفض ذكر اسمه، لـ«الشرق الاوسط»، ان هذا لا يعني ان جميع العاملين في الدولة تتم احالتهم الى التقاعد، طبقا للسن المقررة في القوانين المعمول بها في مصر، حيث ان هناك اكثر من ثغرة يتم من خلالها مد العمل لبعض الموظفين بعد سن الاحالة الى التقاعد، تحت مسمى مستشارين. ويقول الدكتور سامي نجيب خبير التأمين والتأمينات الاجتماعية وأستاذ التأمين في جامعة القاهرة، إن العامل يحصل على معاش كامل يعادل قيمة آخر مرتب، في حالة استمراره في دفع الاشتراكات التأمينية لمدة 35 عاما، في حين يتفاوت المعاش بعد ذلك على حسب المدة التأمينية، في حالة الخروج الى المعاش قبل ان يكمل هذه المدة. أما حمد الله فهيم رئيس الادارة المركزية للبحوث الفنية والنظم البديلة بالتأمينات الاجتماعية، فيرى ان الأصل في نظام التأمين الاجتماعي هو تغطية مخاطر الشيخوخة والعجز والوفاة ويستحق معاش الشيخوخة عند بلوغ المؤمن عليه سن التقاعد (60 عاما)، باعتبار أن هذه السن هي التي يتم على أساسها تحديد الاشتراكات الواجبة على كل من العامل والمنشأة التي يعمل بها، واعتبارا من اول ابريل (نيسان) عام 1964، تم استحداث نظام المعاش المبكر، الذي يطلب صرفه قبل سن الستين.

ويضيف فهيم ان تطبيق برنامج الخصخصة أدى الى زيادة حالات صرف المعاش المبكر، التي انعكس أثرها السلبي على فوائض صناديق التأمين.

ويصل اجمالي المصريين الذين يصرفون المعاشات حاليا حوالى 7.6 مليون شخص، منهم 5 ملايين كانوا يعملون بالحكومة ومليونان بالقطاع الخاص و600 الف شخص بقطاع الأعمال العام.

وفي لبنان ينص قانون العمل على ان سن التقاعد هو 64 سنة للذكور والاناث على السواء، وكذلك قانون الموظفين الاداريين، لكن الاجير المنتسب الى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي سواء كان في القطاع العام او الخاص يمكنه ان يقبض تعويضه من الصندوق بعد مرور 20 سنة على وجوده في العمل.

ويختلف قانون الموظفين عن قانون العمل أن الاول يعطي الموظف في القطاع العام حصانة ولا يمكن صرفه من العمل الا في حال ارتكابه مخالفات تستدعي احالته الى المجلس التأديبي، اما قانون العمل فيتيح لصاحب العمل صرف العامل قبل سن التقاعد لاسباب قاهرة.

ويختلف القانونان ايضا في ان الموظف في القطاع العام يخير بين تقاضي راتب تقاعدي او تعويض صرف من الخدمة عند بلوغه السن القانونية، اما العامل في القطاع الخاص فيتقاضى تعويضا فقط من دون الخيار الثاني.

وكانت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الحالية قد طرحت، بضغط من بعض الهيئات الاقتصادية، فكرة اعتماد التعاقد الوظيفي في القطاعين العام والخاص بهدف تخفيف الاعباء على خزينة الدولة وعلى المؤسسات الخاصة، في ظل الظروف القائمة على المستويين العام والخاص، لكن هذه الفكرة لقيت معارضة قوية من الاتحاد العمالي العام وبعض الفئات السياسية.

كما سبق للحكومة اللبنانية ان طرحت فكرة خفض سن التقاعد في القطاع العام من اجل التخلص من الموظفين الكبار في السن تخفيفا للاعباء، وادخالا للدم الجديد في الادارة، لكن هذه الفكرة لم تلق التجاوب المطلوب من النواب بصورة خاصة.

اما بالنسبة الى الاسلاك العسكرية (جيش، قوى أمن داخلي، أمن عام وغيره) فتختلف سن التقاعد عما هي في قانوني العمل والموظفين، كما انه يختلف بحسب الرتب. فبالنسبة للافراد سن التقاعد 45 سنة قابلة للتجديد في حالات استثنائية، وللرتباء سن 48. وبالنسبة الى الضباط فتبدأ سن التقاعد في الخمسين للملازم، و51 للملازم اول، و52 للنقيب، و53 للرائد، و54 للمقدم، و56 للعقيد، و58 للعميد، و59 للواء، و60 للعماد. متى يتقاعد الانسان؟ سؤال سيحافظ بالتأكيد على أهميته وحتى استراتيجيته، خصوصا في الدول الصناعية الكبرى التي تواجه تحدي الافول السكاني وتبعاته الخطيرة على معادلة سوق العمل والمعاشات، فأعداد سكان الاتحاد الاوروبي مثلا تتراجع بواقع 900 ألف نسمة كل عام، مما يحتم الاستنجاد بالعمالة الاجنبية في محاولة يخشى الكثيرون ان تكون يائسة ومتأخرة للحفاظ على المكسب الكبير لنظام التقاعد، الذي تحقق مع بروز «دولة الرعاية الاجتماعية»، بعد الحرب العالمية الثانية.

شارك في الموضوع من الرياض: بدر الخريف ومن القاهرة: حسام سليمان ومن بيروت: مارون حداد