الرق والتعويضات والاعتذارات

ظهرت في الماضي حركات لتعويض الرقيق بتأسيس دولة لهم فأسس الأميركيون ليبريا وأسس البريطانيون سيراليون

TT

كتب توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا، يوم الاثنين الماضي رأيا في مجلة «نيو نيشن» التي تصدرها الجالية الكاريبية السوداء في بريطانيا، أعلن فيه «أسفا عميقا» على دور بريطانيا في تجارة الرقيق التي ازدهرت، خاصة من أفريقيا الى الأميركتين، خلال ثلاثمائة سنة، حتى القرن التاسع عشر.  ورغم أن بلير لم يقدم اعتذارا رسميا كاملا، فقد اعتبر أسفه حدثا تاريخيا، وقال: «صعب جدا أن يصدق الشخص أن ما يعتبر اليوم جريمة ضد الإنسانية كان قانونيا في ذلك الوقت».   وربط بلير بين إعلانه واقتراب مرور مائتي سنة على قانون إلغاء الرقيق البريطاني الذي صدر في سنة 1807.  وقال: «أؤمن بأن هذه الذكرى ستوفر لنا فرصة لنقول، ليس فقط أن تجارة الرقيق كانت مخجلة جدا، وإننا ندينها إدانة كاملة، ونثني على الذين حاربوا من اجل إلغائها، ولكن، أيضا، لنعبر عن أسفنا العميق لأن تجارة الرقيق ما كان يجب أن تحدث أبدا، ولنعبر عن فرحتنا للأيام الأفضل التي نعيشها في الوقت الحاضر».

لكن منظمات بريطانية سوداء انتقدت إعلان بلير، وقالت إنه لم يلب طلبين أساسيين لهذه  المنظمات، وهما: الاعتذار (وليس فقط إعلان الأسف)، والتعويض المالي لأحفاد الرقيق. وقال كوفي كلو، المسؤول في منظمة «رانديفو اوف فكتوري» (موعد النصر): «إن بلير لم يكرر حتى الاعتذار الذي جاء في قانون إلغاء الرقيق البريطاني قبل مائتي سنة». وقالت بيث هيرسفيلد، المسؤولة في «أنتي سليفاري انترناشونال» (منظمة مكافحة الرق العالمية): «إن على الحكومة البريطانية أن تواجه آثار تجارة الرقيق، وأن تعمل لإنهاء الرقيق في كل العالم».

لكن د. كارول سوين، أستاذة العلوم السياسية في جامعة فاندربلت بولاية تنيسي الأميركية، ومؤلفة كتاب «الوطنية البيضاء الجديدة في أميركا»، قالت لـ«الشرق الأوسط»: «أؤيد الاعتذار، وأعارض التعويض». وبنت معارضتها على الآتي:

ـ أولا، «يحدد القانون سنوات المطالبة بالتعويض عن ضرر أو أذى لحق بأي شخص.  ولا يشمل تجارة الرقيق التي حدثت قبل مئات السنين».

ـ ثانيا، «حتى، افتراضا، إذا لم يحدد القانون سنوات المقاضاة، لا يوجد شخص حي اليوم تاجر بالرقيق، ويمكن استدعاؤه للمثول أمام محكمة».

ـ ثالثا، «حتى، افتراضا، إذا وجدنا شخصا حيا تاجرا بالرقيق، فإنه يستطيع أن يقول إن تجارة الرقيق كانت قانونية، حتى ألغاها الدستور في التعديل الثالث عشر».

ـ رابعا، «حتى، افتراضا، إذا وجدنا شخصا حيا تاجرا بالرقيق، سنحتاج إلى من يثبت التهمة ضده.  معنى ذلك أننا نحتاج إلى رقيق أحياء».

وقالت د. سوين، وهي سوداء، إنها تفهم شكوك منظمات البريطانيين السود والأفارقة في اعتذار بلير، وتفهم أن بلير كان يجب أن يختار كلماته بحذر حتى لا يتورط في مشاكل قانونية،   وتفهم توتر العلاقات بين البيض والأقليات العرقية في بريطانيا بسبب مشاكل الهجرة والبطالة والإرهاب والجريمة.  لكنها «سعيدة» لأن رئيس وزراء بريطانيا اعتذر رسميا، وبمناسبة مرور مائتي سنة على قرار بريطانيا إلغاء تجارة الرقيق.

ورغم ان تجارة الرقيق ارتبطت بأفريقيا وبالسود، لم يكن الحال كذلك في الماضي البعيد. فقانون حمو رابي (أول قانون مكتوب) اعتبر الرقيق تجارة مثل تجارة المحاصيل. وتاجرت الامبراطورية الرومانية في الرقيق، وغزت دول شرق أوروبا (الحالية) لجمع «السلاف»، وهو أصل اسم الشعوب السلافية الحالية، وأصل كلمة «سليف» في اللغة اللاتينية. وبعد الحرب العالمية الأولى، فرق قانون دولي بين «رقيق رسمي» تعترف به الحكومة وتنظمه، و«رقيق اجتماعي» يملك فيه شخص آخرين.  وبعد الحرب العالمية الثانية، حسمت منظمة العمل الدولية الموضوع عندما منعت كل «عمل إجباري» (ما عدا التجنيد العسكري، وتشغيل المسجونين). لكن، ظهرت نظريات استعملت كلمة «رقيق» بمعان أخرى، فقد وصف شيوعيون واشتراكيون رفض النظام الرأسمالي إعطاء العمال أجورا عادلة بأنه «رقيق اقتصادي».

ووصف ليبراليون متطرفون إجبار حكومات لمواطنيها على دفع ضرائب بأنه «رقيق ضرائبي». ووصف معادون للحروب تجنيد حكومات لمواطنيها بأنه «رقيق عسكرى». ووصفت قائدات متطرفات في حركة تحرير المرأة سوء معاملة الرجال للنساء، واعتبارهن أجسادا فقط، بأنه «رقيق جنسي». ودافعت، مؤخرا، مارجوري سبيغل، مديرة معهد الوعي بالأرض، ومؤلفة كتاب «مقارنة مخيفة: الرقيقين البشري والحيواني» عن الحيوانات، وقالت إن الناس تسترقّها، كما هو واضح من اسم الكتاب.

ومثلما شهد التاريخ تجارة الرقيق وامتلاكهم واستعبادهم، شهد تحريرهم ومحاولات تحريرهم. وقادت الكتب السماوية حركة تحرير الرقيق، وقاد «سبارتاكوس» تمرد رقيق روما ضد الامبراطورية الرومانية، وقاد علي بن محمد تمرد زنج العراق ضد الخلافة العباسية، وقاد قطب الدين أيبك تمرد مماليك الهند ضد الحكم الغوري، وقاد عز الدين أيبك تمرد مماليك مصر ضد الحكم الأيوبي، وقاد توساند كورفيشير تمرد رقيق هايتي (في البحر الكاريبي) ضد الحكم الفرنسي، وهزم قوات نابليون، وأسس أول دولة سوداء في الدنيا الجديدة، قبل سنتين من قانون إلغاء تجارة الرقيق في بريطانيا. وكان الفرنسيون سبقوا البريطانيين بعشر سنوات الى إلغاء تجارة الرقيق، وذلك بفضل الثورة الفرنسية، قبل القانون بعشر سنوات تقريبا. لكن، سبق الفرنسيين والبريطانيين الأميركيون الذين عدلوا دستورهم وألغوا الرقيق بعد ذلك بنصف قرن تقريبا. (بعد حرب أهلية قتلت أكثر من نصف مليون أميركي من ولايات الجنوب التي مارست تجارة الرقيق ومن جنود الحكومة الفيدرالية بقيادة الرئيس أبراهام لنكولن، محرر العبيد).

وتأخر الأميركيون في وضع قوانين تمنع الرقيق، لكنهم كانوا أول من وضع قوانين لتعويضهم. بدأ ذلك، سنة 1865، الجنرال وليام شيرمان، قائد القوات الفيدرالية الذي هزم ولايات الجنوب الكونفدرالية الانفصالية، وحول ملكية نصف مليون فدان قرب مدينة شارلستون (ولاية ساوث كارولينا) من الاقطاعيين الى أربعين ألف رقيق أسود بعد أن أعتقوا. لكن، ظهرت في الوقت نفسه في اميركا وفي بريطانيا، حركات لتعويض الرقيق بإعادتهم الى أفريقيا وتأسيس دولة لهم (أسس الأميركيون ليبريا، وأسس البريطانيون سيراليون).

لم يكن هذا النوع من التعويض كله عنصريا، أي أن الهدف الرئيسي لم يكن التخلص من السود، وذلك لأن بعض السود، خصوصا سود حي هارلم في نيويورك، قادوا حركة العودة إلى «أمنا أفريقيا». وبالاضافة إلى التعويض، ظهر موضوع الاعتذار. لكن، اختلف الناس في معنى الاعتذار: هل هو مثل «أنا آسف»؟ هل يكفي هذا؟ متى يكون الأسف حقيقيا؟ ماذا عن تحمل المسؤولية؟ ألا يفتح تحمل المسؤولية الباب أمام المطالبة بتعويض؟

وماذا عن طلب المغفرة؟ ألا يغني طلب المغفرة عن التعويض؟

وقبل عشر سنوات، ذهبت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية الى الهند، وزارت أمريستار، حيث وقعت مذبحة قبل ثمانين سنة عندما كانت الهند مستعمرة بريطانية، وقتل الجنود البريطانيون أربعمائة من المتظاهرين المدنيين الذين كانوا يطالبون بالحرية. لم تستعمل الملكة كلمة «أسف»، ولا كلمة «اعتذار»، لكنها وقفت أمام قبور القتلي، وانحنت، ووضعت باقة زهور، وصمتت لدقيقة. وفسرت الصحف البريطانية ذلك بأنه «طلب مغفرة»، وقالت إن معناه عدم دفع تعويض.

وقبل ثماني سنوات، زار بريطانيا امبراطور اليابان أكيهيتو، وخاطب أسرى بريطانيين كانت اليابان اعتقلتهم، ثم أطلقت سراحهم، خلال الحرب العالمية الثانية. قال انه «آسف»، لكنه تحاشى استعمال كلمة «اعتذار»، وذلك خوفا من أن يستغلها أسرى الحرب، ويرفعون قضايا تعويض ضد السفارة اليابانية في بريطانيا.

وقبل خمس سنوات، زار البابا يوحنا بولس السادس إسرائيل، ووقف أمام حائط المبكى ووضع في جحر في الحائط صلاة مكتوبة طلب فيها المغفرة من اليهود على قرون وقرون من سوء معاملة الفاتيكان لهم. لكن، لم يستعمل البابا كلمة «آسف» ولا كلمة «اعتذار»، بل استعمل كلمة «حزن» على ما حدث، وطلب «مغفرتكم». انتقد ذلك بعض اليهود، لكن الفاتيكان اعتبر أن طلب المغفرة هو أعلى مراحل الاعتذار (بالإضافة إلى انه يلغي دفع أي تعويض مالي).

وكان الرئيس بيل كيلنتون أول رئيس أميركي يعتذر عن تجارة الرقيق، واعتذر، أيضا، الرئيس الحالي بوش، لكنهما فعلا ذلك بطرق معينة، يبدو أنهما تعمداها، وخططا لها مسبقا. فقد اعتذر كلينتون قبل عشر سنوات خلال جولة في دول أفريقية عن تجارة الرقيق ودور أميركا في نقلهم وشرائهم وبيعهم. لماذا اعتذر في أفريقيا وليس في أميركا؟ لأنه خاف من أن أي اعتذار داخل اميركا سيفتح الباب أمام السود (أحفاد العبيد) ليطلبوا تعويضات من الحكومة الأميركية.

وقبل سنتين طلب الرئيس بوش المغفرة عن تجارة الرقيق عندما زار جزيرة «غوري» التي كانت نقطة وصول الرقيق الى أميركا، ويعتقد أن كل سكانها في الوقت الحاضر أحفاد رقيق. لكن، لم يعتذر بوش. قال: «جعل الرقيق المسيحيين والمسيحيات يخرقون تعاليم الكتاب المقدس، ويتحولون الى منافقين». معنى هذا أن بوش كان يطلب المغفرة، لأنه تحدث في محتوى ديني.

وإذا فسر كلام بوش بأنه «اعتذار»، كان اعتذارا شخصيا أكثر منه رسميا (خاصة أن بوش يميل نحو إظهار عقيدته المسيحية). وإذا فسر بأنه «أسف»، لم يكن بوش أول رئيس يتأسف على تجارة الرقيق، فقد تأسف قبله بسنتين الرئيس كلينتون، وتأسف قبلهما بأكثر من مائتي سنة الرئيس جون آدامز.

وقالت د. كارول سوين لـ«الشرق الأوسط»: «ليس المهم أن يكون اعتذارا أو أسفا، وليس المهم أن يكون داخل أميركا أو خارجها. وليس مهما أن يكون وسط أحفاد الرقيق أو أحفاد تجار الرقيق. أهم شيء أن يكون الاعتذار رسميا». وفسرت ذلك بأنه يجب أن يكون قرارا من الكونغرس يوقع عليه رئيس الجمهورية.

لماذا؟ قالت إن الاعتذار، في هذه الحالة، سيكون باسم الشعب الأميركي، ولن يقدر شخص على أن يقول إنه لم يشترك في تجارة الرقيق، أو أنه هاجر الى أميركا مؤخرا. سيتساوى الذين يعتذرون بالذين يعتذر لهم. وأضافت «إن ميزة الاعتذار الوطني من الكونغرس والبيت الأبيض هي أنه سيكون ردا على ظلم وقع باسم الوطن. لن يجرم مثل هذا الاعتذار أي شخص، لكنه سيفتح صفحة جديدة في العلاقات بين أبناء الشعب الواحد».

وقالت إنها تعتقد أن الرئيس بوش هو أكثر رؤساء أميركا قدرة على المشاركة في الاعتذار الوطني لأنه واحد من أكثر رؤساء أميركا تدينا، ويقدر على أن يضع الاعتذار في قالب ديني أو إنساني. كما أنه لن يترشح للرئاسة مرة أخرى، ولهذا فلن يقول أي شخص إنه اعتذر (أو لم يعتذر) لكسب أصوات ناخبين أو مرشحين. لكن، لا الكونغرس أصدر الاعتذار، ولا الرئيس بوش وقع عليه. ويبدو أن هناك خوفا حقيقيا من أن يفتح أي اعتذار رسمي من الكونغرس الباب أمام السود ليطلبوا تعويضات مالية.  من معالم تجارة الرقيق

* جزيرة «غوري» تعد واحدة من أوائل الأماكن الأفريقية التي سكنها الأوروبيون. فقد سكنها البرتغاليون سنة 1444، ثم الهولنديون، وهم الذين سموها «غوري»، على اسم جزيرة في هولندا. ثم سكن فيها البريطانيون، ثم الفرنسيون الذين سلموها الى حكومة السنيغال عندما نالت استقلالها سنة 1960. وفيها «منزل الرقيق»، وهو المكان الذي كان يسجل فيه الرقيق عند وصولهم إليها استعدادا للإقلاع من أفريقيا في سفن شراعية عملاقة. أصبح المكان في الوقت الحاضر متحفا. وشهد عصره الذهبي خلال سنوات ما قبل الحرب الأهلية. لكن، لم تكن الجزيرة مركزا لتجارة الرقيق، مثل جزيرة زنجبار (على الساحل الشرقي لأفريقيا)، بل كانت مركزا لنقلهم، لأن تجار الرقيق الأوروبيين والأميركيين تعاقدوا مع تجار رقيق أفارقة لمطاردة الرقيق، واعتقالهم، وإحضارهم الى «المستعمرة الأوروبية» استعدادا لنقلهم عبر المحيط الأطلسي. وكانت معظم السفن التي تقلع من هناك تبحر الى البحر الكاريبي، حيث زادت الحاجة إلى العمال في مزارع السكر، أو الى ساحل خليج المكسيك، مثل ولاية لويزيانا، لينقلوا للعمل في مزارع القطن.

رقيق مشهورون:

1 ـ ميغيل دي كرفانتس: كان رقيقا لقبائل البربر في شمال أفريقيا، وألف في وقت لاحق، كتاب «دون كيشوت».

2 ـ بلال بن رباح: حبشي اعتنق الإسلام، وكان مؤذن رسول الله، ومن الصحابة.

3 ـ جون براون: هرب من سيده في الجنوب الأميركي، وألف كتابا عن فضائح تجارة وامتلاك الرقيق.

4 ـ فردريك دوغلاس: رقيق أُعتق، وأصبح كاتبا وسياسيا ضد الرقيق.

5 ـ إنريك، عبد فردناند ماجيلان، أول من أبحر حول الكرة الأرضية.

6 ـ جوان مانزانو: رقيق في كوبا، اعتق وألف دواوين شعر.

7 ـ هارييت توبمان، عبدة في ولايات الجنوب الأميركي ساعدت زملاءها على الهروب الى ولايات الشمال.

8 ـ دريد سكوت، أول أميركي رفع قضية وصلت حتى المحكمة العليا لإجبار سيده على إعاتقه.

أفلام عن الرقيق:

1 ـ «جذور»: أليكس هيلي 2 ـ «احرق»: مارلون براندو 3 ـ «مسيسبي تحترق»: جين هاكمان 4 ـ «سبارتاكس»: ستانلي كوبريك 5 ـ «أمستاد»: ستيفن سبيلبيرغ