حرب السودان الإقليمية

الترابي اعترف بعد خلافه مع البشير بأن النظام خطط لتغيير أنظمة دول أفريقية بـ«الانقلابات أو الانتخابات»

TT

ككرة ثلج.. سرعان ما كبرت قضية دارفور من قضية مراع ومياه بين القرويين إلى ساحة جدال عالمية تتقاطع فيها المصالح.. وتنذر ببوادر حرب إقليمية أوسع رغم نشوبها فعليا بين 3 عواصم تخوضها بالوكالة. فبعد 3 سنوات من اندلاع شرارتها عام 2003، ولجت القضية كل المحافل الدولية وطرقت ابواب الامم المتحدة ومجلس الامن الذي أصدر حولها عددا من القرارات، وباتت الأزمة الأسوأ إنسانياً في العالم من وجهة نظر الأمم المتحدة، ومن أجلها قد يصبح أكثر من 52 مسؤولا سودانيا رفيعا في نظام الإنقاذ الوطني مُطارداً باتهامات من قبل العدالة الدولية في لاهاي بارتكاب جرائم حرب.

وليس جديدا أن يقال إن الأزمة باتت قاسما مشتركا في أجندة أيِّ اجتماع، دوليا كان أو إقليميا يتناول قضايا القارة السمراء. وتعتبر منطقة دارفور من المناطق الحدودية السودانية الغنية بالثروات، إذ تحدها من الغرب دولة تشاد ومن الجنوب الغربي أفريقيا الوسطى وهذه الحدود ممتدة على طول اقليم دارفور.

والآن باتت أزمة دارفور تنذر بنشوب حرب إقليمية، في أحد فصولها الأكثر حرجا. وظهرت بوادرها من خلال الاضطرابات التي تشهدها تشاد حاليا، وقيام المتمردين فيها بالاستيلاء على إحدى المدن الحدودية مع دارفور، وتقدمهم نحو العاصمة، واتهام انجامينا للخرطوم بدعم هذه القوات. ورغم أن السودان نفى هذه الأنباء، إلا أنه في المقابل وجه الاتهامات لقوات الرئيس التشادي ادريس ديبي بمساندة قوات جبهة الخلاص التي يقودها عدد من حركات دارفور المناوئة للخرطوم رغم نفي انجامينا ذلك. وخلال الأسابيع الماضية، أرسلت تشاد جنودا لدعم قوات الحكومة في أفريقيا الوسطى التي تقاتل من اجل تغيير النظام في بانغي. ويتهم البلدان السودان بدعم التمرد لقلب نظام رئيس أفريقيا الوسطى فيلكس بوزيزي. وهكذا يمكن الحديث عن حرب اقليمية مشتعلة، ولكن تخوضها العواصم الثلاث بالوكالة. وتبدو دارفور ومواطنوها على خلفية هذه الصراعات هي الخاسر الأكبر. ورغم تأكيد الرئيس السوداني عمر البشير في مؤتمره الصحافي عبر الاقمار الصناعية مع الصحافيين يوم الاثنين الماضي ان الازمة في طريقها للحل قريبا، إلا ان بوادر ذلك لم تلح في أفق دارفور بعد. فحكومة الخرطوم لا تزال ترفض نشر قوات دولية ينادي بها المجتمع الدولي، في وقت تطرق فيه الازمة بابا جديدا في لاهاي بإعلان محكمتها الدولية عن ان لائحة الاتهامات ضد 52 مسؤولا سودانيا باتت جاهزة، وانها تملك من الوثائق ما يتيح لها توجيه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الانسانية. وفي حال تم ذلك، فان بابا جديا من حرب التصريحات سيندلع، ليؤخر بعض الحلول الجادة التي تطلق باستحياء، ومنها اطلاق مفاوضات جديدة مع الرافضين لاتفاق ابوجا للسلام في دارفور من المسلحين من ابناء الاقليم السوداني المضطرب. ورغم المصالحات العديدة التي جرت بين رئيسي السودان وتشاد، والقمم الأفريقية المصغرة والكبيرة التي عقدت لتجاوز الخلافات بين الجارين الأفريقيين، إلا ان الابتسامات التي ترتسم على الشفاه والمصافحات والقبلات، لا تدوم إلا ساعات ثم تعود «حليمة الى عادتها القديمة» كما يقول المثل، ويستمر الصراع على الارض بوتيرة اسرع واكبر. ويعلق البعض الفشل على تشعب المصالح الاقليمية والعالمية والشخصية والقبلية في المنطقة، مما يؤدي الى صعوبة التوصل الى حلول.

وفي المقابل، فان تململ رئيس أفريقيا الوسطى من الوقوف في جانب الحياد بالنسبة للصراع في دارفور، لم يصمد كثيرا اثر الضغوط القبلية في الداخل والاقليمية والدولية، مما جعله يقف مساندا الرئيس التشادي، خصوصا وسط معلومات من ان الخرطوم تحرك رجال المعارضة المسلحة ضده. ولكن الصراع في هذه المنطقة الساخنة، له تاريخه وجذوره.

فالسودان لم يكن بعيدا يوما ما عن الصراع في بانغي، إذ أن الرئيس الاسبق جعفر نميري دعم بشكل كبير الامبراطور بوكاسا، وكان صديقا له ويعتقد ان ثمن تلك الصداقة ان غض نميري الطرف عن منطقة حفرة النحاس الحدودية بين البلدين والغنية بالثروات، خاصة معدن النحاس. ويوجد فيها بعض من قوات أفريقيا الوسطى بهدف حماية الحدود من تسلل المتمردين. ويعتقد مسؤولون جنوبيون سودانيون ان هذه المنطقة تقع ضمن حدود جنوب السودان ومتاخمة مع اقليم دارفور، ويتوقعون ايضا ان تشكل ازمة بين الشمال والجنوب، خلال عملية ترسيم الحدود التي يُتوقع ان تبدأ قبل إجراء الاستفتاء على تقرير المصير للجنوبيين في السودان.

وفي عهد رئيس الوزراء السوداني الأسبق الصادق المهدي (1986 ـ 1989) آزرت حكومته حليفها آنذاك العقيد معمر القذافي في إخماد تمرد في أفريقيا الوسطى لضمان عدم دعم الجيش الشعبي المتمرد في جنوب السودان ودخوله تلك المناطق الحدودية واشعال مواقع اخرى، خاصة غرب السودان في دارفور.

لكن حكومة الرئيس البشير كانت لها ادوار كبيرة في التأثير على الاوضاع في أفريقيا الوسطى كما يقول مراقبون سودانيون.. ولعل الاعتراف الصريح للدكتور حسن الترابي، زعيم المؤتمر الوطني الشعبي المعارض، بعد الفراق بينه وبين البشير اوضح ان حجم تدخل السودان في صراع جاره، بقوله في ندوة عقدها حزبه بعد الانقسام مباشرة عام 1999 في جامعة القرآن الكريم بأمدرمان، «لقد كنا نقوم كحركة اسلامية لتغيير الانظمة في العديد من الدول الأفريقية سواء بالانتخابات او بإحداث انقلاب عسكري في غرب أفريقيا».

وكانت تلك الفترة تشهد تغيرا في تشاد وأفريقيا الوسطى. وحسب مراقبين فان الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة الراحل جون قرنق قادت حملة عسكرية الى دارفور عام 1992 بقيادة داوود يحيى بولاد، وهو احد كوادر الحركة الاسلامية الذين انشقوا عنها في وقت مبكر ومن ابناء دارفور. ورغم دحر تلك الحملة وقتل قائدها إلا ان ما يثير الانتباه فيها ان قوات الجيش الشعبي جاءت بمحاذاة حدود دارفور مع أفريقيا الوسطى. ومن تبقَّى من جنود تلك الحملة عاد الى الجنوب عن طريق ذلك البلد المجاور بل ان بعضا منهم ما زال يعيش في بانغي، لذلك عمدت حكومة البشير، حسب مراقبين، إلى توثيق صلاتها بتطورات أفريقيا الوسطى وارسلت قواتها مع الجماهيرية الليبية لدعم تمرد القائد باتستا عندما فشلت احدى المحاولات الانقلابية.

ومن اسباب توتر الحدود هو الاحتكاكات القبلية على الحدود، فمثلا فان قبيلة التعايشة العربية التي تسكن جنوب دارفور في منطقة ام دافوق الحدودية كثيرا ما تشتبك مع قبيلة اليوكوما في أفريقيا الوسطى بسبب المراعي وصيد الحيوانات البرية، خاصة الافيال المنتشرة بصورة واسعة في غابات أفريقيا الوسطى التي تعتبر من اغنى دول القارة بهذا الحيوان، حيث تدر تجارة «سن الفيل» او العاج اموالا وفيرة. وكان آخر نزاع قد وقع عام 2002 وقتل فيه المئات وتم احتواؤه. لكن التمرد الذي ينشط في شرق أفريقيا الوسطى ينطلق حسب عمال الاغاثة من داخل الحدود السودانية ويمكن للمتمردين السابقين ان يعودوا لشن حملات ضد بانغي، وان تطلق الخرطوم لهم اليد باعتبار ان هناك تحالفا استراتيجيا بين أفريقيا الوسطى وتشاد يزعج السودان الذي يتهم انجامينا بانها تقف وراء متمردي دارفور. وعبر التاريخ الحديث، فان أي نظام جاء الى السلطة في تشاد إلا وكان تم نسج خططه في الخرطوم، رغم نفي الخرطوم المتواصل.. وفي ابريل (نيسان) الماضي كادت تشاد تعود الى الحرب الاهلية مرة اخرى من خلال العمليات العسكرية التي قامت بها مختلف جماعات المعارضة لكن قوات الحكومة رَدَّتهُمْ، لتسود حالة من عدم الأمن في المنطقة الحدودية المتاخمة للسودان وأفريقيا الوسطى، وكادت عمليات المعارضة المباغتة تنجح لولا تدخل القوات الفرنسية الموجودة على نطاق واسع في تشاد.

وفي الاسبوع الماضي، شنت المعارضة عمليات عسكرية مجددا على مدينة ابتشي ثاني اكبر مدن تشاد واستولت عليها لمدة وجيزة وخرجت منها في اليوم التالي. كما اسْتَعدَّتْ لشن هجوم آخر على انجامينا ولم يتم.. وعادت قوات متمردي الاتحاد الوطني للديمقراطية والتنمية، والذي يقوده وزير الدفاع الاسبق وسفير تشاد السابق لدى السعودية، محمد نوري، أدراجها. لكن عمليات الكرّ والفرّ التي تقوم بها المعارضة يمكن ان تصبح حرب استنزاف في الشمال والشرق مع جمهورية أفريقيا الوسطى.

وتميزت السنوات الست عشرة التي امضاها الرئيس ديبي في السلطة بالمحاولات الانقلابية وعمليات التمرد التي تسببت في سيل من الدماء وطرد تلك الجماعات الى السودان وأفريقيا الوسطى. واصبحت منطقة دارفور بالتالي منطقة صراعات عابرة للحدود. ويزيد من المعاناة وجود قبيلة الزغاوة التي لديها فروع كبيرة في السودان وتشاد وينتمي اليها الرئيس ديبي نفسه، كما ينتمي اليها مساعد الرئيس السوداني مني اركو مناوي، وهي قبيلة منقسمة على نفسها تقدم الدعم والملاذ لمتمردي دارفور من جهة والملاذ والمساعدة والدعم لنظام ديبي في العمليات المضادة، بينما عبر المتمردين الدارفوريين ترسل مساعدات قوية للجيش التشادي في شرق تشاد وجنوبها.

وتنقسم مجموعات المعارضة التشادية الى ثلاث مجموعات؛ الجبهة المتحدة للتغيير الديمقراطي بقيادة محمد نور الذي يلقى دعما قويا من الخرطوم، وتجمع القوى الديمقراطية؛ وهم يتشكلون من قبيلة الزغاوة يقودها تيمان ارديمي الذي كان مديرا لمكتب ديبي، والاتحاد الوطني للديمقراطية والتنمية الذي يقوده محمد نوري والذي اسس حركته بعد استبعاده من منصبه الوزاري وشن هجوما في الاسبوع الماضي. ثم الحركة من اجل الديمقراطية والعدالة التي تأسست عام 1998 وتشن عملياتها في اقصى شمال الحدود المشتركة مع الجماهيرية الليبية ويقودها محمد شوا دازي.

وبعد اتفاق سلام دارفور في ابوجا، العام الماضي، ازدادت الصراعات بين الفصائل المنشقة عن حركة تحرير السودان بعد توقيع مني اركو مناوي الاتفاقية الى جانب الصراعات القبلية والوضع المتأزم في الحدود مع تشاد، وتزايد الهجوم من ميليشيات الجنجويد المدعومة من الحكومة، وتميزت عملياتها بالارض المحروقة والقتل والسلب بدون تمييز والاغتصاب حسب ما تورده تقارير الامم المتحدة.

وتتحدث أطراف دولية اليوم عن أن توسع حرب دارفور وتشعباتها الإقليمية تهدد فعلاً بحرب إقليمية مباشرة بين الدول المتجاورة وليس بالوكالة مثلما كان حاصلا في السابق. وتقول هذه الأطراف إن هذه المخاوف تعطي عاملاً إضافيا يدعم حجج المنادين بارسال قوات دولية.

وفي هذا الصدد، حذر وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي في مقال نشرته صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية قبل أيام من أن السودان في لحظة حاسمة. وقال إن وجود القوات الدولية «حاسم إذا كنا نريد تجنب انتشار العنف ليصل إلى الدول المجاورة تدريجيا». وقال الوزير الفرنسي ان «تفكك السودان سيكون كارثة ليس فقط لأفريقيا بل لكل العالم. لا فرنسا ولا الأسرة الدولية تريد انفصال دارفور أو تفكيك الإدارة السودانية». واشار إلى ان «اتساع النزاع الذي بدأ أصلا إلى تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، ينطوي على خطر. يجب تعزيز الأمن في دارفور، ولكن أيضا على الحدود بين السودان وهذين البلدين الأفريقيين الناطقين بالفرنسية».

ولكن يبدو أن النزاع بدأ يتمدد بالفعل ويتحول إلى حرب إقليمية ساخنة قد تكون لها تداعياتها التي لن تتوقف عند حدود الدول الثلاث.