من يملك الشارع؟

احتكام الفرقاء السياسيين في لبنان إلى قوة الشارع قد ينقذ طرفا أمام طرف.. ويغرق البلد

TT

تشهد ساحات وسط بيروت منذ الأول من ديسمبر (كانون الاول) الحالي اعتصاما دعت اليه قوى المعارضة بقيادة حزب الله والتيار الوطني الحر. ونصبت الخيم في هذه الساحات، ثم تمددت وأعدت عدتها للشتاء لأنها وعدت شارعها بالاستمرار حتى تحقيق اهدافها التي بدأت بالمطالبة بحكومة وحدة وطنية مع الثلث المعطل، ووصلت الى المطالبة بانتخابات نيابية مبكرة. ولا أحد يمكنه التكهن بما ستنتهي اليه.

فريق الاكثرية بقيادة النائب سعد الحريري يرى في الاعتصام دعوة الى اسقاط رئيس الحكومة السني فؤاد السنيورة في الشارع. فاستنفر جماهيره، لكنه نقلهم الى المناطق، كأنه يريد ان يفهم «الآخرون» ان لديه شارعه. وبالتالي لن يخيفه شارعهم مهما طال زمن الاعتصام.

الشارع المسيحي في مكان ثالث، فقد عمد الى تحييد نفسه عبر ميثاق شرف باركته المرجعية البطريركية في بكركي. لكن زعيم «التيار الوطني الحر» النائب ميشال عون الذي دخل المعارضة على أمل الوصول الى سدة رئاسة الجمهورية، واستعادة صلاحيات هذا الموقع الذي همشه اتفاق الطائف، انتهى طرفا في الصراع الحالي. ويراه البعض لا يوفر مناسبة لتجييش شارعه الذي يقول انه يحتكر التمثيل الاكثري المسيحي ضد السنة الممثلين بالحريري والسنيورة. ويمكن القول ان اللبنانيين «ادمنوا الشارع» منذ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005، عندما خرجوا لتشييعه بأعداد كبيرة، ثم حولوا هذا الخروج الى مظاهرات طالب المشاركون فيها بخروج الجيش السوري من لبنان. ورفعوا لافتات وشعارات تتهم النظام المخابراتي السوري اللبناني بالجريمة. قابل هذا التحرك تحرك مضاد قاده «حزب الله» في 8 مارس (آذار) تحت شعار «شكرا سورية» ليأتي الرد من الطرف الرافض للوصاية السورية في 14 مارس (آذار)، وتشهد ساحات وسط بيروت أكبر تجمع بشري استقطب الاهتمام الدولي الذي أطلق عليه تسمية «ثورة الارز».

ترافق هذا التحرك مع تغييرات جذرية في المشهد السياسي اللبناني، كانت باكورته في 28 فبراير(شباط) 2005 استقالة رئيس الحكومة اللبنانية السابق عمر كرامي، ثم اعلان الرئيس السوري بشار الأسد انسحاب جيشه من لبنان، الذي تم في 26 ابريل (نيسان) من العام نفسه. وبعد ذلك تسارعت الاحداث لتصل الى قرار من مجلس الأمن بفتح تحقيق دولي في جريمة اغتيال الحريري.

التحرك الشعبي اسفر عن فرز جديد للقوى السياسية اللبنانية، التي انقسمت الى فريقين، حمل احدهما اسم قوى «14 آذار»، والثاني قوى «8 آذار».

عودة العماد ميشال عون في 7 مايو (أيار) 2005 من منفاه في باريس شكل دلالة على تغيير ما في خريطة القوى. فقد حشد جمهوره وأعلن عن توجهه بخطاب مخالف لخطاب حلفائه المفترضين. وسبقته بوادر الخلاف مع قوى «14 آذار» التي كان احد اركانها. ولعل تشبيه النائب وليد جنبلاط له بـ«تسونامي» كان يشير الى مآل الامور التي توجها التحالف الرباعي بين جنبلاط وسعد الحريري وحزب الله وحركة أمل، فخلط الاوراق السياسية واسفر عن خريطة جديدة للتحركات الشعبية وادى وظيفته الانتخابية واعاد نبيه بري رئيسا لمجلس النواب. الا ان استخدام الشارع تحول بعد ذلك الى سلاح خطير، كما حدث في 5 فبراير 2006، عندما نظمت مظاهرة احتجاج على الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية المسيئة للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم. فالمظاهرة التي انطلقت الى القنصلية الدنماركية في منطقة الاشرفية في شرق العاصمة اللبنانية حيث الاكثرية المسيحية، تحولت الى اعمال شغب، واسفرت عن احراق مبنى القنصلية واعتداءات على الاملاك والمواطنين. وادت الى استقالة وزير الداخلية حسن السبع. وغداة هذه الحادثة أعلن «رئيس التيار الوطني الحر» النائب ميشال عون والأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ورقة تفاهم قلبت الطاولة السياسية في لبنان ودقت المسمار الأبرز في نعش التحالف الرباعي لتتغير خريطة التحركات الشعبية مرة جديدة.

الشغب عاد في الاول من يونيو (حزيران) 2006 ليعطي مؤشرا الى موازين القوى في الشارع، وذلك اثر تناول شخص الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بأسلوب ساخر في برنامج انتقادي، ما أدى الى خروج مناصريه من ضاحية بيروت الجنوبية، ليحتجوا بقطع طريق المطار وحرق السيارات ومحاولة اقتحام مناطق ذات غالبية سنية ومسيحية. الأمر الذي تصدى له الجيش اللبناني، ما استدعى تدخل نصر الله ليشكر الذين خرجوا «عفويا» ويطلب اليهم مغادرة الشارع. يقول الوزير والنائب السابق محمد عبد الحميد بيضون: «إن قراءة الشارع تعيدنا الى قراءة اتفاق الوفاق الوطني في الطائف بطبعته السورية ووقعه على الطوائف اللبنانية. فمسيرة الحرب التي عاشها لبنان من العام 1975 الى العام 1989، شهدت تحولا اساسيا لدى الشيعة والموارنة، فتعسكرت الطائفتان. وعندما دخلتا في الاتفاق لم تتخليا عن العسكرة. في حين بقيت الطائفة السنية مدنية بقيادة الرئيس الراحل رفيق الحريري. والنظام الامني الذي ساد عسكر الحياة السياسية. وعندما حصل الخروج السوري من لبنان، شهدنا ظاهرة 8 مارس (آذار) التي ترجم الشيعة من خلالها خوفهم بعد زوال الغطاء الامني، الذي كان يحميهم. وحسبوا انهم حققوا انجازا. لكنهم ايقظوا حالة العسكريتاريا لدى سنة لبنان. والشارع الذي يتحرك اليوم هو شارع معسكرات. كذلك الاعلام كما نلاحظ مع محطتي المنار والمستقبل التلفزيونيتين». استاذ علم الاجتماع الدكتور طلال عتريسي يقول: «في السنوات القليلة الماضية اصبح استخدام الشارع أكثر شيوعا مما كان عليه في السابق. وحاليا هو الوجه السلمي للحرب ولكن بوسائل اخرى. بمعنى ان الشارع هو تعبير عن انسداد الافق في الحوار السياسي في لبنان. وكل طرف فيه يعتقد ان بقاءه يرتبط بإظهار حجم القوة التي يملكها وقدرته على الضغط على الطرف الآخر من خلال الشرعية الشعبية». الكاتب والحقوقي والمحلل السياسي اسامة العارف يقرأ الموضوع من زاوية أخرى. ويقول: «يأتي تحرك حزب الله ليس لاسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وإنما لأنه وصل الحزب الى مرحلة شلل على صعيد المقاومة بعد شعوره بالاضطرار للموافقة على القرار الدولي1701، وبالتالي يريد الوصول الى معادلة أخرى في السلطة اللبنانية، تجعله ينقلب على القرار الدولي. والأمر غير ممكن مع استمرار الحكومة الحالية». لكن العارف لا يعتبر أن استخدام حزب الله الشارع هو دليل افلاس. «فالحزب تمكن من تحقيق نجاحات كبيرة عبر خطاب موجه الى جمهوره الشيعي وجيّش هذا الجمهور داعيا اياه لقطف ثمار الانتصار في الداخل اللبناني، كي لا يبقى مهمشا. وهذا التجييش جعل الجمهور الشيعي كالحرس الحديدي، متمسكا بما يحدده الحزب. ولا يوجد في المنظور القريب إمكانية لإحداث تغيير في ذهنية هذا الجمهور. وتقديري أن التحرك الحالي في الشارع سيؤدي الى انهيار الاقتصاد اللبناني وتحوله في السنوات المقبلة الى اقتصاد يقوم على المساعدات، كما هي حال الاقتصاد الفلسطيني».

عتريسي يبرر التحرك برؤية مغايرة. ويقول: «سبب تلبية الناس وبإعداد كبيرة دعوة الزعماء للنزول الى الشارع سببها ما يشهده لبنان من حملات اتهام اطراف داخلية، بأنها غير وطنية أو عميلة او مرتهنة لأطراف خارجية ولا تستحق المشاركة. وهذه الحملات خلفت حالة من العصبية لدى فئات عديدة تنتظر من يحفزها للتعبير عن رفضها، ليس فقط من اجل اسقاط الحكومة، وانما لتعترض على اتهام الفريق الآخر لها، وتحديدا اللبنانيين الشيعة الذين يتعرضون منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) الماضي لادانة ضمنية احيانا وعلنية احيانا أخرى، باعتبار النظام السوري متهما في هذه الجريمة وهم مصنفون انصارا لهذا النظام. وبالتالي مصنفون خارج الاجماع الوطني اذا لم ينصاعوا الى شروط من يتهمهم بذلك».

لكن الجديد في ظاهرة النزول الى الشارع هي في شموليتها الطائفية. الامر الذي لم يعرفه لبنان في الماضي. ويستعيد العارف تاريخ المظاهرات في لبنان، فيقول: «التظاهر الذي رافق حصول لبنان على استقلاله في العام 1943 كان يستند الى اسباب مطلبية، وتقوده الاحزاب والنقابات اللبنانية الصرف. وقد أسفر في العام 1946 عن اقرار قانون العمل. لكن هذه الصيغة تغيرت بعد العام 1948 لتصير سياسية بعد قضية فلسطين التي فتحت الباب بشكل واسع امام التحرك الذي لم يعد لبنانيا فقط، وانما دخل عليه العامل الفلسطيني والاحزاب ذات الطابع القومي. وكان الطلاب يلعبون الدور الاساسي، فيعطون التحرك في الشارع زخمه القوي، مع الاشارة الى ان اي تحرك طلابي لم يكن يؤتي ثماره ما لم يشارك فيه طلاب الجامعة الاميركية الذين يضخون فيه قوة معنوية لأنهم شكلوا مشاريع قادة ليس في لبنان فقط وإنما في العالم العربي».

ويذكر العارف بأن التحرك الشعبي في بيروت بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، واجهته قوى الأمن الداخلي بقوة وعنف. حينها نال رئيسا الحكومة الراحلين صائب سلام وعبد الله اليافي نصيبهما فجرحا خلال المواجهة. وتم نقلهما الى المستشفى. ويتوقف عند مظاهرة عام 1958 التي وصلت الى حد عنيف، اذا ترافقت مع ارتفاع المتاريس من دون ان يعرف احد كيف حضرت اكياس الرمل. آنذاك قمع الجيش اللبناني المتاريس بالمدافع لمنع تحول التظاهر عن هدفه السلمي.

ويعتبر ان تظاهرة 23 ابريل (نيسان) عام 1969 تحت شعار «حرية العمل الفدائي» كانت نقطة تحول في تحركات الشارع اللبناني «لانها قضت بشكل شبه نهائي على زعماء الاحياء في لبنان ووضعت الشارع تحت سيطرة القوات الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين بدأ خضوع القوى السياسية اللبنانية للوجود الفلسطيني في لبنان. اما مرحلة التحول الثانية فحصلت عام 1973 عندما افشل الشارع مشروع رئيس الحكومة السابق الدكتور امين الحافظ، الذي كان يمثل وجهة نظر، تبين في المدى البعيد انها صحيحة، لكن القوى المتأثرة بالثورة الفلسطينية، لم تكن تنتبه للضرر الذي احدثته بفعل مسها بالسيادة اللبنانية بشكل قاس، واكتشف الامر بعد ذلك».

أما اليوم فقد تغيرت الصورة. ويوضح عتريسي السبب فيرده الى «ان اللبناني لم ينج من الطائفية. وبالتالي التحريض المذهبي يوظف في المعركة السياسية. واللغة المستخدمة في الاشهر القليلة الماضية داخل المنازل تدفع الناس للنزول الى الشارع، ليس مرة واحدة، وانما عشرات المرات«. ويحمّل عتريسي الاعلام التحريضي المسؤولية «فالاعلام في المرحلة الحالية متفلت من اي ضوابط او حدود. والنتيجة نراها في الاعتصام عند الجمهور الشيعي المتوتر والمتحمس اكثر من قادته». اسامة العارف يرى «أن ايران ترمي بثقلها لاحداث تغيير في الساحة السياسية اللبنانية مهما كان الثمن، اضافة الى أن سورية في تعتبر المحكمة الدولية قضية حياة او موت. وهما تستخدمان الشارع المؤيد لهما لتحقيق اهدافهما. في حين أن القوى التي تدعم الشرعية اللبنانية قاصرة وغير قادرة على النزول بثقلها الى الشارع لمعرفتها ان استخدام شارعها في هذه المرحلة سيؤدي الى حرب أهلية».

ويضيف: «قوى الاكثرية لم تكن مستعدة لهذا النوع من المواجهة. وكان على الحكومة ان تصدر قرارا بمنع التجول لمنع هذا الاعتصام الاستفزازي». لكن عتريسي يعتقد «ان الاعتصام والتظاهر لن يتسببا بحرب أهلية. والتحريض الاعلامي لن يؤدي الى فتنة داخلية. ولو كان الامر ممكنا لحدث. قبل عشرة أيام كنت قلقا على كل المستويات. لكن اتضح ان لا أحد لديه مصلحة في انفجار فتنة وحرب اهلية لأن الخسارة ستكون شاملة ولن ينتصر أحد». وعن ايجابيات استمرار الاعتصام فترة طويلة وسلبياته، يقول: «المعروف ان البقاء في الشارع لفترة طويلة يفقد مفعوله. لكن علينا ان ننتظر لنرى اذا كان يشكل ضغطا ام لا. الوقت عامل سيئ اذا لم يظهر الازمة التي تعيشها السلطة. وبقدر ما يزعجها الاعتصام بقدر ما يحقق اهدافه. المسألة اشبه بعملية عض الاصابع».

لكن التجربة اللبنانية لا تسمح بهذا التفاؤل، فتصعيد المواقف وانعكاسها شللا على الوضع الاقتصادي سيسمح للآلاف بالعودة الى الفوضى ليحكموا زواريبهم ويستعيدوا مجدهم الميليشياوي الذي ضاع مع ارساء اسس السلم الاهلي. ولعل ارتفاع اسعار الاسلحة في لبنان مؤشر لا يستهان به في هذا الاطار. ونشاط الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى للحؤول دون تدهور الوضع والوصول الى حل أو حتى الى هدنة طويلة له ما يبرره.

الوزير بيضون يوافق على خطورة الوضع. ويعتبر «أن الانزلاق الخطير في هذا التحرك تتحمل مسؤوليته الاكثرية التي ارتكبت خطأ كبيرا لانها لم تؤسس لمشروع دولة واعتمدت على معادلة شارع مقابل شارع. والانزلاق الخطير الثاني هو لدى حزب الله الذي جر الى هذه الخطوة التي تهدد بانهائه كمقاومة ايضا لغياب مشروعه الداخلي».

ويرى «ان تركيب عقل المحاصصة على جسم المقاومة سيجر الحزب الى حرب أهلية. والخروج من هذه الازمة يتطلب صيغة تؤمن حفظ ماء وجه حزب الله، اي قبول الاكثرية بتضحية على صعيد الثلث المعطل في الحكومة، على ان تعوض تضحيتها بمشروع فاعل لبناء الدولة».

ويدين بيضون استخدام الشارع من قبل «حزب الله» و«تيار المستقبل» معتبرا «أن ضبط الشارع مستحيل اذا استمر الوضع على حاله، لأنه محكوم بالرعب وخائف على نفسه. فالمخاوف الطائفية متبادلة في لبنان. والاعتصام لا يمكن ان يستمر بهذا الشكل. خطر الانفجار وارد. واذا حصل سيطيح البلد. وسيؤدي الى دخول اسرائيلي الى الجنوب اللبناني ودخول سوري الى البقاع والشمال ووصاية دولية على جبل لبنان. اما نظرية انتصار المعارضة على الاكثرية فستؤدي الى افلاس الدولة اللبنانية بعد رفض المجتمع الدولي التعامل مع المنتصرين».

وحل القضية «الشارعية» كما يراها بيضون «سيأتي عبر صياغة مشروع مشترك بين السنة والشيعة. نحن محكومون لفترة طويلة بهاتين الطائفتين. وعليهما ان تتخليا عن التصعيد والتطرف لتجنبا الناس خطر الانفجار».

اسامة العارف يقول ان المطلوب هو «نزول قوى 14 آذار الى شارع المعارضة ليس للتظاهر والاعتصام، وانما لفتح حوار بمعزل عن القيادات وعن الخلافات حتى يصل الطرفان الى صيغة ممكنة للتفاهم وينقذا لبنان من الزوال». ومع ان جميع الفرقاء السياسيين فى لبنان يأمل في ان يكون اللجوء للشارع طريقها الى الفوز، الا ان استقرار لبنان على المدى الطويل قد يكون هو الثمن.