انهيار امبراطورية الدب

قبل 15 عاما أعلن حل الاتحاد السوفياتي بعد سلسلة من الأزمات والعوامل الداخلية والخارجية

TT

لقرابة ثمانية عقود كان الاتحاد السوفياتي تجسيداً لتنفيذ مشروع عالمي "لتثوير المجتمع وتحرير الطبقات المسحوقة"، حسب النظرية التي حكمته والشعارات التي رفعها. ولنحو خمسة عقود صار التحاد السوفياتي، مع الولايات المتحدة، إحدى القوتين العالميتين القادرتين على تدمير الكرة الأرضية عشرات المرات بترسانتيهما النوويتين الجبارتين، والمتنافستين على غزو الفضاء الخارجي، والمتصارعتين على تقديم رؤيتهما الاقتصاديتين إلى البشرية. ولكن في مثل هذه الأيام قبل 15 سنة انتهت هذه التجربة بتفكيك الاتحاد السوفياتي وإعلان "وفاته" رسمياً في 25 ديسمبر 1991.

يتفق عدد من دارسي تاريخ الاتحاد السوفياتي على أن الحركة التي أسماها آخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشوف "إعادة البناء" (البيريسترويكا) و"المكاشفة والانفتاح" (الغلاسنوست) خلخلت بنية الكيان الضخم المترهل من حيث حسبت أنها قادرة على تجديد شبابه، تماماً كما فعلت حركة "التنظيمات" للسلطنة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فقد عجزت هشاشة الكيان وأخفق ترهله في تحمل جرعة التغيير السريع والكبير مع أنه كان ضرورياً لصونه وإطالة عمره، وبالتالي حدث الانهيار. والواقع أنه كانت ثمة عوامل خارجية مؤثرة ساعدت، بلا شك، على التعجيل في الانهيار، منها حرب الاستنزاف الطويلة في أفغانستان، وانتخاب بابا بولندي معادٍ للشيوعية في الفترة التي كانت بولندا قد أصبحت شوكة في الخاصرة السوفياتية، ووصول قيادات يمينية متشددة إلى الحكم في الولايات المتحدة وبريطانيا شجعت على تحجيم موسكو وتطويقها وإنهاكها اقتصاديا وحربياً.

وكان لا بد بعد انهيار الكيان السياسي الضخم من تفجر الحساسيات والعداوات العرقية داخل مكوناته بعد عقود من ضبطها بيد من حديد. كذلك كان أكثر من طبيعي حدوث ارتباك اقتصادي هائل عشية زوال "دولة الضمانات الاجتماعية" و"شبكة الأمان" التي وفرتها لأجيال من المواطنين منذ 1917، ونشوء طبقة من المستفيدين من الانفتاح العشوائي السريع، و"مافيات" الحماية والبلطجة والانتفاع غير المشروع، ومن ثم استقرار البلاد على حالة قلقة من ترتيب الأوضاع تسعى خلالها الفئة الحاكمة إلى استعادة زمام السيطرة على دولة عملاقة بقواها الذاتية اسمها ... روسيا الاتحادية. من أهم ملامح حقبة ما بعد الانهيار ظاهرة رئاسة بوريس يلتسين (10 يوليو/تموز 1991 – 31 ديسمبر/كانون الأول 1999)، وهو السياسي الذي تربى داخل الحزب الشيوعي وارتقى سلمه التنظيمي حتى بلغ منصب أمين الحزب في موسكو (1985 – 1987)، وانتهى به الأمر إلى لعب دور معول الهدم الرئيس للدولة الشيوعية. فقد صار يلتسين الرجل الذي راهن عليه الغرب لتصفية التركة السوفياتية بالكامل، ولو بأساليب مخالفة للديمقراطية، التي لم يكن في الأساس من أبنائها أو أتباعها. ولقد بلغ به الحال أن أمر الجيش بمهاجمة مبنى البرلمان (السوفيات الأعلى) المنتخب ديمقراطياً عام 1993 بالدبابات للتخلص من خصومه عندما عارضوا سياساته. وأعيد انتخاب يلتسين، المحاط بـ"شلة" من الوسطاء والمحاسيب والمستشارين الاقتصاديين والماليين المحليين والأجانب، رئيساً لروسيا، وواصل حتى مطلع عام 2000 تنفيذ برامج الخصخصة بلا ضوابط أو رقابة.

وهكذا، مع تعجل اعتماد الجمهوريات المستقلة الأخرى الخارجة من ركام الدولة السوفياتية المنهارة – وعلى رأسها روسيا - اعتماد النمط الرأسمالي بغياب الخبرات الإدارية والرقابية والمحاسبية المؤهلة، وبتشجيع شديد من الدوائر الغربية، كان من الطبيعي أيضاً حدوث هزات اقتصادية واجتماعية كبرى، واستشراء الفساد، وظهور طبقة من "الأثرياء الجدد" معظمهم "واجهات" أوعملاء ووسطاء مرتبطين بالشركات ودوائر النفوذ الأجنبية. بعد ذلك جاءت حقبة فلاديمير بوتين، رجل الاستخبارات الفتي والطموح، الذي خلف يلتسين في قصر الكرملين بانتقال سلس نسبياً للسلطة. غير أن بوتين أشرف على قيادة روسيا على درب التحول الحثيث بمزيج من السياسات الاقتصادية الواقعية والضبط الاداري والأمني الصارم. وبالرغم من أن موسكو عجزت عن مواجهة استمرار التغلغل السياسي والاقتصادي الغربي داخل ما كان قبل 1989 أو 1991 "فضاءها" السياسي والاقتصادي والعسكري، استطاع بوتين فعلاً وقف التهالك الذي تسارع كثيراً خلال الفترة الأخيرة من حكم يلتسين.

من ناحية ثانية، نجح بوتين في قلب الوضع العسكري في الشيشان لصالح موسكو وكان هذا المثال الأوضح لتغير المقاربات الروسية الجديدة للأزمات المحلية والدولية. كذلك أخذت سياسة التدخل في الاقتصاد تؤتي ثمارها، بما في ذلك تنظيم الخصخصة وضرب "المافيات" وزمر الوسطاء والناشطين في جرائم غسل الأموال وتهريبها. وفي العام الماضي أنهت روسيا ارتباطها بالدولار الأميركي وربطت الروبل بسعر صرف العملة الأوروبية "اليورو". وفي وجه التحدي السياسي الصارخ لموسكو الذي تمثل في تشجيع الغرب عام 2004 انتخاب رئيس جمهورية يميني مؤيد لواشنطن في أوكرانيا هو فيكتور يوشنكو، أوقفت موسكو ضخ النفط الروسي إلى أوروبا عبر أراضي أوكرانيا، وكانت النتيجة إشعال أزمة سياسية ونشوء لمصاعب اقتصادية سرعان ما أضعفت موقف يوشنكو، وأتاحت الفرصة لحليف موسكو فيكتور يانوكوفيتش لتولي منصب رئيس الحكومة. وكان طبيعياً أن تنشأ أزمات وحروب أهلية لدى تفسخ وانهيار امبراطورية مترامية الأطراف بلغت مساحتها ذات يوم نحو 22 مليون كلم مربع تتعايش فوقها عشرات بل مئات الجماعات الإثنية والطوائف الدينية واللغات واللهجات. وحتى عندما كان "الطلاق" سهلاً وسريعاً بالنسبة لجمهوريات البلطيق ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، لم يخل الأمر من توتر مستمر حتى الآن في لاتفيا وإستونيا بين اللاتفيين ولإستونيين العرقيين وبين الوافدين المستقرين هناك من الروس. غير أن التنافر في جمهوريات أخرى تطور إلى مجابهات وحروب أهلية متفاوتة القوة، ولا سيما بين آذربيجان وأرمينيا على جيب قره باغ العليا (ذي الغالبية الأرمنية داخل أراضي آذربيجان)، كما تفجرت حربان أهليتان في كل من تاجيكستان (بين 1992 و1997) وجورجيا بين تيارات محلية متنازعة ونشبت في جورجيا كذلك "حروباً انفصالية" بين السلطة المركزية والكيانات الثلاثة الذاتية الحكم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأجاريا. ونشبت مواجهات مشابهة داخل مولدوفا بين السلطة المركزية وسلطات إقليم عبر الدنيستر حيث تقيم الكثافة الروسية. غير أن الحرب الأقسى والأعنف والأبعد تأثيراً، بلا شك، كانت "الحرب الشيشانية" الدامية التي خاضها الاستقلاليون في جمهورية الشيشان (ذات الغالبية المسلمة) الذاتية الحكم في منطقة القوقاز منذ 1991 حتى اليوم، وما زالت ألسنة لهيب تشظياتها تضرب في عمق روسيا والكيانات القوقازية المجاورة.

وفي آسيا الوسطى ظهرت في الجمهوريات المسلمة الناطقة بالتركية، ولا سيما أوزبكستان، حركات أصولية إسلامية قادت التحدي للقيادات "الاستقلالية" التي كانت بدورها قد انقلبت على النظام الشيوعي من داخله، أي بعدما كانت جزءاً من ذلك النظام. كذلك حصلت أخيراً ثورة – دعيت بـ"الثورة الزنبقية" – في جمهورية قيرغيزستان على حدود الصين، ما زالت تداعياتها مستمرة أطاحت بحكم عسكر آقاييف أول رؤساء البلاد الاستقلاليين. وفي الجمهورية الآسيوية الوحيدة الناطقة بالفارسية، أي تاجيكستان المتاخمة لأفغانستان، حدثت اضطرابات دامية هزت استقرارها.

في المقابل، أسس على أنقاض الكيان السوفياتي عدد من المنظومات البديلة التي جمعت بشكل أو بآخر العديد من الجمهوريات السوفياتية السابقة، أهمها وأكبرها وأقدمها "كومنولث الدول المستقلة". وفي المقابل ابتعدت جمهوريات أخرى مثل جمهوريات البلطيق الثلاث كثيراً لتصبح أعضاء في "الاتحاد الأوروبي"، ليكتمل بذلك تفكك امبراطورية الدب السوفياتي.