المراقبة.. والتواصل

يقدر عدد الإيرانيين في الإمارات بأكثر من 400 ألف شخص.. واستثماراتهم تفوق 200 مليار دولار

TT

قبل ست سنوات تقريبا اختارت المغنية الإيرانية الشهيرة كوكش امارة دبي، لتظهر فيها لأول مرة على المسرح منذ عشرين عاما في الشرق الأوسط، عندها قالت كوكش انه بالرغم من ابتعاد دبي عن إيران أكثر من مائة وخمسين كيلومترا «إلا أنني أشعر أنني أغني في وطني ولشعبي».

حديث كوكش ربما يعد مؤشرا أو انعكاسا للتواجد الايراني المكثف في دولة الامارات العربية المتحدة منذ عشرات السنين. بالتأكيد فإن الإيرانيين ليسوا هم الأكثر من حيث العدد بالنسبة للجنسيات الوافدة، التي تشكل ثمانين في المائة من سكان الإمارات، لكن كل ذلك لا يمنع من كون لديهم نفوذ اقتصادي ومجتمعي قوي، وهو ما أثار شبه أزمة لدى الجمهورية الايرانية، عندما أبدت ضيقها من خطط الاميركيين لـ«التجسس» عليها من دبي. إذا كان الهنود الذين يأتون أولا من حيث العدد، ويشكلون الأغلبية بين الجنسيات الأجنبية في الإمارات (أكثر من 200 جنسية تعيش في دبي) لم يستقطب وجودهم اهتماما كبيرا من قبل المراقبين، إلا أن الوضع يختلف كثيرا بالنسبة للإيرانيين، وذلك يأتي على خلفية أزمة الملف النووي الايراني، والأوضاع الاقليمية عموما. التواجد الايراني في الخليج ليس جديدا على كل حال، فمنذ بداية القرن الماضي وتحول الايرانيين باتجاه الخليج كان متواصلا، وكثير من أبناء الخليج أصولهم تعود من إيران، وإذا كان تحول الايرانيين في الدول الخليجية في أغلبه متركزا على العرب القاطنين على الساحل الغربي من ايران، أو أولئك الذين يطلق عليهم (الهولة)، إلا أن تواجد الايرانيين في الامارات مختلف عن ذلك التواجد في دول الخليج، حيث أن معظم الايرانيين من أصول فارسية، او ما يعرفون بـ«العجم». وبعد الثورة الايرانية 1979 شهدت الامارات موجة هجرة للايرانيين المتوجسين من الثورة وتأثيراتها. وبحسب تقديرات شبه رسمية، يقدر عدد الإيرانيين المقيمين في الامارات، التي تعد دبي معقلهم الرئيسي، بحوالي 400 ألف نسمة، نحو 500 الف ايراني فى كل الامارات، هاجر أغلبهم بعد الثورة الإيرانية وإزاحة نظام الشاه. ربما لم يكن هدف الكثير منهم هو الاستقرار، وانما كان وصولهم للامارات محطة لمواصلة سفرهم الى اميركا او كندا او اوروبا، إلا أن الاغراءات المتعددة التي وفرتها دبي للمقيمين فيها، ومن ضمنهم الايرانيون، بالإضافة إلى قربها الجغرافي من بلادهم، حولت من خطط كثيرين منهم، والذين آثروا الاقامة والعمل في القطاع التجاري في الامارات. وتنمو الجالية الايرانية في الإمارات بشكل مطرد، إذ تشير أرقام صادرة من غرفة تجارة وصناعة دبي إلى أن 6500 شركة إيرانية تعمل في الامارات. بينما يدرس عشرة آلاف طالب إيراني في جامعاتها ومدارسها، وتبلغ قيمة استثمارات الايرانيين في دبي أكثر من 200 مليار دولار (في عام 2005) مع توقعات بارتفاعها إلى 300 مليار دولار في العام الماضي 2006، وللإيرانيين في الامارات مناطقهم السكنية وأسواقهم الخاصة بهم وحتى نواديهم التي يجتمعون ويلتقون فيه، بحيث يمكن القول ان بعض مناطق دبي يمكن ان يطلق عليها «ليتل طهران»، فهناك أماكن كثيرة، وكأنها خصصت للايرانيين فقط، فيقيمون حفلاتهم الخاصة بهم، ويسهرون فيها، بالاضافة الى المطاعم الايرانية التي تنتشر في كل مكان. والإمارات هي الشريك التجاري الأول لإيران، فقد وصل حجم الواردات الايرانية من الامارات السنة الايرانية الماضية (التي انتهت في 20 مارس 2006) 7.5 مليار دولار، فيما بلغ حجم صادراتها 2.5 مليار دولار وفقا للأرقام التي قدمها الملحق التجاري الايراني في دبي مسعود ميرزائي في مايو (أيار) الماضي. واهم السلع المصدرة من ايران الى الامارات خلال السنوات الثلاث الماضية الفستق والزيوت الخفيفة والفولاذ والمعادن الثمينة. أما السلع التي استوردتها ايران من الامارات فهي البنزين والزيوت الخفيفة وقطع غيار السيارات وأجهزة الاتصالات والهاتف الخليوي والمعدات والمكائن الثقيلة والموز.

وعموما تركز الجالية الايرانية الضخمة في الامارات على الجانب الاقتصادي، ولم يبد منهم أي اهتمام بالسياسة طوال فترة تواجدهم في بلدهم «الثاني. وتقول فروخ صادق، وهي إيرانية ولدت في الامارات، أن الايرانيين المقيمين في الامارات يجدون في دبي وشقيقاتها ملاذا آمنا لهم، وتضيف «صحيح أن بلادي لا تبتعد كثيرا عن الإمارات، إلا أننا نشعر بحرية ربما لا تتوافر هناك». وتبدي فروخ ضيقا شديدا من ما يردده البعض من أن الجالية الايرانية ربما تشكل قلقا بسبب العلاقات المتوترة بين بلادها وبين بعض دول الخليج». وتقول «نحن وجدنا هنا مكانا يحتضننا وبادلناه بالعمل والتعايش مع المواطنين وكذلك المقيمين، أما الأمور السياسية فنحن بعيدون عنها كل البعد، ولم يكن للجالية الايرانية في أي يوم من الايام ما يمكن أن يعطي مثل هذه الانطباع السيئ عن الايرانيين في الامارات».

ويؤكد الفريق ضاحي خلفان تميم القائد العام لشرطة دبي، أن الجالية الايرانية تعيش في دبي كما تعيش باقي الجنسيات الوافدة، ويقول «المقيم الايراني لدينا من أفضل الجنسيات، فهو يعيش في حال سبيله ويطلب رزقه فقط»، ويتابع «الايراني تاجر سوق يبيع ويشتري، ولا يوجد لدينا ما نخاف منه، كما لا توجد أي حساسية من هذا التواجد».

ونفى الفريق ضاحي أن يكون هناك أي إجراءات أمنية خاصة للايرانيين وغيرهم، مؤكدا في الوقت ذاته أن الاختلافات السياسية لا يمكن أن تنعكس على مواطني هذه الدول، ويضيف «من الأخطاء والحماقات التي ترتكبها الحكومات أن تنعكس علاقتها مع بعض على الشعوب، فالخلاف السياسي يجب ألا يتعرض لما يمكن أن يكون سببه فقط تلك الخلافات السياسية». ومع ان الايرانيين استوطنوا دول الخليج العربي، وحصلوا على جنسية دولها وأصبحوا مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات المواطنة، ومنهم رجال أعمال شقوا طريقهم وبلغوا باستثماراتهم المليارات، الا ان الايرانيين فى الامارات لهم نفوذ خاص. وأحد اسباب ذلك انه لم يتم الخلط بين الخلافات الايرانية ـ الاماراتية فى بعض القضايا، وبين الايرانيين الذين يعيشون في دبي. فقد ظلت الأجهزة الرسمية في الامارات تمارس التعامل مع ملف الخلافات مع ايران بتوازن، وبالرغم من ان ايران تحتل أراضي إماراتية (الجزر الاماراتية الثلاث) منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما، إلا أن تعامل السلطات الايرانية ظل موزونا ومحسوبا بدقة، ولم يتم مواجهة التصعيد بآخر مثله طوال أكثر من ثلاثة عقود، ولم يؤثر الخلاف حول الجزر الثلاثة على تواجد الجالية الايرانية وقوتها الاقتصادية، او على العلاقات عموما مع ايران. ولعل آخر المواقف الاماراتية في هذا الاتجاه، عندما أكدت الإمارات لإيران أنها لن تسمح للولايات المتحدة باستخدام أراضيها في التجسس على الجمهورية الايرانية، وذلك في الوقت الذي كانت فيه طهران تقول عبر محمد علي حسيني المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ان طهران تعتزم «اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الامارات من أن تتحول لقاعدة للإجراءات العدائية الأميركية ضد ايران».

وكانت واشنطن قد افتتحت منتصف اكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعثة دبلوماسية مختصة في شؤون ايران في دبي من دون اثارة الكثير من الانتباه. ويعتبر «مكتب الوجود الاقليمي الخاص بإيران» التابع للخارجية الاميركية، الأول من نوعه منذ الثورة الايرانية عام 1979 وقطع العلاقات الإيرانية ـ الأميركية. واتخذ المكتب مقره في القنصلية الاميركية في دبي، وبدأ ممارسة نشاط حذر على خلفية تردي العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة مع تصاعد الأزمة النووية الايرانية. وبما أن دبي تبعد فقط 150 كيلومتراً عن ايران، فقد وجدت الولايات المتحدة بحسب المحللين موقعا مهما لمراقبة طهران والتواصل مع شعبها. وأكد وكيل وزيرة الخارجية الاميركية للشؤون السياسية نيكولاس بيرنز في تصريحات صحافية فى مارس (اذار) الماضي، انه لا توجد نية لإعادة فتح سفارة واشنطن في طهران في الوقت الراهن، ولكنه اضاف: «نخطط لوضع المزيد من المختصين لمراقبة ايران». غير انه لم يكن من الواضح ما اذا كان الهدف مراقبة نشاطات الايرانيين السياسية ام الاقتصادية. وأكدت الامارات لاحقا مرارا انها لن تسمح بأن تكون قاعدة نشاطات ضد طهران، وخلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الاماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان مطلع الشهر الجاري الى ايران، نفى تلقي أي طلب باقامة مثل هذا المكتب، وقال ان بلاده يرغب في الحفاظ على الاستقرار والسلام بالمنطقة. ورد الشيخ عبد الله بن زايد على سؤال حول المزاعم التي اثيرت بشأن استخدام اميركا لدول في المنطقة لشن عدوان ضد ايران «ان مجرد التفكير بهذا الخصوص هو تفكير جنوني».

غير أن الاميركيين اكدوا ان المكتب الجديد الذى افتتح في دبي هدفه زيادة المعرفة الاميركية بايران. وردا على سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول دور مكتب الشؤون الايرانية بدبي، قال نيكولاس بيرنز خلال زيارته لدبي هذا الاسبوع «لدينا قنصلية طبيعية هنا (في دبي) ونشاطات مكتب الشؤون الايرانية في القنصلية يحاول تلبية المتطلبات الهائلة للايرانيين الراغبين في التوجه للولايات المتحدة، وبالتالي فإنه يقوم بجهد كبير في اصدار التأشيرات فضلا عن جهد كبير في ارساء التواصل بين الشعبين الايراني والاميريكي، خاصة ان العلاقات الرسمية بين البلدين مقطوعة منذ اكثر من ثلاثة عقود، وبالتالي فإن عددا قليلا من الايرانيين يزورون اميركا، وكذلك عدد محدود من الاميركيين يزور ايران».

ودلل المسؤول الاميركي بتنظيم القنصلية الاميركية في دبي الاسبوع الماضي رحلة لفريق المصارعة الوطني الاميركي الى ايران، بناء على دعوة اتحاد المصارعة الايراني وعقد الفريق سلسلة من اللقاءات مع نظيره الايراني، ويضيف «الاميركيون عوملوا باحترام من قبل الجمهور الايراني في المدرجات، كما امضى اعضاء الفريقين وقتا ممتعا»، وبحسب نيكولاس فقد نظم المكتب رحلة لاطباء وممرضين ايرانيين لزيارة الولايات المتحدة ومستشفياتها. ويقول «نحن نبذل محاولات لتعزيز التواصل بين الشعبين بسبب مشكلة في التواصل بين الحكومات. طبعا نحن نرغب في إيفاد عدد كبير من الطلبة الايرانيين للدراسة في الجامعات الاميركية، ونرغب في أن نرى طلبة اميركيين يدرسون في ايران. كما ان القنصلية قريبة جغرافيا من ايران، فإن هذا المكتب يحاول خلق كل هذه الصلات بين الاميركيين والايرانيين واعتقد ان معظم الدول تتفق معنا بأن تأسيس التواصل هو امر ايجابي. المكتب هدفه منح التأشيرات ومحاولة فهم ايران والتأكد من فهم الشعب الايراني، وهذا بالفعل ما نحاول القيام به في دبي».

لكن ولأن الكونغرس الاميركي وافق اخيراً على خطة لدعم «الحرية» في ايران بتكلفة 85 مليون دولار لتمويل برامج اذاعية وتلفزيونية باللغة الفارسية تبث الى ايران، بالاضافة الى تخصيص 5 ملايين دولار، منحا لطالب ايرانيين في الجامعات الاميركية، فقد ادى افتتاح المكتب الى اثارة قلق طهران من ان يكون هدفه الاضرار بمصالح ايران. غير ان الاشارات التي ظهرت حتى الآن تشير الى ان نشاطات الايرانيين الاقتصادية محل اهتمام الاميركيين، وليس برنامجهم النووي. وكان رئيس مجلس الأعمال الايراني في دبي عباس بولرفروشان، قد قال في تصريحات لوكالة الاسوشيتد برس انه التقى مع عدد من الدبلوماسيين الاميركيين الجدد في دبي، ورأى انه «من الضروري ان يكون هناك مكتب (اميركي) لمراقبة الوضع الايراني، بما انهم لم يفتتحوا مكتباً في ايران». وأضاف ان الدبلوماسيين الاميركيين لا يحضرون لقاءات مجلس الاعمال الايراني، الا ان المجلس لديه علاقات وثيقة مع مجلس الاعمال الاميركي في دبي. والاستثمارات الايرانية في البلاد التي تقدر بمليارات الدولارات، والكثير من الشركات الايرانية في دبي لديها علاقات بشركات في طهران. وكانت الحكومة الاميركية قد قدمت الى الامارات اخيراً لائحة بعدد من الشركات الايرانية التي تعتبرها واشنطن «شركات وهمية» تحاول كسر الحظر الاميركي على طهران. وقال نائب وزير الاقتصاد الاميركي روبرت كيميت في سبتمبر (ايلول) الماضي: «نأمل ان أصدقاءنا هنا في الامارات يراقبون تلك الشركات جيداً». غير أن تجربة التواصل بين الإماراتيين والإيرانيين في الإمارات عميقة وأثبتت تفاعلات الأشهر الماضية أن الحال سيظل كذلك بحكم الموقع الجغرافي والمصالح المشتركة.