من أي جامعة انت؟

صراعات وتقسيمات طائفية خانقة تخترق الجامعات العراقية.. وكردستان هي الملاذ

TT

قبل عامين وفي مثل هذه الايام حيث ينشغل شيعة العراق بإقامة مجالس العزاء في ذكرى مقتل الحسين، اغتيل استاذ (بروفيسور) الرياضيات الدكتور عبد السميع الجنابي عميد كلية العلوم في الجامعة المستنصرية في بغداد طعنا بالسكين وتم إلقاء جثته على الطريق العام.

وبالرغم من ان اغتيال استاذ في العراق لم يعد امرا غريبا، فقد قتل حتى الان ما يقرب من 250 استاذا جامعيا الى جانب اغتيال آلاف الاكاديميين الذين فروا من العراق، إلا ان سبب اغتيال هذا الاستاذ، وفيما بعد غيره من الاساتذة، هو ما يثير الاستغراب وردود الافعال لدى غالبية الاكاديميين العراقيين ومن جميع الاتجاهات السياسية والمذهبية.

بدأت قصة الجنابي عندما اراد «تطبيق قرار لوزارة التعليم العالي يقضي بمنع استخدام الجامعات كمنابر للمظاهر الطائفية». ففي عاشوراء اتشحت الجامعات العراقية بلافتات سوداء علّقها طلاب ينتمون الى احزاب شيعية لتأبين الإمام الحسين، غير ان الجنابي اعتبر ان هذه اللافتات تثير الطائفية، خاصة بعد انتهاء المناسبة التي رفعت فيها، وأمر برفعها من كليته، الامر الذي قوبل بموجة من الاحتجاجات بين الطلاب الشيعة الذين نظموا اعتصاما دام اكثر من اسبوع رفعت خلاله لافتات تهدد بقطع رأس من يحارب الحسين، وطالبوا بإقالة العميد الذي اضطر الى الاختفاء بناء على نصيحة الوزارة، ثم تشكلت لجنة تحقيقية كانت لا تزال تحقق معه عندما نشر خبر نعيه في الصحف. ويعترف الاستاذ (البروفيسور) الدكتور طاهر البكاء، اول وزير للتعليم العالي بعد الاحتلال، في حكومة الدكتور اياد علاوي، قائلا لـ«الشرق الاوسط» ان «الفوضى عمت الجامعات العراقية عندما تدخلت الاحزاب والتيارات الدينية في شؤون الجامعات، بل صادرت ارادتها، وبدأ الاستقطاب الطائفي والعنصري والسياسي يزحف الى مفاصل التعليم العالي بدرجات متفاوتة»، مشيرا الى ان هذه العملية رافقتها «عمليات تصفيات واغتيالات للاساتذة والعلماء والاطباء مما اضطر غالبيتهم الى الهجرة، الامر الذي يتطلب دق نواقيس الخطر».

«الشرق الاوسط» تنضم الى الدكتور البكاء في دق نواقيس خطر اجتياح الطائفية حرم الجامعات العراقية.

اذا دققتم النظر في الصورة المنشورة في هذه الصفحة، وهي واجهة الجامعة المستنصرية، إحدى اعرق الجامعات العراقية التي تأسست عام 1963 كجامعة خاصة لنقابة المعلمين قبل ان تؤول ملكيتها ومسؤوليتها للدولة، وعند سارية العلم العراقي وضعت صورة جماعية لبعض زعماء شيعة العراق. هذه الصورة لم توضع في مكان ما داخل الجامعة او في غرفة معينة، بل عند واجهة الجامعة وعند سارية علم البلد وبذلك تعبر هذه الصورة عن سيطرة اتباع المذهب الشيعي، بل والمتشددين من الشيعة ومن اتباع الصدر على الجامعة المستنصرية.

وحتى يوم 9 ابريل (نيسان) حيث الاحتلال الاميركي للعراق، كانت الجامعة المستنصرية واحدة من اهم معاقل حزب البعث الذي كان يحكم العراق بقوة الحديد والنار. صور الرئيس العراقي السابق صدام حسين كانت تزدحم بها جدران وقاعات الجامعة المستنصرية التي تقوم في جانب الرصافة من بغداد والتي حملت اسم اشهر مدرسة عباسية (المدرسة المستنصرية) نسبة الى بانيها الخليفة العباسي المستنصر بالله. كما ان بناية هذه الجامعة بالذات كانت معقلا للبعثيين، وكانت مؤتمرات واجتماعات وندوات البعثيين تعقد في قاعة الجامعة المستنصرية لحداثتها وسعتها.

اما اليوم، وحسب استاذ في الجامعة المستنصرية فان «كل ما تغير هو تغيير صور صدام حسين بالمئات من صور بعض زعماء الشيعة وصارت القاعة مقرا تقام فيه مجالس العزاء على الحسين مع ان هناك تعليمات مشددة من قبل رئيس الحكومة نوري المالكي ووزير التعليم العالي عبد ذياب العجيلي بعدم رفع اية صورة او رمز ديني او سياسي او قومي في الجامعات العراقية»، مشيرا الى ان «اساتذة وطلبة الجامعات العراقية كانت تتمنى التخلص من مظاهر تسيس التعليم العالي والجامعات واذا بها تتحول الى مراكز للتطرف المذهبي والطائفي».

الا ان هذا الاستاذ الذي يحمل شهادة دكتوراه في الاحصاء يؤكد ان «الانتماءات الطائفية للجامعة جاءت نتيجة الموقع الجغرافي للجامعة ولان الجامعة المستنصرية تقع قريبا من مدينة الصدر الشيعية وان هناك غالبية من الاساتذة والطلبة الشيعة في هذه الجامعة فانهم فرضوا سيطرتهم عليها الا اننا لا نستطيع ان نقول بان المستنصرية شيعية وجامعة بغداد سنية».

ويروي الاستاذ حادثة «اثارت استغرابي بالفعل فانا انتمي الى جيل درس في جامعة بغداد وكانت الصراعات بين الطلبة وقتذاك ثقافية سلاحها النقاشات والكتب والمطبوعات بينما فوجئت بمجموعة من طلبة المستنصرية يتظاهرون قبل اشهر امام العمادة اعتراضا على ظروفهم السيئة في الاقسام الداخلية، والغريب انهم لم يرفعوا اية لافتة او شعار بل كانوا يضربون على صدورهم بذات الطريقة التي يضربون فيها صدورهم خلال العزاء في ذكرى مقتل الحسين».

مسؤول في وزارة التعليم العالي يعزي اتجاه بعض الجامعات السياسي والطائفي الى سيطرة الميليشيات المسلحة سواء اولئك المتسللين كحرس او موظفي امن الجامعة او هؤلاء الذين يفرضون سطوتهم على الجامعة.

يقول المسؤول في وزارة التعليم العالي، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، ان «هروب غالبية من طلبة الجامعة المستنصرية، وبينهم ابنة اختي، هو خوفهم من التعرض للاختطاف من قبل الحرس الجامعي نفسه او لتعاون هذا الحرس مع جهات اخرى من خارج الجامعة»، مشيرا الى ان «قيام الحرس الجامعي بتفتيش هويات الطلبة يوميا جعل غالبية من الطلاب السنة يفضلون عدم الذهاب الى الجامعة المستنصرية لشكوك ان الذي يقرأ هوياتهم يوميا انما يريد معرفة الاتجاه الطائفي للطلبة من خلال اسمائهم»، مؤكدا ان من يسيطر امنيا على المستنصرية هم من «ميليشيا جيش المهدي».

ويؤكد الدكتور البكاء ان «القوى السياسية في العراق لا تختلف اليوم عن صدام حسين، كلها قوى استحواذية وتريد السيطرة على الجامعات باعتبارها كنزا مهما». ويضيف قائلا «ان الصراع في جوهره سياسي ويتحول الى صراع مذهبي وفي الجامعات للاسف انزلق الصراع الى مذهبي من الدرجة الاولى».

وتشهد جامعة بابل في مدينة الحلة الشيعية سيطرة طائفية (شيعية) على الجامعة ويتدخل هذا الصراع حتى في مناهج الدراسة. وحسب الاستاذ الخزاعي، وهو دكتور في كلية الفنون الجميلة واكتفى بذكر لقبه لاسباب امنية، فان «رجال الدين يتدخلون حتى في اتجاهات المسرحيات التي تنتج من قبل الطلبة بينما حرم قسم الفنون التشكيلية من نحت او رسم بعض الاشكال المقررة عليهم».

وفي بغداد لاقت اكاديمية الفنون الجميلة اكثر من هجوم بعد تغيير النظام، الدكتور عصام، استاذ في قسم الفنون التشكيلية يؤكد ان «الاكاديمية تعرضت لاكثر من هجوم من قبل متطرفين شيعة وسنة ارادوا احراق ابنية الاكاديمية وهدموا المنحوتات باعتبارها حراما لكن الطلبة والاساتذة وقفوا بوجه هذه الهجمات بقوة».

وحتى وقت غير بعيد عانت جامعة البصرة التي تضم 17 كلية و10 مراكز بحوث و34 الف طالب وطالبة و2000 تدريسي الى جانب 4500 موظف، من سيطرة انصار الزعيم الشيعي المتشدد مقتدى الصدر على مقدرات الجامعة حتى بلغت ذروة هذا التدخل هجوم انصار الصدر على طلبة كلية الهندسة العام الماضي عندما كانوا في رحلة بريئة الى متنزه الاندلس وسط المدينة ما اشعل فتيل الاضرابات والاعتصامات في الجامعة. لكن الدكتور علي عباس علوان، رئيس جامعة البصرة، يؤكد ان «هذه الاحداث كانت قبل تسلمي مقاليد رئاسة الجامعة ونحن في حوارات مستمرة مع الاطراف الدينية لان تبقى الجامعة مستقلة عن أي اتجاه ديني او طائفي او سياسي».

وقال الدكتور علوان في حديث لـ«الشرق الاوسط» عبر الهاتف من مكتبه في الجامعة «ربما يعود عدم انحياز الجامعة، كمؤسسة اكاديمية، الى اني غير منحاز لاية جهة سياسية او طائفية». وفي الوقت الذي تعاني فيه غالبية الجامعات العراقية من مشاكل تعدد الاتحادات والروابط الطلابية والتي يبلغ عددها بالعشرات فان جامعة البصرة، وحسب رئيسها، انتخب طلابها اتحادا واحدا هو الذي يمثل جميع الطلبة. ويؤكد رئيس ثاني جامعة في العراق من حيث الاهمية العلمية ان «الجامعة هي التي اختارت موظفي الحماية وتحت اشراف احد الاساتذة ويمنع بشدة دخول اي عسكري او شرطي الى حرم الجامعة».

ويعترف الدكتور علوان بان «هناك تيارات شيعية متطرفة تفرض على الطالبات وضع الحجاب، كما اوقفنا الرحلات الجامعية، وان تعصبا دينيا يسود الجامعة، الا اننا مع كل هذا نسيطر على الامور ولا ندعها تفلت من ايدينا». وكانت جامعة البصرة قد شهدت مقتل 3 من اساتذتها واختطاف بعض طلبتها لاسباب طائفية وكونهم من السنة.

يقول احد طلبة جامعة البصرة «ان التيار الشيعي التابع للصدر هو الذي يسيطر على اتحاد الطلبة وعلى مقررات الجامعة ولا احد يستطيع مخالفته»، مشيرا الى ان صور مقتدى الصدر ترتفع في ارجاء الجامعة كما ان مجالس عزاء مصغرة تقام في كليات الجامعة بمناسبة ذكرى مقتل الحسين».

ويضيف هذا الطالب قائلا ان «الحرس الجامعي يفرض على الطالبات وضع الحجاب وحتى غير المسلمات والا فانهم يسجلون اسم الطالبة التي لا تضع الحجاب ويتم تسليمه لاتحاد الطلبة الذي يتعامل بقسوة مع الطالبات غير المحجبات».

وتعاني جامعة ديالى (شمال شرقي بغداد) من صراع طائفي حاد بين الشيعة والسنة للسيطرة على الجامعة التي كانت قد علقت وزارة التعليم العالي العراقية الدراسة فيها لمدة اسبوع قبل ستة اشهر وذلك بعد مقتل ثلاثة من اساتذة هذه الجامعة وجرح رابع في هجوم مسلح. وقال مصدر في الجامعة ان «العملية التدريسية سيتم التضحية بها على حساب الصراعات السياسية والمذهبية ذلك لطبيعة اهالي هذه المحافظة الذين يتنوعون ما بين السنة والشيعة، كما ان قرب المحافظة من الحدود الايرانية يشجع بعض الجماعات الشيعية المتطرفة من شن هجمات مسلحة على الجامعة».

وحسب المسؤول في وزارة التعليم العالي فان «الانتماء الطائفي او السيطرة المذهبية على الجامعات يأتي من خلال موقعها الجغرافي، فلا نتوقع مثلا وجود طلبة سنة في جامعتي بابل او كربلاء او الكوفة، وبالمقابل لا نتوقع وجود طلبة شيعة في جامعتي الانبار او الموصل او تكريت»، مشيرا الى ان «هناك كليات خاصة تم تأسيسها على اساس طائفي».

لكن جامعات اقليم كردستان العراق في منأى عن هذه التقسيمات الطائفية حسبما يؤكد الدكتور ادريس هادي وزير التعليم العالي في حكومة اقليم كردستان الذي قال «نحن في كردستان لا نهتم بالتقسيم الطائفي، وقبل توحيد الحكومتين كان الطلبة منقسمين ما بين الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي، لهذا كان هناك من يدرس في جامعة السليمانية (جماعة الاتحاد الوطني)، وجماعة الديمقراطي يدرسون في جامعة صلاح الدين في اربيل، لكن الجامعات الكردستانية اليوم مفتوحة امام الجميع».

وأضاف الدكتور رسول قائلا لـ«الشرق الاوسط» ان الجامعات الكردية صارت ملاذا آمنا للاساتذة وللطلبة العرب الهاربين من نيران الصراع الطائفي والسياسي حيث تمت استضافتهم في جامعاتنا بالرغم من محدودية الطاقة الاستيعابية لجامعاتنا»، مشيرا الى انه توجد في اقليم كردستان خمس جامعات تضم اكثر من 60 الف طالب وهناك خطة لتوسيع ابنية الجامعات لاستقبال عدد اكبر من الطلبة ولضمان مستقبلهم العلمي». وأضاف قائلا ان «الجامعات الكردية ليس لها أي شروط لقبول الطلبة العرب بشرط ان يكونوا مقبولين بالجامعات العراقية الاخرى».

واذا كان واقع الحال يفرض هذه الانقسامات والتدخلات الطائفية في الجامعات العراقية فان الدكتور البكاء يقترح اهمية «التوقف عن التدخل في شؤون التعليم العالي من قبل الحكومة او الاحزاب السياسية او التيارات المختلفة وتحقيق الحماية القانونية والاجتماعية للحرم الجامعي»، مشددا على ضرورة «اعتماد مقاييس علمية اكاديمية في تعيين العمداء ورؤساء الجامعات والنأي بها عن الاعتبارات السياسية والمحاصصات الحزبية والمذهبية اللعينة».