الدولة.. المؤقتة

3 انقلابات في الرؤية الإسرائيلية تجاه الدولة الفلسطينية

TT

شهدت إسرائيل في السنتين الأخيرتين انقلابين في ما يتعلق برؤيتها ازاء القضية الفلسطينية وطابع وحدود الدولة الفلسطينية، وهي تعيش اليوم خطر تحقيق انقلاب ثالث في الاتجاه المعاكس. الانقلاب الأول كان لدى رئيس الوزراء السابق، أرئيل شارون، الذي توصل الى قناعات جديدة تجاه القضية الفلسطينية تتناقض بشكل حاد مع قناعاته السابقة، وذلك عندما بدأ في مسيرة «التخلص الإسرائيلي» من وزر الاحتلال. ونقول «التخلص الاسرائيلي» لأن شارون لم يرد التعامل مع الفلسطينيين ندا مساويا لإسرائيل واتجه للانسحاب من الأراضي الفلسطينية بشكل أحادي الجانب من دون اتفاق سلام. صحيح ان ذلك التوجه لم يكن مرضيا ولم يكن كافيا بالنسبة للفلسطينيين، إلا ان هذا لا يغير شيئا من حقيقة ان شارون جاء بانقلاب سياسي تاريخي في سياسة اليمين الاسرائيلي. وأثبت انه جاد في توجهه الجديد، فنفذ الانسحاب الكامل من قطاع غزة وأزال جميع المستوطنات اليهودية منه وأربع مستوطنات أخرى شمالي الضفة الغربية. وراح يخطط لانسحاب مماثل من أجزاء واسعة من الضفة الغربية.

لكن القدر تدخل لسحب شارون من الساحة السياسية اثر اصابته بشلل دماغي لم يفق منه حتى الآن (13 شهرا تقريبا). فتولى زمام الأمور ايهود اولمرت، وهو شخصية رمادية اشكالية، لم يكن مستعدا للمنصب المفاجيء. ومع ذلك فقد اختار الاستمرار في طريق شارون، فطرح «خطة الانطواء»، التي تعتبر خطة انسحاب من غالبية أراضي الضفة الغربية مع ازالة معظم المستعمرات اليهودية فيها. ومع ان أولمرت أعلن في حينه ان خطته أحادية الجانب، فإنه مع التقدم في المعركة الانتخابية راح يتحدث عن امكانية التنسيق مع الفلسطينيين. ومع شعوره بأن الجمهور يريد هذا الطرح السلمي، راح يتحدث عن خطة لتقليص الميزانية العسكرية الإسرائيلية بشكل كبير (بعد تشكيله الحكومة خطط لتقليصها بمبلغ 1.2 مليار دولار واثار عليه العسكريين). ومع ان أولمرت كان شخصية ضعيفة لا تقارن بشخصية شارون، ورغم أن حركة «حماس» فازت في الانتخابات الفلسطينية وفوزها زعزع الاسرائيليين واثار فيهم مخاوف من تدهور أمني جديد، ورغم انه تجرأ ليطرح خطة لتقليص ميزانية الجيش، إلا انه انتصر في المعركة الانتخابية. فقد منح جمهور الناخبين الإسرائيليين غالبية أصواته للأحزاب التي تؤيد ازالة الاحتلال وإنهاء المشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية، ووجه ضربة قاصمة لقوى اليمين واليمين المتطرف وأنزلها الى أقلية لأول مرة منذ سنة 1977. وكان ذلك انقلابا آخر عزز الانقلاب الأول في الموقف السياسي الإسرائيلي وأعطاه زخما جماهيريا كبيرا. لقد وقعت حكومة أولمرت، قليلة التجربة وضعيفة النفس القيادي، في أول مطب نصبه لها الجيش. فالعسكريون كانوا قد جرحوا من مخطط تقليص الميزانية العسكرية واستعدوا لأول مناسبة يستطيعون انتهازها لإجبار الحكومة على تغيير سياستها في هذا الموضوع. وجاءت الفرصة عندما أقدم المسلحون الفلسطينيون على خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط ثم عندما خطف حزب الله جنديين اسرائيليين آخرين. لقد ضربت هيبة الجيش وجرحت كرامته من جراء العمليتين، خصوصا ان العديد من القتلى وقعوا في العمليتين فقرروا الانتقام بإعلان الحرب ولم يعترض رئيس الحكومة أو وزير دفاعه أو أي وزير آخر عليها. فكانت تلك الإخفاقات وتطورت الى تحقيقات وزلازل سياسية وعسكرية، وصلت آثارها الى حد المساس بهيبة الجيش الإسرائيلي في العالم كله والى طرح تساؤلات جدية حتى في الولايات المتحدة الأميريكية حول مكانة اسرائيل في الاستراتيجية الغربية.

هنا بدأت المحاولات للانقلاب الثالث، حيث ان اليمين الإسرائيلي بدا يستعيد أنفاسه واستطلاعات الرأي تعطيه أملا في العودة الى الحكم في اول انتخابات قادمة. واليمين هنا ليس أحزابا وقادة سياسيين فحسب، بل أيضا مؤسسات بحث استراتيجي وأجهزة عسكرية وأمنية أخرى. وفي بحث قدم الى مؤتمر الدراسات الاستراتيجية لبحث الحصانة القومية الاسرائيلية المعروف باسم «مؤتمر هرتسيليا» الذي التأم هذا الأسبوع (21 – 24 يناير/كانون الثاني 2007)، يقول د. دوري غولد، رئيس المركز المقدسي لقضايا الجمهور والدولة، أحد ممثلي الاتجاه اليمين المنتعش حاليا، ان «صعود الإرهاب الإسلامي عموما والفلسطيني خصوصا في العالم يطرح من جديد مسالة التسوية الدائمة للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وهل يكمن فيها الحل للصراعات في المنطقة». ويستنتج غولد ان النظرية القائلة بان تسوية الصراع على اساس مبدأ «دوليتن للشعبين» هي السبيل لتصفية الإرهاب ثبت فشلها. ويضيف: «تنظيم القاعدة، الذي ينفذ عمليات إرهاب ضد الولايات المتحدة وبريطانيا واسبانيا والسعودية والعراق وإسرائيل، لم يقم بسبب الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني ولا يسعى لتسوية هذا الصراع. وحزب الله اللبناني أيضا لم يقم بسبب الصراع الاسرائيلي الفلسطيني ولا يعمل على تسوية هذا الصراع. انها تنيظمات معادية للغرب على اساس عقائدي وديني وثقافي وحضاري، ولن توقف نشاطها الإرهابي إذا تمت تسوية الصراع. وكذلك الأمر بالنسبة للتنظيمات الفلسطينية المسلحة». ويؤكد أن الحديث لا يقتصر على «حماس» فقط بل يشمل أيضا «الجهاد الإسلامي» وحركة «فتح». فكلها تعمل لخدمة ايران وبتمويل منها. لذلك يخرج بالاستنتاج ان الظروف غير مناسبة لتسوية الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني ولا لإقامة دولة فلسطينية، انما يجب أن يتركز على مكافحة الإرهاب وتجميد السعي لتسوية الصراع. فعلى سبيل المثال، يقول غولد، اسرائيل تحتاج للاحتفاظ بمنطقة غور الأردن، التي تشكل ثلث الضفة الغربية، حتى تمنع الإرهاب من تجاوز نهر الأردن الى اسرائيل. فهل يوافق الفلسطينيون على دولة من دون هذه المنطقة؟! بكلمات أخرى فإن هذا التيار، وهو قوي ويزداد قوة، يريد تصفية آثار الانقلابين في السياسة الاسرائيلية (ازالة الاحتلال والمشروع الاستيطاني)، والخروج الى حرب شاملة في المنطقة ضد ايران والتنظيمات الفلسطينية واللبنانية وضد سورية وكل من يندرج في ما اسماه الرئيس الأميركي، جورج بوش، بمحور الشر. وهو يعتقد ان العالم الغربي قريب من اسرائيل في هذا التفكير ويمكن تجنيده بسهولة الى هذه المعركة، خصوصا بعد ان بدأت «القاعدة» تهدد دول الغرب. من جهة ثانية، فإن الحكومة الاسرائيلية تمثل التيار المناهض لنظرية اليمين المتصاعدة ويحاول خوض صراع بقاء على نظريته، التي أتت بالانقلابين المذكورين. ولكنها بسبب الخوف من المواجهة مع الجيش، التي يقدرون بأنها ستكون حربا خاسرة حتما، تنازلوا عن مطلبهم تقليص ميزانية الجيش، بل زادوا هذه الميزانية بملياري دولار اضافية لتصبح أكبر ميزانية عسكرية في تاريخ اسرائيل (12 مليار دولار). وسمحوا للجيش ان يواصل استعداداته للحرب أو الحروب القادمة حتى يستعيد هيبته ويمحو صورة الفشل التي خرجوا بها من الحرب الأخيرة. وجنبا الى جنب مع ذلك يحاول اقطاب الحكومة الدفع نحو استئناف المفاوضات السياسية لتسوية الصراع مع الفلسطينيين. وفي هذا المجال لم تتوصل الحكومة الى اتفاق موحد من موضوع الدولة الفلسطينية، لكن ثلاثة اقتراحات للتسوية مطروحة اليوم في الحكومة، هي:

الاقتراح الأول – وقد طرحته نائبة رئيس الوزراء وزيرة الخارجية، تسيبي لفني، وتعتمد فيه على المشروع الأميركي للتسوية المعروف باسم «خريطة الطريق»، لكنها أجرت تعديلات على تطبيقه. فهذا المشروع يتحدث عن ثلاث مراحل، الأولى والثالثة ملزمتان بينما المرحلة الثانية، التي تتحدث عن إعلان الدولة الفلسطينية في حدود موقتة، هي غير الزامية. وما تطرحه لفني هو التوجه الى المرحلة الثانية قبل تطبيق المرحلة الأولى، والانتقال فيما بعد للتفاوض على المرحلة الثالثة.

والدولة الفلسطينية المؤقتة التي تريدها لفني هي تلك التي تمتد حدودها على كامل قطاع غزة وعلى نصف الضفة الغربية من دون القدس. ونصف الضفة الغربية المقصود هو مناطق «أ»، التي تقرر في اتفاقات أوسلو أن تكون تحت السيطرة والسيادة الفلسطينية الكاملة ومناطق «ب»، التي تقرر أن تكون خاضعة اداريا ومدنيا تحت سيطرة السلطة الفلسطينية ولكنها من الناحية الأمنية تكون تحت سيطرة اسرائيل. وهي تقترح أن ينسحب الجيش الإسرائيلي من المنطقتين لتتسلمهما السلطة الفلسطينية، ولكن الانسحاب يكون مشروطا بضمانات أمنية، كما تقول لفني. فإذا تعرض أمن اسرائيل للخطر في أي حالة، يكون من حق اسرائيل ان تدخل الى المناطق الفلسطينية لازالة الخطر. بكلمات أخرى تريد لفني تطلب ابقاء سوط الاحتلال مشهرا فوق رأس السلطة الفلسطينية. ومع انها تتحدث عن ذلك كفترة قصيرة مؤقتة الى حين الانتهاء من المفاوضات الدائمة، إلا ان طرحها يحفظ لاسرائيل حق انتهاك سيادة الدولة الفلسطينية.

الاقتراح الثاني – وطرحه نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع، عمير بيرتس، بالتفصيل في مؤتمر هرتسيليا. وهو يتحدث عن تسوية دائمة خلال سنتين ونصف السنة مقسمة على النحو التالي: أولا ـ الإعلان عن هدنة شاملة واطلاق سراح الجندي شليط مقابل اطلاق سراح مجموعة كبيرة من السرى الفلسطينيين وإعادة التنسيق الأمني لمكافحة الإرهاب وازالة النقاط الاستيطانية غير الشرعية (التي أقيمت من دون تصريح حكومي وعددها 115 نقطة استيطان صغيرة في الضفة الغربية)، وتنشيط الاقتصاد الفلسطيني بدعم كامل من إسرائيل والرباعية الدولية وذلك كله خلال ستة اشهر. وثانيا- التفاوض على اتفاق مبادئ على طريق التسوية الدائمة تقوم خلالها دولة فلسطينية في حدود مؤقتة تشمل كل قطاع غزة ونصف الضفة الغربية (المنطقتين «أ» و«ب»)، ووضع الأسس لإعادة تشغيل مطار غزة وفتح معبر بين الضفة الغربية وقطاع غزة واستئناف العمل في بناء ميناء غزة البحري، وهذه ايضا تخصص لها ستة اشهر. وثالثا ـ بدء التفاوض على اتفاق سلام دائم لمدة 18 شهرا، وجنبا الى جنب مع ذلك يتم تطبيق البنود المتعلقة بالانسحاب من المزيد من المناطق وازالة المستوطنات وغيرها. الاقتراح الثالث ـ وطرحه نائب رئيس الوزراء وزير التطوير الاقليمي، شيمعون بيرس، وهو يتحدث عن مفاوضات على التسوية الدائمة ويطرح فيها مسالة الحدود في بداية اقتراحه فيقول، أيضا في مؤتمر هرتسليا المذكور، «نحن على استعداد للانسحاب من 90 في المائة من اراضي الضفة الغربية ولتبادل أراض في بقية المساحة وعلى استعداد لتسوية في القدس الشرقية على اساس أن تكون الأحياء العربية فيها جزءا من الدولة الفلسطينية والأحياء اليهودية جزءا من الدولة العبرية. وكل الخلافات بين الطرفين في القضايا السياسية يتم تحويلها الى المسار الاقتصادي. فالسلام لن يقوم على الأرض ولا على السلاح، انما على الاقتصاد، هو أهم عنصر أمني للشعبين وللدولتين. فإذا نفذنا مشروعا اقتصاديا كبيرا مثل مشروع تحويل الطريق من ايلات جنوبا (البحر الأحمر) الى نهر اليرموك شمالا (الجولان السوري)، الى مشروع سلام يخدم اسرائيل وفلسطين والأردن اقتصاديا، فستصغر المشاكل والخلافات». ويقول بيرس انه على طريق التوصل الى اتفاق السلام الدائم، لا باس من حلول مرحلية. ولكن هذه الحلول لا تفرض على الفلسطينيين طالما انهم غير متحمسين لها. ولذلك، فمن جهته لا يوجد مانع لاقامة دولة فلسطينية مؤقتة إذا رضي الفلسطينيون بها، ولا مانع من التقدم في التسوية الدائمة من دون دولة مؤقتة. وقال ان بالامكان أيضا أن يتم تسليم السلطة الفلسطينية مناطق واسعة من الأرض في المنطقتين «أ» و «ب»، وأكثر من ذلك ايضا، وفقا للحسابات والاعتبارات الأمنية.

الوزراء الثلاثة يطرحون عمليا اقتراحات تعتمد مبدأ التقدم بخطوات نحو التسوية الدائمة ويطالبون بأن يتم ذلك فورا ومن دون أي تأخير. ويعتبرون مثل هذا التقدم ضمانة أساسية لبقاء التركيبة الحالية للحكومة، ليس فقط من باب الرغبة في البقاء في الحكم فحسب، بل أيضا من أجل الأجندة السياسية. فإذا سقطت هذه الحكومة لأي سبب كان وتوجه الإسرائيليون الى انتخابات جديدة، ستكون النتيجة ـ حسب كل استطلاعات الرأي ـ سقوط النهج أيضا والأجندة السياسية الإسرائيلية التي تمثلت في الانقلابين المذكورين. وسيصعد الى الحكم اليمين الإسرائيلي بأجندته الحربية. فهم يدركون ان الوقت لا يجري لصالحهم. وان أي تأخير اضافي يزيد من نقاط قوة اليمين. ويسعون لاقناع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس (أبو مازن)، بقبول التسوية المرحلية باعتبار ان المستفيد الوحيد من الجمود الحالي هي قوى التطرف الإسرائيلية والعربية. ويجندون في ذلك الولايات المتحدة والغرب. وفي حزب «قديما» الحاكم، يخشون من تطورات داخلية اسرائيلية تمس في حكمهم وفي رئيس حكومتهم بشكل خاص. فهو سيخضع في بداية الشهر الى تحقيقات بوليسية في موضوع الفساد، فضلا عن التحقيقات في إخفاقات الحرب على لبنان. وقد بدأوا يستعدون لاحتمال اضطرار أولمرت الى الاستقالة والى احتمال سقوط بيرتس في الانتخابات الداخلية لحزب العمل. ويحاولون أن تقتصر مثل هذه التطورات على تغييرات داخلية، مثل استبدال أولمرت برئيس حكومة آخر من «قديما» (تسيبي لفني او وزير الأمن الداخلي، آفي ديختر، أو وزير الموصلات شاؤول موفاز)، واستبدال بيرتس بزعيم ىخر في وزارة الدفاع من حزب العمل، مثل ايهود باراك أو عامي ايلون. ففي هذه الحالة سيحافظ الائتلاف الحاكم على قوته، وهي قوة كبيرة جدا (78 نائبا من مجموع 120 نائبا). ولكن هذا السيناريو غير مضمون ايضا، حيث ان الليكود يحاول استعادة عدد من نواب «قديما»، وحزب العمل يحاول استعادة نواب آخرين منها. وعندها سيتم الانهيار من جديد وستتوجه اسرائيل الى الانتخابات مرة أخرى.

ويجمع المراقبون على ان الأمل الوحيد لبقاء هذه التشكيلة للحكومة هو تقدم جدي في المسيرة السياسية. والتقدم الجدي لا يكون في اجراءات وتسهيلات شكلية في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، بل في قفزات واضحة في المفاوضات تشعر الإسرائيليين بأن فرصة سلام حقيقية مع الفلسطينيين ومع غيرهم من العرب، ستضيع من بين أيديهم إذا عاد اليمين الى الحكم.