أمام الاختبار

أمين عام الأمم المتحدة: إدارة العشرات من النزاعات المسلحة و9 آلاف موظف و15 ألفا من قوات حفظ السلام و5 مليارات دولار ميزانية

TT

باسم الانسجام والثقة بدأ الأمين العام الجديد للأمم المتحدة بان كي مون، توجيه رسائل مختلفة البعض منها لإرضاء الولايات المتحدة وأخرى لكسب ود الدول النامية وأخرى لكسب ثقة الدول العربية، وقد بدا في الأسابيع الأولى من تسلم أكبر منصب للدبلوماسية الدولية حريصا على إرضاء أكثر من دولة على أمل وضع مفرداته الخاصة في قاموس الدبلوماسية الدولية. وفي أول خطاب له بعد مراسم أداء القسم أمام الجمعية العامة، بين أن من أهدافه الكبرى بناء الثقة وتحقيق نوع من الانسجام بين الدول الأعضاء في الأسرة الدولية. وقد منح انطباعا بأنه سيختلف عن سلفه الأمين العام كوفي انان، الذي قضى 10 سنوات في منصب الأمانة العامة للأمم المتحدة. وفي الأيام الأولى من وجوده داخل المبنى الزجاجي، أثار عدة قضايا وأكثر من سؤال، منها عدم إدانته لعملية إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، حيث بدا وكأنه ما زال وزير خارجية كوريا الجنوبية، اذ تناسى ما يمنحه له منصبه الجديد من ثقل سياسي وأخلاقي في العالم. غير ان المسألة التي لاقت ترحيبا من قبل واشنطن، هو كشفه عن الحسابات المالية للامم المتحدة، وقراره بإجراء تدقيق لحسابات المساعدات التي يقدمها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لكوريا الشمالية. ويتفق جميع من تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» على أن بان كي مون بحاجة إلى أن يؤسس نفسه وبحاجة إلى بعض الوقت لكي يستوعب التعقيدات الإدارية والسياسية لمنظمة بحجم الأمم المتحدة. وما يميز بان كي مون عن أغلبية أسلافه من الأمناء العامين هو حصوله وبسرعة لافتة للنظر على توافق الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن على اختياره ليكون الأمين العام الثامن للمنظمة الدولية بالرغم من كفاءة المرشحين الآخرين. ويرى سفير اليمن عبد الله الصايدي، الذي التقى بان كي مون أكثر من مرة حتى قبل انتخابه قائلا «إنه قد تم اختياره نتيجة لتوافق المصالح بين الصين وروسيا من جهة، والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى». ويضيف السفير «اعتقد أنه تسلم منصب الأمانة العامة نتيجة لطبيعة العلاقة الأميركية الكورية ونتيجة للتحالفات الجديدة في شمال شرق آسيا. كان من الصعوبة بالنسبة لواشنطن فرض مرشحها الخاص». ويمضي في القول «أما الصين فوجدت نفسها وفق حساباتها وضمن التحالفات الجديدة لشمال شرق آسيا، أمام خيار واحد هو دعم مرشح كوريا الجنوبية». ويبدو أن بان كي مون البالغ من العمر 62 عاما قد اكتسب احترام الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان أثناء دوره في محادثات السنوات الأخيرة لحل أزمة الملف النووي لكوريا الشمالية. ويقول جوزيف ناي الأستاذ في مدرسة كيندي الذي تعامل مع الملف النووي لكوريا الشمالية عام 1994 عندما كان مساعد وزير خارجية في عهد إدارة الرئيس الاميركي السابق بيل كلنتون «إنهم يعرفونه وشاهدوه كيف كان يدير دبلوماسية فعالة». قد يكون من المبكر الحكم على الأمين العام وحتى رسم ملامح أسلوبه وطريقة إدارته للأمم المتحدة وهو بالكاد أمضى شهرا واحدا في منصبه الجديد بعد أن شغل منصب وزير خارجية كوريا الجنوبية لمدة 10 سنوات. ولاحظ دبلوماسيون ومراقبون دوليون أن بان كي مون لا يتمتع بنفس الكاريزما التي كان يتمتع بها الأمين العام السابق كوفي انان، ولا يمتلك ذات القدرة في الاتصالات العامة وفي التعامل مع الصحافة، وإذا كان انان قد انتقد الإدارة الأميركية، خصوصا الحرب ضد العراق، وكذلك نقده الشديد لإسرائيل أثناء حربها الأخيرة ضد لبنان، فإن بان كي مون قد اختار الدبلوماسية الهادئة والتواضع. ويقول إداورد لوك المختص بشؤون الأمم المتحدة من جامعة كولومبيا «إنه رجل الأبواب الخلفية، ومن النوع الذي يسعى إلى إرضاء الجميع»، ويعتقد أنه سيصرف كثيرا من الوقت في المحادثات الهاتفية بدلا من مواجهة الدول الكبرى مثل سلفه كوفي انان. ويرى البعض أن الأمم المتحدة كمنظمة دولية تحتاج إلى الكثير من العلاقات العامة لكي تتجاوز الفضائح التي أضرت بالأمين العام السابق مثل فضيحة النفط مقابل الغذاء وانتشار ظاهرة التحرش والاستغلال الجنسي بين قوات حفظ السلام. وبما أن بان كي مون جاء من خارج المنظمة الدولية خلافا لكوفي انان الذي نشأ في حضن الأمم المتحدة وقد أثار هذا الأمل لدى واشنطن في أن يتمكن بان كي مون من تغيير الطريقة التي تدار بها شؤون أكثر من 9 آلاف موظف وحوالي 15 ألف من قوات حفظ السلام، إضافة إلى إدارة ميزانية الأمم المتحدة التي تبلغ سنويا 5 مليارات دولار. والمشكلة التي تواجه الأمين العام الجديد كما لا حظ السفير الباكستاني منير أكرم هي مدى قدرته على التوازن بين مصالح الدول الخمس الدائمة العضوية (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا). ويقول سفير جنوب أفريقيا دومينساني كومالو «إن التحدي الأكبر هو التوازن بين الضغوط التي سيشعر بها من قبل الدول الكبرى في مواجهة بقية الدول النامية». وأعرب دبلوماسي غربي رفض ذكر اسمه قائلا «إن بان كي مون يشعر أنه مدين للولايات المتحدة وللصين، وأن المشكلة الكبرى التي سيواجهها هي مدى التوافق بين مصالح هذين البلدين الكبيرين». وقد تجلت أول مشكلة من هذا النوع حين تسربت معلومات عن اختيار سفير أميركا الحالي في اندونيسيا لدائرة الشؤون السياسية. وأعلنت الصين رسميا رفضها لمثل هذا الاختيار، وقال السفير الصيني وانغ غوانغيا «إن من يصلح لهذا المنصب شخص من دولة أقل قوة من الولايات المتحدة، وأكثر حيادية منها». وبعد فشل الأجندة الأميركية في إصلاح هيكل الأمانة العامة بسبب معارضة الدول النامية أو ما يسمى بمجموعة (77) أخذت تتطلع واشنطن إلى التخلي عن إدارة الشؤون الإدارية والمالية وتتجه نحو إدارة الشؤون السياسية أو شؤون عمليات حفظ السلام. وفي الوقت الذي تتطلع فيه واشنطن إلى الإصلاح الإداري لهيكل المنظمة الدولية في الوقت ذاته شككت عدد من الدول بأجندة الإصلاح التي بدأها الأمين العام السابق كوفي انان. ويقول السفير الباكستاني منير أكرم «ليس من الواضح أن هناك أجندة أميركية، ولكن هناك اهتماما مشتركا لرؤية الأمم المتحدة فعالة ومرضية وأكثر مهنية، وبالتأكيد أن غاية الإصلاح هو تحقيق أهداف واضحة وحتى الآن لم نتفق على طبيعة هذه الأهداف». وهذا التضارب في المواقف إزاء مسألة الإصلاح قد يعرقل مهمة الأمين العام الجديد الذي منح هذه المسألة أولوية خاصة. وربما هذا ما أثار موجة من النقد وولد أحساسا بالخيبة حسب قول دبلوماسي غربي رفيع المستوى وتابع قائلا «إنه قد اختار أشخاصا لمناصب مهمة من دون أن يتمتعوا بالكفاءة والقوة المطلوبة». وهو بذلك يشير إلى المكسيكية إليسا بارسيا زيبارا التي اختارها لإدارة الشؤون الإدارية والمالية، والتي لا تتمتع بخبرة في هذا المجال سوى أنها موظفة مدنية من الطراز الأول، حسب قول المقربين منها. ويضيف نفس المصدر الذي رفض ذكر اسمه «يبدو أن بان كي مون لم يكن منظما بما يكفي لاختيار موظفين للمناصب الرفيعة، رغم أنه قد انتخب منذ شهر اكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وهذا ما يمنحه الوقت الكافي لاستجواب عشرات الأفراد للمناصب الرفيعة». وشككت بعض دول عدم الانحياز بقدرة وزيرة خارجية تنزانيا عائشة روز ميغيرا التي اختارها نائبة له في إدارة قضايا الإصلاح التي أوكلها لها وكانت تتطلع (مجموعة عدم الانحياز)، حسب قول ذات المصدر إلى خيار أفضل من بين دولها. وبالرغم من هذا وجه بان كي مون رسائل مختلفة لدول العالم الثالث والقضايا الساخنة التي تشغله فوضع من ضمن أولوياته الأساسية قضية الشرق الأوسط وقضايا أفريقيا على رأسها النزاع الدائر في دارفور، الذي سيكون القضية رقم 1 في اجندته وجدول اعماله، إضافة بالتأكيد إلى الملف النووي الإيراني والملف النووي لكوريا الشمالية. وكما أفادت مصادر دبلوماسية تحدثت إليها «الشرق الأوسط»، بأنه طلب لقاءات دورية مع مجوعة الدول العربية للاستماع إلى مواقفها وآرائها. وقال السفير اليمني عبد الله الصايدي «إن ما يهم المجموعة هي الجوانب السياسية، رغم أهمية الإصلاح». وذكر أن الأمين العام الجديد قد ابلغهم بأنه سيمنح أولية عالية للشرق الأوسط وللصراع العربي الإسرائيلي، وقال «إنه على قناعة بأن هذا الصراع يشكل حجر الزاوية في حل الكثير من القضايا التي تواجه منطقة الشرق الأوسط». وبالرغم من التفاؤل التي أبدته المجموعة العربية، لكن تعيين أميركي محسوب على المحافظين لرئاسة دائرة الشؤون السياسية ستشكل صفعة للمجموعة. وحتى الآن لم ينف مكتب الأمين العام نيته في تعيين السفير الأميركي لدى اندونيسيا بيرتون لين باسكو، وهو دبلوماسي مخضرم خدم تحت إدارة الديمقراطيين والجمهوريين، غير أنه كما تشير المصادر محسوب على المحافظين الجدد فى اميركا. ولم تخف عدد من الدول على رأسها الصين وروسيا انزعاجها من هذا الخيار، خصوصا مع تصاعد معاداة السياسة الأميركية في جزء كبير من العالم بسبب عملياتها العسكرية في العراق وأفغانستان والصومال. وقال دبلوماسي رفيع المستوى من أفريقيا رفض ذكر اسمه «من المحتمل أن يرسل تعيين السفير الأميركي لرئاسة دائرة الشؤون السياسية رسالة خاطئة». وتابع «ربما سينفذ سياسة الأمم المتحدة، ولكن سينظر إليه وكأنه ينفذ سياسة وزارة الخارجية الأميركية». وهذه الدائرة عادة ما تتعامل مع الملفات الساخنة التي تديرها الأمم المتحدة مثل القضية الفلسطينية والملف اللبناني والصومالي، إضافة إلى ملفات أخرى في أفريقيا وآسيا. وعادة كان يذهب هذا المنصب إلى بريطانيا حتى كسر الأمين العام السابق كوفي انان حين وضع الأفريقي ابراهيم جمباري على رأس هذه الدائرة. وقد سعت بريطانيا إلى استعادة هذا المنصب غير أن الأمين العام الجديد اختار بريطانيا ممثلة في السير جان هولمز سفير بريطانيا لدى فرنسا لإدارة شؤون المساعدات الإنسانية.

وأوضحت الناطقة الرسمية باسم الأمين العام ميشيل مونتاس قائلة «إن الأمين العام على وعي بما يمكن أن يثيره تعيين أميركي الجنسية لإدارة الشؤون السياسية». ولكن باني كي مون قد يتراجع عن هذا التعيين كما لمحت الناطقة الرسمية. ويقوم حاليا بإعادة هيكلة دائرة الشؤون السياسية ودائرة شؤون عمليات حفظ السلام لكي تتحول إلى ثلاث دوائر واحدة لإدارة الشؤون الإدارية والمالية لعمليات حفظ السلام وأهرى لعمليات حفظ السلام وثالثة للشؤون السياسية ونزع السلاح. ومن الواضح أن الطريق طويل أمام الأمين العام الجديد الذي ولد عام 1944 في السنوات الأخيرة للاحتلال الياباني لجزيرة كوريا، وقد كان عمره عندما تحررت كوريا أربع سنوات. وعندما اندلعت الحرب الكورية كان عمره ثماني سنوات. وتفيد سونغ أه شوا، التي رافقته لمدة 10 سنوات كناطقة باسم وزارة الخارجية الكورية، «إنه لا يمكن القول إنه قد ولد في عائلة فقيرة، لأن كوريا كانت تحت الاحتلال الياباني لمدة 40 عاما، وبعد التحرير اندلعت الحرب فكوريا كلها وقت ذاك، كانت تعاني من الفقر وويلات الحرب». وتذكر أن وعيه السياسي قد تفتح مع وجود الأمم المتحدة التي قدمت الكثير لكوريا. وتقول «إنه ينظر إلى الأمم المتحدة بشكل مختلف عن الأجيال التي ولدت أثناء السبعينات وما بعدها»، وعندما كان في المرحلة الثامنة من الدراسة وجه رسالة إلى الأمين العام الأول داغ همرشولد، وقرأها أمام تلاميذ مدرسته، لكنه لا يعرف حتى الآن فيما إذا أرسلها معلمه إلى همرشولد. ويذكر بان كي مون أنه قد حصل وهو طالب في المرحلة الإعدادية، على منحة من منظمة الصليب الأحمر لتعلم اللغة الإنكليزية في أميركا، ووجد نفسه في البيت البيض لمقابلة الرئيس الراحل جون كيندي، ويقول «إن هذا اللقاء أقنعني بأن أكون دبلوماسيا». وبددت شوا التي تعمل حاليا في مكتب الناطق الرسمي للأمين العام، الشائعات عن توجهاته الدينية، وقالت «إنه ينتمي إلى جذور الثقافة البوذية، التي تمتد جذورها في كوريا لمئات السنين». وأضافت «إنه لا ينتمي رسميا لأي دين ولا يمارس أية طقوس دينية، ولا يذهب إلى الكنيسة أو إلى أي معبد، سوى أنه يؤمن بحق الإنسان في التدين وباختيار ما يناسبه من الأديان». ويتوقع دبلوماسيون على معرفة ببان كي مون، أنه لن يؤسس نفسه كأمين عام للأمم المتحدة من خلال الإصلاح، وإنما من خلال العمل السياسي والدبلوماسية الهادئة، بعد أن يستوعب دينامكية التعقيدات السياسية التي تميز المنظمة الدولية.