سجين السراي

السنيورة محاصر أمنيا يستمع للأخبار في الراديو ويصحو فجرا على صوت المعارضين تحت فراشه.. يمضغ كل شيء بتأن حتى الماء

TT

لا يزال رئيس مجلس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة صامدا في عين العاصفة السياسية، التي تجتاح لبنان، وتسعى الى قلب موازين السلطة لحساب فريق المعارضة. هو يتحمل بصبر يفوق التصور، المحاولات الداخلية والاقليمية لاسقاطه واطاحة انجازاته، وابرزها القرار الدولي 1701، الذي وضع لبنان على سكة الأمان العسكري والاجتماعي بعد العدوان الاسرائيلي في يوليو (تموز) الماضي، وأحدثها «مؤتمر باريس ـ 3»، الذي يفترض أن يضع لبنان على سكة الأمان الاقتصادي. لا يزال السنيورة صامدا يسمع بأذنيه كل مساء الهتافات التي يرددها المعتصمون تحت نافذته مطالبين برحيله. يحاول قراءة الظرف السياسي والتاريخي الذي يعيش وطأته، وهو ينظر من النافذة الى الخيم المنصوبة عند المدخل الجنوبي للسراي الحكومي حيث يرابط، هاجرا منزله لأسباب أمنية حتى انتهاء الأزمة الحالية. يوقن أن ما يواجهه لم يعرفه أي سياسي آخر. وإذا عرفه لم يستطع الصمود حياله بالشكل المناسب، ومن دون تقديم تنازلات تمس جوهر ما يؤمن به. قد يسأل كيف تضافرت جهود المعارضة ضده في الخطاب والتوصيف والظلم، لإرغامه على القبول بشروط يعتبر انها ستفقد لبنان سيادته المستعادة بعد معاناة من الوصاية السورية، التي دفع رفيق دربه الرئيس الراحل رفيق الحريري حياته ثمنا لها؟ لكنه سيواصل فهو القائل: «حين يصل الانسان الى موقع مسؤول، عليه ان يتخلى عن الحقد. وأنا أنسى الإساءة مستوحيا قول الشاعر: لا يعرف الحقد من تعلو به الرتب.. ولا ينال العلى من طبعه الغضب». والسنيورة تعوّد منذ الأول من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، على ان يفيق فجرا على ايقاع الضجة المتعمدة التي يحدثها المعتصمون في خيامهم المنصوبة. يؤدي صلاته ثم يبدأ نهاره مع الملفات المكدسة فوق الطاولة.

لا يزال يفضل الاطلاع على الاخبار من جهاز الراديو. يعتبر ان التلفزيون يسمره امام الشاشة، فلا يستطيع القيام بأي نشاط آخر. لكنه لم يعد يبدأ نهاره مع الموسيقى اثناء عمله، كما كان يفعل في الأيام الخوالي. حركته قليلة. لا يغادر السراي ولا يمارس حياته مثل بقية الناس. يفتقد الاجازات وأيام العطل. ويشتاق الى تفاصيله الخاصة وأجوائه العائلية. لم يستطع الاحتفال بخطوبة ابنه. طلب إليه الحضور الى السراي ليهنئه. وتأثير هذه الظروف عليه تخلف لديه غصة على الصعيد الانساني، فهو عاطفي بطبعه وقريب من اولاده وعائلته. والحياة القسرية التي يعيشها صعبة. فالرجل يفتقد في اقامته الحالية الهواء الطلق والطبيعة، وهو الذي أمضى طفولة غلب عليها الحب والشقاوة، كما قال في حوار سابق مع «الشرق الأوسط». كان يغزو بساتين العائلة وينصت بسعادة الى صوت المؤذن في أحياء صيدا القديمة، بوابة الجنوب اللبناني، حيث أبصر النور في عام 1943. ترعرع في مجتمع صغير ومتواضع، فيه الكثير من راحة البال والسكينة. حفظ القرآن في طفولته وشغف بالشعر العربي والموسيقى والغناء الذي ارتبط في باله بالفترة الثورية مع عبد الحليم حافظ. في اجواء مدرسة المقاصد في صيدا تشرب القومية العربية، وانخرط في حركة القوميين العرب. اما اهتماماته السياسية فتفجرت مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ورث عن والدته صوتا رخيما والكثير من التقوى. فيما ورث عن والده الكفاح والصبر وبرودة الاعصاب. ذات مرة كتب سمير عطا الله ان «أبا سامي» (والد فؤاد السنيورة) أوصى ابنه ان يعد الى المائة وليس الى العشرة قبل اتخاذ اي قرار. أوصاه ان يمضغ كل شيء بتأن حتى الماء، ليتجنب الوقوع في الخطأ. والسنيورة حفظ الوصية. تعرف الى زوجته هدى صدفة. ومنذ اللقاء الأول عرف انه سيتزوجها ولن يفترقا. فهي الحب الأخير في حياته. قبل ذلك عاش حكايات حب كثيرة. لم يقدم هدايا ثمينة الى اي من اللواتي أحبهن سابقا. كان يشعر ان شخصه يكفي كهدية ثمينة. لكن هديته الأولى الى هدى كانت حبة الماس أحضرها من بلجيكا. والثانية عقد لؤلؤ من البحرين. وهي أهدته ثلاثة أبناء هم: وائل وزينة ومي. كان يعرف انه الوزير الأكثر اثارة للانتقادات والأقل شعبية، فيعلق على الأمر ضاحكا: «اوجدي لي وزير مال له شعبية ويحبه الناس». ليضيف: «اسعى الى تأمين استمرارية بلاد أكلتها السياسة، وساهمت في تأزيم الاوضاع الخلافات وطبيعة التوزيع الطائفي للبنانيين. لكننا لا نستطيع استيراد مواطنين من الخارج».

بالطبع لا يزال السنيورة على رؤيته للاوضاع اللبنانية. فكرة التردد والاسف لا تراود ذهنه. ودمعته التي خرجت الى العلن حزنا على الاطفال الضحايا الذين سقطوا في العدوان الاسرائيلي الأخير، والتي يستخدمها خصومه في السياسة ضده، لم تضعف ارادته لمواجهة الازمة الحالية والخروج منها الى رؤية متفائلة بلبنان القادر على استرجاع استقراره وازدهاره.

وهذا التحدي ليس الاول في مسيرته السياسية. فقد تعرض السنيورة بين العامين 1998 و2000 لتجربة مريرة. آنذاك هدده فريق رئيس الجمهورية اميل لحود بالسجن ولاحقه وساق ضده جملة اتهامات وشائعات. وذلك في خضم الحملة التي طاولت الرئيس الراحل رفيق الحريري وفريق عمله. سئل: لماذا لا يهرب، فأجاب: «وطني ليس حقيبة سفر». وقال في حينه لـ«الشرق الأوسط»، ان تلك المرحلة كانت الأصعب في حياته. لكنها لم تدفعه الى الندم، ليؤكد انه لو عاد به الزمن الى الوراء لكرر ما كان يفعله. هو لم يسع الى السلطة. جاءته صدفة عبر صداقة العمر التي جمعته بالرئيس رفيق الحريري، ليسير واياه على دروب الحياة ويحظى بثقته فيسلمه الحريري مفتاح خزنة المال وخزنة الاسرار. فهو يحتفظ بالكثير من اسرار العلاقات بين الحريري والآخرين. يعلن كم يفتقده. يتذكره دائما من خلال وقائع معينة. ويستعيده بكل جوانب شخصيته الانسانية والسياسية والصعوبات التي مر بها. يستعيد كيف كان الرئيس الحريري ينظر حوله بحذر، عندما كان يريد ان يعطي رأيا ما. عندما يتطلع الى السنوات الماضية من 1992 الى 2005 وعندما يسمع الانتقادات عن تلك الفترة يتذكر كيف كان الحريري يحمل الاعباء، وكيف بقي صامتا لسنوات طويلة، ومدى الصعوبات التي تحملها صديقه الراحل خلال توليه رئاسة الحكومة. ويتذكره في الأمور الشخصية والنكات. الحريري حاضر معه دائما.

وبديهي ان تكون علاقته بسعد الحريري قوية، فهو يعرفه منذ صغره. وعندما كان سعد يقود حملته الانتخابية في قريطم، كان السنيورة واقفا الى جانبه يراقبه بتأثر وحنان. سألته عن رأيه. فأجاب: لقد انطلق وسيصل. وهذا جيد.

واليوم يجد السنيورة نفسه في عين العاصفة السياسية، ولكن في منصب رئيس وزراء لبنان، ليضطر الى التعامل مع وقائع جديدة. لكن العاصفة خارج بابه منذ 60 يوما لم تغيره. وفيما تتصاعد الهتافات ضده عبر مكبرات الصوت الموجهة نحو السراي، يجلس خلف مكتبه آخر النهار يوقع الملفات المتعلقة بتعويضات الجنوب. ويستفيق كل صباح وهو يفكر في المشروع الفلاني والقرض العلاني. عقله يشتغل دائما بهذه الطريقة، حتى في أصعب الفترات. عندما أصبح رئيس حكومة كان بروفايل وزير المال غالبا عليه، ولكن لفترة قصيرة. لم يطل الأمر حتى واجهته ظروف وطنية جسيمة وأزمات كبيرة تمثلت في الاغتيالات والاعتكاف الاول للوزراء الشيعة جراء المطالبة بالمحكمة الدولية، من ثم جولات الحوار والتشاور وحرب يوليو(تموز)، وأخيرا استقالة هؤلاء الوزراء بعد اقرار مشروع المحكمة الدولية. ناهيك عن قلقه على «باريس ـ 3» اذا بقيت الأمور على حالها لأن النتائج ستكون محدودة.

وهكذا اصبح رجل المال رجل دولة بسرعة لم تألفها الذاكرة اللبنانية، حيث اصعب الأشياء في لبنان ان تتغير الصورة التي ترسخ عن مسؤول ما. لكن غياب قيادة رئاسة الجمهورية للأسباب المعروفة، اضافة الى التطورات المحلية والاقليمية التي وضعت لبنان تحت المجهر، دفعت فؤاد السنيورة الى دوره الجديد حتى جعلته أسير السراي والعواصف المحيطة به. يقول عنه مستشاره السفير محمد شطح: «واكبته في مراحل محتدمة بالمعنى السياسي. انه من النوع الذي يزداد ثباتا في العواصف. من حوله يتأثر ويضطرب نتيجة الضغط الكبير، ليبقى السنيورة استثنائيا بثباته وهدوئه، مع معرفته ان الثبات بحد ذاته ليس حلا. لكن في هذه الازمة تحديدا الثبات مهم واساسي، لأنه يصد الهجوم الذي يشن على النظام والديمقراطية وقواعدها في لبنان، ويسعى الى اجهاض محاولة القضاء على المؤسسات وتدمير هيكل الدولة بغض النظر عن الاعتراضات عليه او الانتقادات بأنه غير كامل». ويشير الى «ان السنيورة ليس جامدا في ثباته. فهو يتحرك. يحاول بكل الطرق ان يتعامل مع العاصفة بايجابية وحوار وتواصل. احيانا ينجح واحيانا لا يصل الى مراده». لكن البعض يأخذ على السنيورة عدم قدرته على الحزم وسوء ادارته الأزمة منذ المراحل الاولى لتوليه رئاسة الوزراء، سواء لجهة قبوله بالتسويات المعتمدة على انصاف الحلول أو لجهة عدم تحصين مواقف الاكثرية التي يمثلها، بخطط واضحة المعالم، لا سيما على الصعيد الأمني. ما أدى الى ميوعة في أداء الأجهزة الأمنية حيال التطورات المأساوية نتيجة غياب التوجيه السياسي. وهو يدفع الثمن حاليا. ألم يكن بإمكانه ان يأخذ تدابير تحول دون وصول المعتصمين الى باب السراي؟ أين الاوامر السياسية للأجهزة الأمنية التي تحول دون احتلال املاك الغير واثارة اعمال الشغب؟ لماذا لم يحصن السلطة الأمنية لتواجه هذه الاحداث ولا تكتفي بالوقوف على الحياد؟

العالمون بأمور التركيبة اللبنانية، يؤكدون ان مفهوم الحزم في لبنان يختلف عنه في دول اخرى. فالادارة اللبنانية ـ السورية للدولة بعيدا عن المؤسسات منذ عام 1989 حتى عام 2005 ادت الى القبول بأمور غير طبيعية، وأنتجت مربعات امنية وسلاحا خارج المخيمات ووضعا استثنائياً في الجنوب. وخلفت معايير متدنية للقوانين ابتداء من قانون السير وحتى ممارسات رأس الهرم. وحيال هذا الواقع، فضل السنيورة الوصول الى القانون بالتراضي. يبدو ان الامر لم يعجب البعض، فأرغم على خوض صراع لتحقيق مشروع المحكمة الدولية. وهو لا يخوض هذا الصراع انطلاقا من علاقته الشخصية بالرئيس الراحل رفيق الحريري، انما ايمانا منه بأن قضية اغتيال الحريري يجب ان تصل الى نهايتها لأنها حماية للناس ولبنان وللمعرضين للاغتيالات. فهذه القضية تتجاوز الحريري لتنعكس على البلد. والمحكمة الدولية تضع لبنان على بر الامان.

أراد أن يمهد الطريق لقيام الدولة القوية التي لا تحتاج تشاورا ومفاوضات لتطبيق القانون وبناء الدولة. والامر يتطلب مساهمة القوى السياسية مجتمعة. ولكن ايمان بعض هذه القوى بالدولة اقل بكثير من ايمانه بها. وهي ليست قوى ثانوية. لأنها تملك القدرة على ادخال البلاد في الازمات الطائفية. كما حصل عندما تحول الخلاف السياسي طائفيا مع استقالة الوزراء الشيعة. من هذا المنطلق لا يملك السنيورة الا أن يسير بين الالغام مع معرفته ان هناك من يضع العصي بين اقدامه. قد يكمن مصدر الالغام في استغلال حزب الله الدعم الذي يخصه به الرئيس الاميركي جورج بوش، لتجديد الهجوم عليه واعتباره «أداة اميركية» وظيفتها القضاء على المقاومة. لكن القريبين من الرجل، يؤكدون انه لا ينظر الى نفسه في مرآة جورج بوش او جاك شيراك او انجيلا ميركل او غيرهم. ولا يقيس عمله او نجاحه او خطواته من وجهة نظر خارجية. وهو يحرص في لقاءاته الدولية ليس على رفض الانتقاد الذي يوجه الى حزب الله فحسب، وانما يدافع عن موقع هذا الحزب على رغم اختلافه السياسي معه. وبوضوح يقول ويكرر ان حزب الله ليس ارهابيا، وانما هو جزء من تاريخ لبنان. ولأنه لا يؤمن بالتعامل مع الدول من منطلق العداء الكامل والمقاطعة، يصنف مستوى صداقتها للبنان والعرب. يسعى للحصول منها على ما يمكن الحصول عليه لمصلحة لبنان والعرب. فهو يراهن على الايجابيات ويفكر بالحد الاقصى الذي يمكن ان يكسبه من الذين يقفون في الجانب الآخر. ولم يتوقع السنيورة ان ينقله حزب الله بعد حرب يوليو (تموز) من رئيس لـ«حكومة المقاومة» الى رئيس لـ«حكومة فيلتمان»، (جيفرى فيلتمان السفير الأميركي في بيروت). اثر الأمر فيه كثيرا وأحس بألم جراء ذلك. فهو عاش الحرب ليلا نهارا ليؤمن وقف النار والانسحاب الاسرائيلي وعودة الناس الى الجنوب وعدم تكرار العدوان بعد عام. ووضع البلد على طريق حل دائم للجنوب. يقول جميع الذين رافقوه في تلك المرحلة، انه كان يعمل على كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة. كان يهتم بالمهجرين ويحزن اذا عرف ان اطفالا في مدرسة لا حليب لديهم. وعندما انتهت الحرب، وجد نفسه ليس رئيس «حكومة فيلتمان» فحسب، وانما رئيس حكومة متواطئة مع الاسرائيليين. لم يكن يتوقع ذلك. حاول ان يتصل بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. لكنه فوجئ بتزامن هذه الهجمة على الحكومة مع بتر لكل انواع التواصل. ولأنه بطبيعته يسعى الى التواصل ويتصل بالاخرين حتى لو اساؤوا اليه، فاجأه ما حصل وازعجه. وهو مقتنع بأن الانقطاع مع الحزب يساهم في خلق صورة مشوهة عن الواقع. فالاتهامات التي صدرت اخيرا ربما نسج قسم منها بناء على جهد متعمد وبعيد عن الواقع، وذلك من قبل جهة تتعمد نقل هذه الصورة المشوهة والمعلومات المضللة الى نصر الله.

كذلك تؤخذ عليه ازدواجيته في تعامله مع رئيس الجمهورية اميل لحود. تارة يتفق معه على التعيينات والتشكيلات، ثم يختلف معه بعد ذلك، مستعيدا موقفه كممثل لفريق «14 آذار» على رأس مجلس الوزراء، ليعود ويتفق معه على امور ثانية. يوضح شطح هذه المسألة، فيقول: «رئيس الحكومة لم يقاطع رئيس الجمهورية. لحود يحضر اجتماعات مجلس الوزراء عندما يريد. كل القنوات الدستورية مفتوحة وكل الاجراءات تسير وفق الاصول. مع العلم ان السنيورة جاء من فريق سياسي لديه مشكلة كبيرة مع التمديد ومع رئيس الجمهورية. ورغم ذلك لم يقاطعه لا بالشكل ولا بالمضمون. يدعوه الى الجلسات ويرسل اليه جدول الاعمال والمراسيم. المشكلة الآن معكوسة تماما. رئيس الجمهورية، الذي وضع نفسه في المعارضة ويتصرف كفريق، يقاطع رئيس الحكومة القائمة شرعيا». من هنا يمكن القول ان غياب موقع رئاسة الجمهورية التي يجب ان تكون جامعة للشعب اللبناني وحاضنة للسلطات وعزلتها وتخلفها عن اداء دورها حتى اذا ارادت ذلك، شجع السنيورة على تجاوز حجمه كرئيس للحكومة، وتحديدا في ظل الدعم الدولي والعربي الذي يحظى به. ولكن هذا الطرح قد يقود الى الاستنتاج ان رئيس الحكومة السني غيّر الصيغة اللبنانية القائمة على ترويكا الحكم بين الرئاسات الثلاث، ليستأثر بالسلطة كممثل لأكثرية، لا تتوقف المعارضة عن اتهامها بأنها وهمية.

ينفي شطح أي رغبة لدى السنيورة والأكثرية للاستئثار بالحكم. يقول: «هذا وضع استثنائي ولا يصح أن يكون. فالنظام الذي توصل اليه لبنان منذ 18 عاما (اتفاق الطائف) بعد جهد جهيد وحروب قاسية وطويلة اسفر عن توزيع مهم وأساسي للمسؤوليات ويجب ان يطبق. الوضع الحالي يعكس خللا كبيرا. وغالبية الشعب اللبناني احست ان البداية غير سليمة. عندما حاول لبنان ان يحكم نفسه بنفسه بعد انحسار الوصاية السورية، كان يجب ان تكون الأرضية سليمة، أي أن تتوفر رئاسة جمهورية تقوم بدورها ورئاسة حكومة تقوم بدورها ومجلس نواب يقوم بدوره. فؤاد السنيورة من اكثر الناس الذين يشعرون بهذه المشكلة. لذا يحاول التصدي لها من خلال مشروع الدولة، الذي يسعى الى إرسائه». وبين السعي والصمود للبقاء يقبع السنيورة في زاوية حادة، وهو الذي حمل في رصيده اجادته تدوير الزوايا. اين اصبحت هذه المهارة. هل فشل وانكفأ؟ قد يصح القول إن لبنان بأسره في الزاوية، لا سيما بعد تضافر جهود أطراف داخلية وأخرى اقليمية لتأزيم الوضع. السنيورة لا يغفل عن هذا الواقع ويتحداه على طريقته، ومن خلال دعوته الذين اتخذوا مواقف حادة الزوايا الى الحوار. فهو ما ان عاد من مؤتمر «باريس ـ 3»، حتى سارع الى الاتصال برئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، وحتى بأفرقاء آخرين منهم رئيس «التيار الوطني الحر» النائب ميشال عون، الذي لم يرد على المكالمة. فهو بطبيعته يفترض الجيد في الناس، ويرجح حسن النية للدوافع والجانب الايجابي للمواقف. ويحرص على تجنب الخطأ وعدم الوقوع في التقصير. هذه هي تركيبته الشخصية. من الناحية الانسانية والناحية الشخصية يضع نفسه في الموقع المواجه.

وفي حين يأخذ البعض عليه هذه الايجابية المفرطة، هو لا يتوهم انه قادر بمفرده على اخراج لبنان من الزاوية. ولا يعتبر عجزه فشلا خاصا به، بل فشل لجميع اللبنانيين الذين يراقبون اين يؤخذ لبنان، ومع الأسف ينقسمون عوضا عن الاجتماع. من هنا يعتبر السنيورة ان المعركة ليست معركته الشخصية. يرى انها أكبر من رئيس حكومة وحتى حكومة مجتمعة. وصموده لا يهدف الى الاحتفاظ بالكرسي. هو في موقع يلزمه حماية لبنان. وليس في موقع فريقين احدهما سينتصر. والا سيكون النظر محكوما برؤية غير دقيقة للمشهد السياسي. فلبنان يحاول منذ سنة ونصف السنة، ان يحكم نفسه بنفسه وفق نظام ليس مثاليا لوجود الكثير من الثغرات. لكن لا يمكن تجاهل قواعد هذا النظام وفرض التغيير بالقوة. فهذا الامر يؤكد أن كلمة «انقلاب» التي تستعمل هي في محلها. لكن هناك قوى تعتبر أن السنيورة هو معركتها الشخصية. ويورد العارفون انه النظام السوري في الجوهر يكره السنيورة، لأنه لا يخطئ في الكلام، فيعطي هذا النظام ذريعة. هو يعرف كيف يخاطب السوريين وغيرهم بالمنطق. ويبدأ معهم بتجريدهم من كل ردود الفعل، حيث يركز على العلاقة التاريخية والاخوة والمصير المشترك. ثم يقول: لكن. هذه الـ«لكن» تثير جنونهم لأنها تتحدث عن ترسيم حدود بين لبنان وسورية وتبادل للسفارات واحترام للسيادة. وكل ذلك ببرودة أعصاب وقدرة على الحديث من دون توقف ما يزعج حلفاءه فكيف بأعدائه؟

لا سيما انه متحرر ومستقل اكثر مما كانه الحريري، الذي اضطر الى المسايرة لتمرير مشاريعه العمرانية والسياسية. ولم يجهر بما يتعرض له. السنيورة أوضح منذ البداية خلال مداخلته الشهيرة في البرلمان، انه لن يحيد عن اي برنامج التزم به ولن يدخل في مساومات. ولعل هذا التوضيح جعل رحيله او في اضعف الايمان تحجيمه، مطلبا اجتمعت تحت رايته قوى كان بعضها حتى الأمس القريب في خانة الاصدقاء. فهو لم يتمكن من الانصهار الكامل في التركيبة اللبنانية المألوفة والقائمة على المحاصصة الموروثة التي يدفع ثمنها اليوم. كذلك لم يتمكن من الانتقال بالدولة من مجلس العشائر الى الحداثة. فاضطر الى المراعاة والموازنة بين المحاصصة والنظام البرلماني. ليكتشف أن الأزمة الحالية كرسته زعيما سنيا، رغم انه لا ينظر الى نفسه كزعيم سني، ولا يؤمن انه موجود لحماية الطائفة السنية، او ان تعرض موقعه للاهتزاز يضر بهذه الطائفة. مثل هذا الطرح الذي يختزل الوطنية عند حدود الطائفية يشعره بالخيبة. كذلك علاقته بالرئيس نبيه بري تركت لديه نوعا من الخيبة، بعد التشنج الذي بدأ يشوبها، لأنهما كانا متقاربين. وعملا كفريق في ظروف صعبة. يحاول تبرير الأمر بأن بري مضطر ربما الى هذه الموقف. والا كيف يفسر سحب بري لكل دعم يقدمه، ابتداء من حكومة المقاومة، ومرورا بزياتهما المشتركة الى الضاحية الجنوبية لبيروت بعد توقف القصف الاسرائيلي، وتصريح بري في ايران ان الحكومة دستورية ثم سحب التصريح بتوضيح، وتراجعه عن موافقة مبدئية على مبادرة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى لحل الأزمة. وأخيرا لجوء بري الى التوضيح عقب اتصال السنيورة به بعد عودته من باريس ان مدة الحديث لم تتجاوز الـ90 ثانية، ولم يتطرق سوى الى الجانب الأمني.

لكن الخيبة لا تؤدي بفؤاد السنيورة الى اليأس. لا يزال صامدا عند عتبة التفاؤل. يواجه الاعتصامات والاضرابات والفتنة الأهلية وأعمال الشغب بإعلانه متابعته مسؤولياته، ما دامت حكومة متمتعة بالشروط المحددة في الدستور اللبناني. وينتظر اقتناع المعارضة بأن الشارع لن يحل الأزمة وتلبيتها دعواته المتكررة الى الحوار، وبوتيرة ربما دفعت هذه المعارضة الى مزيد من التصعيد. لا شيء يبدل ايمانه بأن لبنان مشروع قابل للحياة ويستحق الجهد. رؤيته لما بعد الأزمة يترجمها بقيامة وطن ناهض ومزدهر. اما عن وسيلة العبور الى هذه الرؤية. فهو لا يملكها. الحل لا يعتمد عليه بمفرده، او على فريق الأكثرية. هو يطرق الابواب الداخلية والخارجية. واذا لم يجد جوابا ولم تفتح الابواب، لا يستطيع فؤاد السنيورة ان يفتحها.