رغم مرور ثلاثين سنة ونيف على ذلك اليوم المفرح المحزن في آن، ما زال جسد ابراهيم سليمان يرتعش في كل مرة تذكر أمامه الكلمتان المتزاوجتان في التاريخ الفلسطيني «يوم الأرض». ففي ذلك اليوم سالت دماؤه واضطره الجنود الى أن يلعقها «حتى لا تتسخ سيارتهم»، وفي ذلك اليوم تلقى ضربات فتاكة على كل قطعة من جسده لمّا يزل يحس بآلامها حتى اليوم. وفي ذلك اليوم شعر انه دخل عالم الموت وعاش من جديد بقدرة القادر. وفي الوقت نفسه، يشعر أن ذلك اليوم سجل في تاريخ شعبه كيوم انعطاف تاريخي، احتل فيه الكفاح محل القنوط وانتصر فيه النضال على النكبات والنكسات وصار للأرض حماة يرفعون رؤوسهم للدفاع عنها.
واليوم، بنظرة الى الوراء يجد بسعادة ما يرويه لأبنائه وأحفاده: «احكي لهم عن أحداث ذلك اليوم ومغزاه، أقص عليهم بعض الحكايات التي سمعتها من أناس آخرين شاركوا في أحداث ذلك اليوم. ولكنني اصارحك القول انني لا أدخل في تفاصيل كثيرة عن التعذيب في المعتقل، لأننا تعرضنا لإهانات من النوع الذي يجدر الصمت ازاءه».
وابراهيم سليمان، البالغ من العمر اليوم ثلاثة وستين عاما، لم يخرج في «يوم الأرض» للدفاع عن أرضه الخاصة، فهو لا يعرف قطعة الأرض التي ورثها عن والده، الذي ورثها عن جده. انه يعيش لاجئا في مدينة الناصرة. جاءها طفلا في الرابعة من العمر سوية مع والديه وبقية أشقائه. وبعد سنين من التنقل ما بين بيوت المدينة الحميمة بالأجرة، تمكن من توفير مبلغ من المال أعانه على شراء قطعة أرض فبنى عليها بيتا صغيرا من غرفتين، ثم راح يوسع البناء شيئا فشيئا، غرفة وشرفة، حتى أصبحت اليوم بمساحة فيلا، يوقف أمامها سيارته باعتزاز كبير.
لكنه في ذلك اليوم شارك في الاضراب مثل كل أبناء شعبه، وكان من نصيبه أن يقع بين أيدي، بل بين عصي الجنود الاسرائيليين وجاءت وجبته من الضرب والتنكيل والتعذيب دسمة بشكل زائد عن الكثيرين من زملائه. وهو حتى اليوم يتابع باهتمام خاص ما الذي حدث مع معارك الأرض وهل عادت بالفائدة على الفلسطينيين والى أين وصلت هذه القضايا وما الذي ينبغي عمله في هذه الأيام في الموضوع. وقد وافق على اشراكنا في أفكاره «حتى يعرف عالمنا العربي حقيقتنا نحن الذين يسموننا «فلسطينيي 48» وحقيقة انتمائنا القومي الوثيق، وفي الوقت نفسه حقيقة الاختلاف بين أحوالنا وبين أحوال أشقائنا الفلسطينيين الآخرين».
قصة «يوم الأرض» تبدأ منذ ما يزيد عن مائة سنة. وقد باشر بها اليهود الذين حضروا من مختلف دول العالم الى فلسطين وراحوا يشترون الأرض العربية بشكل جماعي. اشتروا مئات ألوف الدونمات، حتى استيقظ الفلسطينيون على المخطط. وعندما صحوا كان ذلك متأخرا جدا، إذ ان الحركة الصهيونية نجحت في السيطرة على مناطق كبيرة واسعة، مثل مرج ابن عامر وسهل الحولة ومعظم بيوت طبريا في الشمال وعسقلان ومحيطها في الجنوب والعديد من العقارات في القدس وغيرها.
ولكن الفلاحين الفلسطينيين بقيادة الشيخ المناضل عز الدين القسام، وهو سوري الأصل حمل السلاح وراح يدعو لمحاربة الانجليز، قرروا اعلان ثورة للدفاع عن الأرض. وكان ذلك اضرابا عن العمل في البداية، ثم أسميت تلك بثورة 36، كونها انطلقت في سنة 1936 (واستمرت حتى سنة 1939). وتمكن الانتداب البريطاني يومها من دق الأسافين في صفوفها حتى اهترأت وبدأت تتخذ منحى صراعي بين مختلف القوى والحمائل والقبائل وانتشرت في صفوف قادتها الميدانيين الصغار حساسيات وعداوات، ما لبث الفلسطينيون أن يستنتجوا منها ضرورة وقفها.
وقد ظل اليهود يستملكون الأرض من بعد ذلك من دون أن تنشأ قوة قادرة على وقف العملية إلا فيما ندر. وفي عام النكبة (1948) وتشريد غالبية الشعب الفلسطيني عن وطنه، وجد الفلسطينيون أنفسهم لاجئين داخل الوطن أو خارجه، وبدأوا يتعاملون مع الأرض باعتبارها العرض ومنحوها أهمية تصل الى حد القداسة، خصوصا أولئك الذين بقوا في الوطن وأصبحوا مواطنين في اسرائيل ويحملون الجنسية الاسرائيلية. فهؤلاء تعرضوا لعمليات نهب لأراضيهم وابعادهم عنها وحظر لاستعمالها بالقوة، فباتوا يرون فيها رمزا للوجود، إذا صودرت يكون الخطر بالترحيل داهما، لذلك حاربوا سياسة المصادرة.
والحكومة الاسرائيلية ايضا أدركت أهمية الأرض لها وضرورة مصادرة الأرض كرمز لإظهار قوة اسرائيل وسطوتها، فحرصت على الاستيلاء الدائم على هذه الأرض، فوضعت ايديها أولا على أراضي الغائبين (الذين رحلوا هربا أو تم ترحيلهم قسرا) وأقامت عليها ما لا يقل عن 350 بلدة يهودية، ثم سنت 18 قانونا اسرائيليا رسميا باتت أساسا لكل وسائل مصادرة الأرض. وكان العرب في اسرائيل يومها شريحة مستضعفة، صلتها مع شعبها الفلسطيني وأمتها العربية مقطوعة، بل كان هناك من يعتبرهم خونة بسبب بقائهم في الوطن، ولم يتمكنوا من صد الحملات الاسرائيلية على أراضيهم.
ولكن في سنة 1976، عندما قررت الحكومة الاسرائيلية الاعلان عن قطعة أرض مساحتها 17 ألف دونم تقع في منطقة البطوف (في الجليل) منطقة عسكرية مغلقة، انتفض العرب في اسرائيل وقرروا الدفاع عن هذه الأرض ومنع مصادرتها بأي ثمن. فشكلوا لجنة للدفاع عن الأرض مؤلفة من القوى الوطنية، التي اقتصرت يومها على الحزب الشيوعي الاسرائيلي، وهو الحزب الوحيد الذي أتيح للوطنيين أن ينشطوا في صفوفه، وبقايا الحركة القومية العربية التي حظر نشاطها في حزب قومي فبقيت تعمل بشكل خفي محدود. وقررت اللجنة اعلان اضراب عام للجماهير العربية ليوم واحد هو الثلاثون من مارس (آذار). وكما كان متوقعا، فإن الحكومة تجندت بكل مخابراتها وأجهزتها الأمنية الأخرى لاجهاض الاضراب الذي كان يعتبر في ذلك الوقت سلاحا نضاليا جبارا يتم استخدامه مرة في كل عشرين سنة.
الحكومة الاسرائيلية حاولت في البداية الغاء الاضراب بواسطة رجالاتها السياسيين من الأحزاب الصهيونية ورؤساء البلديات العربية المنضوين تحت لواء «اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية في اسرائيل».
وبوحي من السلطة الاسرائيلية عقد اجتماع للجنة في مدينة شفاعمرو، كان محاطا بدائرتين مهمتين، الأولى عبارة عن حزام من مئات الوطنيين الذين هرعوا لحماية الرؤساء الوطنيين من اعتداء بوليسي متوقع، والدائرة الثانية مؤلفة من رجال السلطة الذين انتشروا في عدد من البيوت القريبة ومن حولهم مئات رجال الشرطة والمخابرات وعلى رأسهم قادة جهاز المخابرات الذين حضروا لمتابعة الأمور عن كثب.
وفي داخل الاجتماع كانت الأجواء ملتهبة. الرؤساء الوطنيون بقيادة رئيس بلدية الناصرة، الشاعر الفلسطيني المعروف، توفيق زياد، يحاولون الدفاع عن قرار الاضراب بكل ما أوتوا من قوة اقناع، والرؤساء الموالون الذين يزيدون عنهم عددا وقوة يحاولون بكل قوتهم منع قرار الاضراب. وعندما رأى توفيق زياد ان الأكثرية مضمونة للسلطة أبلغهم: الاضراب هو قرار الشعب وسينفذ في موعده، ولكم أن تقرروا موقعكم، مع شعبكم ضد السلطة أو مع السلطة ضد شعبكم. فانقض عليه أحد الرؤساء الموالين، وهو شاب قوي البنية، وحاول الاعتداء عليه. فتصدى له زياد وعدد آخر من الرؤساء، وفي هذه الأثناء شاهد عدد من الشباب الوطني الذين راقبوا الأحداث من نافذة شباك آخر، فأبلغوا الجمهور، فاقتحم المئات قاعة الاجتماع محاولين الرد على ذلك الرئيس المعتدي. فتدخلت الشرطة ووقعت اشتباكات دامية.
واستغلت الحكومة في اليوم التالي نتيجة التصويت في لجنة الرؤساء لتعلن ان الاضراب غير قانوني، وأعلنت رسميا انها ستمنعه بالقوة. وتجندت اسرائيل بقضها وقضيضها لافشال هذا الاضراب. فقد أعلنت الشرطة انها ستوجد في الشوارع وتعتقل كل من يحاول منع العمال من النزول الى أعمالهم. وأعلنت الدوائر الحكومية انها ستفصل أي موظف حكومي بمن في ذلك معلمو المدارس، من العمل إذا لم يحضر الى العمل. وراح عشرات اصحاب المصانع الاسرائيلية والورش المختلفة يهددون بفصل كل عامل من عمله إذا التزم بالاضراب، وحتى اتحاد النقابات (الهستدروت)، أعلن انه لن يدافع عن أي عامل يفصل من عمله بسبب التغيب عن العمل في يوم الأرض. هذا التدخل الفظ في مسألة اعلان اضراب عام من أجل قضية عادلة وما رافقه من تهديدات، أخاف بعض الناس ولكنه في الواقع زاد من الالتفاف الجماهيري حول قيادة الاضراب، وبدا بوضوح ان الأكثرية ستلتزم بالاضراب.
وقد قررت الحكومة الاسرائيلية اجراء آخر محاولة لاجهاض الاضراب، ففي الليلة السابقة له، أي في 29 مارس، أنزلت الى الشوارع قوات كبيرة من الشرطة. وفي منطقة البطوف بالذات، حيث الضرر الأكبر من المصادرة، أنزلت الحكومة كتيبة من الجيش، وهذه أول مرة يحصل فيها مثل هذا الأمر. فالقانون لا يجيز للجيش العمل ضد المدنيين من مواطني اسرائيل، ولكن، عندما يتعلق الأمر بالعرب، من يسأل عن القانون في اسرائيل؟! وقد وقف على رأس القوة العسكرية الجنرال رفائيل ايتان، قائد اللواء الشمالي للجيش، الذي عين فيما بعد رئيسا لأركان الجيش فقاده الى حرب لبنان سنة 1982 وأدانته لجنة تحقيق اسرائيلية بمسؤولية ادارية عن مجازر صبرا وشاتيلا، ثم اصبح فيما بعد شخصية بارزة في اليمين الاسرائيلي. ويقول ابراهيم سليمان: «ايتان تدرب على مجازر صبرا وشاتيلا على دمائنا نحن». لقد اقتحم ايتان قرى البطوف المشهورة، عرابة وديرحنا وسخنين. ويروي ابراهيم سليمان ما شاهده في تلك الليلة، حيث كان في زيارة لشقيقته المتزوجة في عرابة، فيقول: «لم يكد الشبان العرب فيها يصدقون بأن الجيش قادم لقمعهم، فراحوا يتعاطون معه بشيء من «الدغدغة»، يقذفون حجرا على دبابة ويتراكضون أمام سيارة جيب عسكرية. لكن ايتان حرص على أن يفهموا ان المسألة جدية أكثر مما يتوقعون. فأمر قواته بالتقدم في قلب قرية عرابة، داخل الأحياء. وقد ضلت إحدى الدبابات طريقها في قلب الحي فحاصرها الشبان وهم يحملون الحجارة والعصي. فاتصل ايتان برئيس المجلس المحلي، المرحوم محمود سعيد نعامنة، وهدده بالويل والثبور إذا لم تحرر الدبابة فورا. فطالبه بأن يتعهد بالمقابل بسحب قواته. فوعد بذلك. وانسحبت القوات وحررت الدبابة.
لكن ايتان لم يرغب في انهاء المعركة على هذا النحو، خصوصا بعد أن شاهد الشباب يحتفلون بالنصر على قواته، فما أن تسلم الدبابة الأسيرة حتى أمر باطلاق الرصاص على الشبان المحتفلين. وهكذا سقط أول شهيد في معركة يوم الأرض، خير محمد ياسين. وجرح ثمانية شبان آخرون.
وتصرفت قوات ايتان على نحو مماثل أيضا في بقية قرى البطوف وكذلك فعلت قوات الشرطة في مناطق أخرى، وكانت حصيلة اضراب «يوم الأرض» ستة شهداء، ثلاثة منهم في سخنين بينهم فتاة قتلت أمام ساحة بيتها، واصابة حوالي 1200 شخص آخر بجراح، أكثر من مائتين منهم بقوا مع عاهات مستديمة. واعتبر العرب في اسرائيل هذا اليوم بمثابة «يوم مذبحة اسرائيلية جديدة ضد الفلسطينيين».
كان ابراهيم سليمان في الناصرة في يوم الأرض. في ساعات الفجر وقف سوية مع مئات المنظمين على مفارق الطرقات لالتقاء العمال الذين قرروا التوجه الى العمل رغم قرار الاضراب واقناعهم بضرورة الالتزام بالقرار الشعبي العام، «كنا نصرف وقتا طويلا في اقناعهم بان نجاح الاضراب هو أضمن لهم من فشله للحفاظ على لقمة العيش. ونجحنا فعلا في اقناع غالبية العمال. ولكن عندما وصلت الاخبارية من أولاد «الحلال» الى المخابرات، شاهدنا طائرة الشرطة تحوم فوق رؤوسنا ثم داهمتنا قوات كبيرة من الشرطة وهاجمتنا بطريقة همجية لا أصدق حتى اليوم تفاصيلها، مع أنني ذقتها على جلدي بشكل شخصي».
ويتابع سليمان: «لم يسألوا أحدا منا شيئا، وراحوا يعتدون علينا مباشرة بالهراوات. كان بيننا ثلاثة عمال يناقشوننا حول الاضراب ويقولون انهم لا يؤمنون به ولا يعتقدون انه سيأتي بنتيجة لنضالنا من أجل وقف مصادرة الأرض. وأكثرهم تطرفا في معارضة الاضراب هو ابن أحد أعضاء حزب العمل، فتلقى أول ضربة على رأسه وفرّ الدم لينشب علينا جميعا وراح يصرخ في وجوههم «أنا والله ضد الاضراب»، فلم يصدقوه وواصلوا ضربه. والعامل الثاني الذي ناقشنا كان معوقا ويروي لنا الصعوبات المالية التي تواجهه ويرجو ان نسامحه إذا خرق الاضراب فهو لا يريد أن يغامر بوظيفته، فتلقى الضربة الأولى على اذنه ثم داسوا عليه بالبساطير العسكرية. وراح الثالث يعدو راكضا، فلحقوا به وأطلقوا عليه الرصاص حتى أصبوه وأوقعوه أرضا وراحوا يدوسونه وهو ينزف دما ويصيح من الآلام».
ثم يروي ما حدث له شخصيا فيقول: «كنا خمسة نشطاء في هذا الموقع، فعندما وصلت الشرطة تمكن ثلاثة من الهرب وبقيت وزميل آخر مع العمال الثلاثة. لم أستطع الهرب مثلهم بسبب العمال. فلم أرد لهم أن يقولوا فيما بعد تركنا وهرب. في الضربة الأولى على رأسي فقدت وعيي لعدة لحظات، واستيقظت من الألم الذي تسبب به دوسهم على رأسي وأنا ملقى على الأرض. كانوا يطلقون شتائم بذيئة أخجل من تردادها. الضربة الثانية التي تلقيتها كانت على أنفي، فكسروه وراح الدم ينزف بغزارة. في تلك اللحظة شاهدتني ابنة أختي وهي فتاة في الثانية عشرة تسكن في ذلك الحي، فهرعت الي وهي تصيح «خالي .. خالي..»، فأوقفها الشرطي وهو يصوب بندقيته نحو رأسها ودفعها بقوة الى الأرض وأمرني بأن أبعدها عن المكان واستسلم له إذا لم أشأ أن يطلق الرصاص عليها. وقبل أن أجيبه، أطلق رصاصة في الهواء. فصحت به: اعتقلني اعتقلني، فهل تراني قادرا على عمل شيء ضدك؟! وبالطبع صحت بابنة شقيقتي أن تعود الى البيت. فحضر شرطيان وقيدا يدي بالأغلال الى وراء ظهري وقاما بجر جسدي على الأرض ورمياني الى أرضية سيارة الشرطة. في السيارة تلقفني رجل شرطة آخر وراح يتسلى بضربي، تارة بقبضة يده وتارة بقدميه. بصق علي وأهانني بكلمات بذيئة عن ابنة أختي. شتمني بأقذع الشتائم. ثم قذفوا فوقي شابا آخر وهم يضربونه ثم شابا ثالثا، ونقلونا الى مقر الشرطة في الناصرة. كنت ما زلت أنزف دما، فصاح بي الشرطي: إلعق دماءك ولا توسخ بها السيارة. وعندما لم أستطع ذلك واصل ضربي فزاد نزيفي. وفي مقر الشرطة تلقيت وبقية المعتقلين وجبات أخرى من الضرب، ففقدت وعيي ولم استيقظ إلا في المستشفى، عندما كان الطبيب يخيط جرحي. كما يبدو انه لم يستخدم مادة التخدير أو انه استخدمها بكمية قليلة فرحت أصيح من الألم، فتقدم طبيب عربي في المستشفى طالبا أن يكمل علاجي فمنحني حقنة تخدير. وبعد يوم واحد من العلاج عادت الشرطة لاعتقالي رغما عن رأي الطبيب العربي المذكور. وفي بقية أيام الاعتقال، حاولوا تخويفي واعتدوا علي مرات أخرى ولكن بشكل خفيف، وحاولوا ارغامي على الاعتراف بأنني كنت أهدد العمال بالقتل إذا توجهوا الى أعمالهم ولم يلتزموا بالاضراب. ورفضت ذلك. ويبدو انهم لم يتمكنوا من ايجاد شهود على هذا الاتهام، فأنا بالفعل كنت أحاول الاقناع ولم أرغم أحدا على الاضراب وأخبرتهم عن عدة عمال كسروا الاضراب ولم أفعل معهم شيئا. بعد مضي حوالي ثلاثين سنة على ذلك اليوم يشعر ابراهيم سليمان بأهمية يوم الأرض أكثر من أي وقت مضى، «على الرغم من الألم الذي لا يفارقني والغضب الذي انغرس في داخلي على حكومات اسرائيل، إلا انني أنظر الى الحصيلة العامة الكبرى واشعر بالراحة. ففي يوم الأرض تغيرت أوضاعنا من شريحة ضعيفة ومستضعفة الى جمهور كبير موحد يكافح من أجل حقوقه بشجاعة وتحسب السلطة له ألف الحساب. وخلال السنين الماضية، حصلت تطورات كبيرة ومهمة في قضية الأرض، فقد تراجعت الحكومة الاسرائيلية عن اغلاق المنطقة المذكورة في البطوف. ومع أن مصادرة الأراضي العربية لم تتوقف، إلا ان الحكومة بالمقابل أعادت للعديد من البلدات العربية قسما من الأراضي التي كانت قد صادرتها لهم في السنوات السابقة. على سبيل المثال، فإن مدينة الناصرة التي لم يكن نفوذها يزيد عن 7500 دونم أرض أصبح بحوزتها اليوم 14500 ألف دونم. صحيح ان مساحة أراضي الناصرة الأصلية أكبر بكثير من ذلك (كانت سنة 1948 تصل الى 45 ألف دونم)، إلا ان هذا التغيير كان بمثابة تطور مهم لنا. ويضيف ابراهيم سليمان عنصر تطور آخر يعزوه الى يوم الأرض فيقول: «لقد تغيرت طبيعة العلاقات بيننا، نحن الشريحة المنزرعة في وطنها، وبين بقية شرائح شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية. فأولا، نشأ هناك تلاحم حقيقي بيننا وبين أهلنا في الضفة الغربية المحتلة. فقد أعلنوا هم أيضا الاضراب في يوم الأرض تضامنا معنا وأحد الشهداء الستة هو من مخيم نور شمس قرب طولكرم، وقد روت دماؤه الزكية أرض بلدة الطيبة عندنا. وكانت تلك فاتحة علاقة مميزة بيننا وبينهم وبالتالي مع كل عالمنا العربي. هذا العالم الذي قاطعنا ولطالما عاتبنا أو عاقبنا على بقائنا في وطننا، لكننا بقينا تواقين اليه متمسكين بانتمائنا اليه».