المشاغب

هوغو شافيز يصف نفسه بـ «الاشتراكي المؤمن» وكلمتان بالإسبانية حققتا له شعبية في 45 ثانية

TT

اختار الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز في حملته الانتخابية قبيل الأخيرة شعار «بطل الفقراء»، وهو الوصف الذي يطلقه عليه أنصاره منذ أن بدأ خوض غمار العمل السياسي في سنين مبكرة في حياته. ورغم الجدل العالمي الذي يثيره الزعيم الفنزويلي دوما، والانتقادات الموجهة لسياساته ولشخصه، فإنه يحظى فعليا بشعبية كبيرة بين فقراء بلاده، ويشعر بالانتماء الكامل لهم، لأنه ولد فقيرا ونشأ فقيرا، وباع الحلوى وهو طفل صغير كي يخفف من فقر عائلته.

لقد بدأت قصة هذا الرجل مع حلم الرئاسة وهو في الـ19 من عمره، عندما حضر حفل تنصيب رئيس ينتمي لطبقة الأغنياء وتساءل في نفسه «لماذا لا أكون أنا في مكانه؟ كان شافيز وقتها قد التحق بالجيش مدفوعا برغبة دفينة في تحقيق إنجاز لنفسه وللفقراء من أمثاله. وكما سيتضح من تفاصيل لاحقة فإن شافيز وصل إلى رتبة عقيد في جيش بلاده، وحاول الوثوب إلى السلطة بالعنف عن طريق انقلاب عسكري، لم يجن منه سوى الإرتماء في غياهب السجن، إلى أن حصل على عفو رئاسي، فعاد لاحقا من بوابة الانتخابات الديمقراطية، ليحقق نجاحا كبيرا، ويدخل القصر الذي طالما حلم بدخوله.

ومن مفارقات الأقدار أن الانقلاب العسكري، لم يكن فقط وسيلة فاشلة لإيصال شافيز للسلطة، بل كان أيضا وسيلة فاشلة لإخراجه من السلطة حيث لجأ إليه معارضوه وفشلوا، أما الديمقراطية التي طالما نادت بها الولايات المتحدة زعيمة الإمبريالية العالمية كما يحلو لشافيز وصفها، فقد أوصلته، وأبقته فيها، ولا يمكن إزاحته إلا عن طريقها. وسيرا على خطى نظيره الكوبي فيدل كاسترو الذي يطلق عليه «والدي في السياسة» فإن شافيز يهوى إلقاء الخطب الطويلة، الموجهة لشعبه، والتي يخلط فيها بين التصريحات السياسية والأحاديث العامة، التي يقتبس فيها من أقوال بطله الملهم سيمون بوليفار، الشيء الكثير إضافة إلى ما يقتبسه من الإنجيل ومن أقوال السيد المسيح. ومن كثرة ما يستشهد به شافيز من أقوال المسيح فإن مواطنيه يطلقون عليه لقب محبب إلى نفسه، وهو «الاشتراكي المؤمن»، كما أنه يشدد في أقواله ومقابلاته وخطبه على حقيقة أنه غير ملحد بل مؤمن بالله، ويعتقد أن السيد المسيح كان «أول اشتراكي في العالم»، لأنه دعا للعدالة الاجتماعية.

وقد خصص شافيز لنفسه برنامجا تلفزيونيا، هو برنامج «ألو الرئيس» يجيب فيه على مدى أكثر من ساعتين على أسئلة المشاهدين وشكاواهم، ويعلن فيه عن كثير من سياساته. ولا تقتصر أحاديث شافيز في برنامجه شبه اليومي على موضوع معين إذ أنه يمكن أن يتطرق لموضوعات كثيرة من البيسبول إلى التغذية، إلى الرشاقة، كما يستضيف أحيانا عبر الهاتف ملهمه السياسي فيدل كاسترو، ويتحدثان للمشاهدين عن همهما المشترك وهو الولايات المتحدة. ويلاحظ على شافيز أنه يسهب إسهابا كبيرا في الحديث عن موضوعه المفضل «الولايات المتحدة والإمبريالية العالمية». ويختلف شافيز مع الولايات المتحدة في كل شيء ما عدا شيء واحد هو أنه يعتبر نفسه الخصم الأول لرئيسها جورج بوش في أميركا الجنوبية بعد الزعيم الكوبي المقعد فيدل كاسترو، وهي نفس النظرة التي تنظر إليه الولايات المتحدة إن لم تعتبره في الترتيب الأول بسبب الحالة الصحية لكاسترو.

ورغم عداء شافيز للسياسة الأميركية فإنه يجاهر بحبه لأميركا كبلد ويهوى الحديث للإعلام الأميركي وكان آخر من قابله من الإعلاميين الأميركيين الصحافية المخضرمة باربرا والترز مقدمة برنامج 20/20 في محطة «أي بي سي» الأميركية حيث وصفته بأنه شخص وقور يشعر من يقابله بحميمية ودفء. وقالت إنها لاحظت مدى محبة الناس له في بلده، مشيرة إلى أن كثيرا من أنصاره يعلقون صوره في منازلهم وغرف نومهم عن قناعة خصوصا في الأحياء الفقيرة. وقالت والترز إنه ربما يكون الزعيم الوحيد في العالم الذي لا يخشى إغضاب رئيس الولايات المتحدة، وقد تعمد أن يشن حملة شعواء على الرئيس بوش أثناء جولته الأخيرة في أميركا اللاتينية مما عكر صفو جولة بوش في جميع الدول التي زارها. وكان شافيز قد أطلق على بوش أوصافا قاسية أثارت خجل الصحف الوقورة من ترديدها، وأكثر تلك الأوصاف احتراما هي قوله بأن بوش جاهل وقاتل، ولكن أكثر ما أثار باربرا والتزر بصفتها امرأة هو وصفه لوزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، بأنها تعاني من الإحباط الجنسي، فقالت لشافيز خلال المقابلة:

أنت رجل محترم، فكيف تقول عن وزيرة خارجيتنا مثل هذا الكلام، الذي لا يقال لأي امرأة؟ أجاب شافيز: «لقد تم إخراج كلامي من سياقه، فأنا لا يمكن أن أقول لأي امرأة أن لديها مشكلة جنسية، وعلى النقيض من ذلك لقد أردت أن أتندر على رايس لأنها تكاد لا تتوقف عن ذكر اسمي سواء في الكونغرس أو عند زياراتها لأوروبا حيث تظل تردد، شافيز شافيز شافيز شافيز، فكان علي أن أرد عليها بطريقة ما، وبما أنها ممنوعة من الكلام المباشر معي فقد كانت فرصة للرد عليها. وتابع: أنا أحترمها كـ امرأة وأحترم رئيس الولايات المتحدة كشخص، ولكنهما يقتلان الناس، إنهما يقصفان المدن في أفغانستان، والعراق، ويتسببان بالأذى ليس لشعوب العالم فقط بل حتى للشعب الأميركي نفسه». وروت والتزر عن شافيز أنه يتمنى أن يعيش قصة حب ولكنه يشعر بالأسف لأن لا وقت لديه للحب. وقالت إنه حدثها كذلك عن الحياة الصعبة التي عاشها في طفولته التي يتذكرها بأسى بسبب الفقر والعوز اللذين كان يعيش وسطهما. وتشير كافة الكتابات عن طفولة شافيز إلى أنه عاش الحرمان في المنطقة المعروفة بمراعيها الخضراء، غرب فنزويلا حيث ولد في مدينة سابانيتا بولاية باريناس في 28 يوليو (تموز) 1954. والداه الاثنان كانا يعملان في سلك التدريس، وهي المهنة التي لم تكن تدر على أصحابها إلا أقل القليل في فينزويلا. وعلاوة على الفقر المدقع الذي عانى منه شافيز في طفولته فإن بشرته الداكنة التي كانت السمة الغالبة لجميع أفراد أسرته جعلت شعوره بالمعاناة، والتمييز أكثر تفاقما في مجتمع تهيمن على مقدراته نخبة جل أفرادها من البيض. وانتقل شافيز في سن مبكرة لعيش مع جدته من جهة الأب في مدينة سابانيتا من أجل المساعدة في جمع شيء من المال لإعانة أسرته وذلك عن طريق بيع الحلوى التي كانت تصنعها جدته في منزلها.

وعرف عن شافيز في سني حياته الأولى أنه أستطاع أن يتميز على من حوله بتفوقه في رياضة البيسبول في بلد مجنونة بهذه اللعبة، وقد وصل تفوقه فيها إلى درجة مشاركته في فريق المتخب الوطني عام 1969، وواصل فيما بعد مشاركته في منتخبات تابعة للوحدات العسكرية التي انتمى إليها لاحقا، أو الكليات التي درس فيها.

ومنذ السنين الأولى كان هناك في أعماق أعماق شافيز ما يشغله ويلح عليه بأن عليه أن يحقق شيئا ما في حياته، ووجد الشاب الفنزويلي أن الرياضة وحدها لا تكفي لتحقيق الطموح والتميز، وفكر في خوض غمار السياسة، لكنه لم يجد المدخل المناسب. وتعود رغبته الدفينة في تجريب السياسة إلى ذلك اليوم الذي حضر فيه مراسم تنصيب الرئيس الفنزويلي الأسبق كارلوس أندريه بيريز في فترته الأولى التي استمرت من 1974 إلى 1979، وكان شافيز حينها لم يكمل الـ20 سنة من عمره، وعندما كبر شافيز وأصبح عقيدا في الجيش حاول خلع ذلك الرئيس بالقوة في فترة رئاسته الثانية التي امتدت من 1989 إلى 1993.

لقد كتب شافيز في يومياته عن ذلك الحفل أنه تخيل نفسه في مكان الرئيس المنتخب، لكنه أدرك بسرعة أن العمل السياسي لن يكون متاحا لمن هو مثله، وأدرك أنه قد اتخذ القرار الأنسب بعد حصوله على الثانوية العامة والتحاقة بالأكاديمية العسكرية الوطنية التي واصل دراسته في كلية الهندسة التابعة لها وتخرج منها عام 1975. ومنذ أن بدأ شافيز خدمته الفعلية في الجيش عقب التخرج كان يحظى على الدوام بشعبية واسعه بين الجنود، وصعد في سلم الترقيات إلى أن حصل على رتبة عقيد، ثم تولى قيادة وحدة مظلات. ولاحظ شافيز أثناء سنوات خدمته الأولى أن المؤسسة العسكرية في بلاده لا تختلف عن الهيئات المدنية التي ينخر في الفساد، فقضى الرجل معظم ساعات فراغه يفكر في هذه القضية العويصة، ويقرأ الكتب التي تروي تاريخ بلاده، وشيئا فشيئا وجد نفسه يقرأ بنهم الكتب الماركسية، وشعر بميل شديد نحو الأفكار الاشتراكية اليسارية التي وجدت طريقها للتطبيق في نيكاراغوا، وبعض بلدان أميركا اللاتينية الأخرى. ومن خلال قراءات الرجل لتاريخ بلاده شعر بالفخر والاعتزاز ببطولات القادة العسكريين القوميين الذين طردوا الإسبان من الحكم في القرن التاسع عشر، وعلى رأسهم أبو الاستقلال الفنزويلي سيمون بوليفار، البطل القومي الأسطوري الذي يوصف بأنه «جورج واشنطن أميركا الجنوبية». وبسبب ما كان يتمتع به شافيز من شخصية كارزمية فقد استطاع أن يستقطب عددا كبيرا من العسكريين الفنزويليين إلى الأفكار التي يؤمن بها، ثم بدأ يشكل خلايا صغيرة لبناء شبكة من المؤيدين لافكاره في الجيش الفنزويلي، تمهيدا لتشكيل حركة عرفت فيما بعد بـ«الحركة الثورية البوليفارية» التي بدأ نشاطها الفعلي عام 1983. وجاءت نقطة التحول الفعلية في حياة شافيز المهنية عام 1989 عندما هبطت أسعار النفط هبوطا كبيرا، الأمر الذي أدى إلى انتكاس الاقتصاد الفنزويلي القائم على تصدير النفط، وأجبر الرئيس كارلوس أندريه بيريز على اتخاذ إجراءات تقشف قاسية قادت إلى اندلاع مظاهرات عنيفة في العاصمة كاراكاس وغيرها من المدن الفنزويلية. من بين تلك الإجراءات الإعلان عن رفع تعريفة ركوب الحافلات العامة، وهو الإعلان الذي خرجت التظاهرات بعده على الفور إلى الشوارع، فما كان من الحكومة إلى أن أرسلت الجيش لمواجهة المتظاهرين.

في تلك الأثناء كان شافيز واحدا من قادة الوحدات العسكرية التي انتشرت في شوارع كاراكاس، وانتابه الغضب الشديد بسبب الأوامر الصادرة بإطلاق الرصاص على المواطنين الفنزويليين الذين شعر شافيز بأن لديهم الحق كل الحق في التعبير عن احتجاجهم. لقد كانت تلك الاحتجاجات والتجربة التي مر بها شافيز خلالها هي الدافع الرئيسي له على تنظيم انقلاب عسكري لإطاحة الرئيس بيريز بعد ثلاث سنوات من تلك التظاهرات، لكن انقلاب شافيز في عام 1992 سرعان ما فشل، وألقي القبض على الرجل حيث أودع السجن.

لم يكن وقع نبأ اعتقال شافيز سهلا على مسامع أنصاره وشركائه في الإنقلاب إذ أنهم رفضوا الاستسلام بعد سيطرتهم على معظم مدن البلاد، وشنوا هجمات مضادة على المواقع الحكومية في طول البلاد وعرضها الأمر الذي دفع الحكومة إلى الاستعانة بشافيز لمخاطبة الانقلابيين عبر التلفزيون لمدة لم تزد على 45 ثانية ناشدهم فيها إلقاء أسلحتهم، حقنا للدماء ومنعا للمزيد من المواجهات. وبما أن شافيز يتمتع بذكاء سياسي نادر فإنه لم يجعل ثلاثة أرباع الدقيقة تلك التي أتيحت له تضيع هباء بل استفاد منها، بإيراد كلمتين بالإسبانية جعلتاه بطلا في أنظار مؤيدي الانقلاب، وأدركت بعدها الحكومة الشرعية أنها ارتكبت خطأ فادحا بالسماح له بالحديث عبر التلفزيون.

الكلمتان اللتان اختارهما شافيز بعناية في سياق حديثه أثناء مناشدته أنصاره لإلقاء السلاح هما «بور أهورا» وتعنيان في العربية «لحد الآن»، حيث قال: «إن حركتنا لم تنجح حتى الآن في تحقيق هدفها، وأنا أتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا الفشل، وأناشدكم بإلقاء السلاح حقنا للدماء.

وبعد هذه الكلمات أعيد شافيز إلى سجنه ولكن كلمتيه «بور أهورا» تحولتا إلى شعار حمله أنصاره في جميع مدن البلاد، وزرع فيهم الأمل بأن الحصول على السلطة قادم لا ريب فيه، بغض النظر عن الفشل في تلك الآونة. وقد حقق شافيز في الـ 45 ثانية تلك، شعبية كبيرة يعجز كثير من السياسيين عن تحقيقها في 45 سنة، وساهم في ذلك عدم تردده في تحمل المسؤولية كاملة عن الفشل بدلا من الإلقاء باللائمة على آخرين كانوا فعلا السبب في فشل الانقلاب. وبسبب شعبية شافيز الكبيرة تعمدت السلطة القائمة ألا تكون قاسية معه، وخدمه الحظ بعد سنتين من بقائه في السجن بسقوط الرئيس كارلوس اندريه بيريز بسبب تفاقم الفساد. وتولى الرئاسة بعده الرئيس رافاييل كالديرا الذي أصدر عفوا رئاسيا عن شافيز، ومنحه تسريحا شرفيا من الجيش الفنزويلي.

وبعد أن أدرك شافيز أن الوصول إلى السلطة بالعنف أو بالأساليب الانقلابية لا تجدي نفعا، بدأ يفكر في الوسائل الشرعية التي قد تحقق له حلما كان يبدو في وقت من الأوقات بعيد المنال. وبدلا من تشكيل خلايا عسكرية مسلحة فقد شكل شافيز هذه المرة مع مجموعة من السياسيين ذوي التوجه اليساري حزبا جديدا أسموه «حركة الجمهورية الخامسة» وقدمت الحركة شافيز مرشحا للانتخابات الرئاسية. وفي السادس من ديسمبر 1998 تحقق حلم شافيز وحصل على أصوات 56% من الناخبين الفنزويليين ليصبح بذلك رئيسا للبلاد وهو أول منصب سياسي رسمي يتولاه في تاريخ حياته. وبعد تولي شافيز الرئاسة باشر على الفور بتطبيق أجندته السياسية على مختلف المشارب، وقد دفع بتغيير الدستور الذي ألغى نظام المجلسين التشريعيين على النمط الأميركي، وأقر مجلسا تشريعيا واحدا، تحت مسمى الجمعية الوطنية، وحدد فترة الرئاسة بست سنوات لا تمدد إلا بانتخابات جديدة.

قرر شافيز خوض انتخابات جديدة بموجب الدستور الجديد كي يبدأ فترة رئاسية مدتها ست سنوات، ورشح نفسه على أساس برنامج لمحاربة عدوه منذ الصغر المسمى بالفساد، وفاز في تلك الانتخابات. وقد كان شعاره أثناء الحملة الانتخابية هو «أنا بطل الفقراء» وهو الشعار الذي وجد صدى واسعا بين الفقراء. وكان للرجل برنامجه السياسي ويعرف فعلا ماذا يريد. وبعد نجاحه في الانتخابات بدأ يطبق برنامجه على أرض الواقع بادئا بتسريح سبعة مديرين كبار من الشركة الوطنية الفنزويلية للبترول. وأجبر اثني عشر آخرين على التقاعد. وقد ساهمت هذه القرارات في زيادة النقمة عليه في أوساط الأغنياء النافذين الذين أظهروا احتقارهم له بسبب أصله المتواضع، وسياساته المثيرة للجدل التي أضرت بمصالحهم فبدأوا يخططون للإطاحة به.

ومثلما فشل شافيز في الوثوب إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري فقد فشل مناوئوه في طرده من السلطة بانقلاب عسكري. فبعد أن أصدر شافيز قراره بعزل مديري الشركة الوطنية للنفط من مناصبهم، بادر رجال الأعمال المدعومين بعناصر في الجيش، وقيادات النقابات العمالية، إلى تنفيذ خطة الانقلاب في الـ12 من أبريل (نيسان) 2002. وفي ذلك التاريخ شهدت شوارع كاراكاس اشتباكات بين متظاهرين مناوئين لشافيز وآخرين مؤيدين له حيث وصلت الاشتباكات إلى أبواب قصره الرئاسي، وتمكن قادة الانقلاب من احتجاز شافيز وتعيين شخص بديل له. ولكن عندما أعلن الإنقلابيون حل الدستور فإن الدائرة دارت لصالح شافيز، وانضم حرس الرئاسة إلى المتظاهرين المؤيدين للرئيس الشرعي، وتمكن المؤيديون من إحباط الانقلاب في غضون 50 ساعة. ومما ساهم في فشل الانقلاب ضد شافيز، إعلان المدعي العام الفنزويلي أن تغيير الرئيس غير دستوري حتى ولو كان قد تقدم باستقالته‏،‏ لأنه لا بد أن تقبل الاستقالة من قبل البرلمان حتى تصبح سارية المفعول‏، إضافة إلى نزول الجماهير من الطبقات الشعبية والمتوسطة في مظاهرات بشوارع العاصمة وغيرها تأييدا للرئيس المخلوع والمطالبة بعودته‏.‏ كما أعلن حوالي 20 رئيسا من رؤساء‏ دول أميركا اللاتينية رفضهم الانقلاب العسكري باعتباره غير ديمقراطي ودعوا إلى عودة الرئيس المنتخب‏.‏ وبسبب شعبية شافيز بين الفقراء لم تدم رئاسة خلفه الانقلابي «بيدرو كارمونا» سوى يومين عاد بعدها شافيز إلى قصره الرئاسي بكاراكاس، وعاد معه جرح أصبح واسعا وفجوة أصبحت أكثر عمقا في علاقته بالولايات المتحدة القطب الدولي الوحيد.

وفي ذلك الحين تسرعت الولايات المتحدة في إعلان تأييدها للانقلاب، الأمر الذي زرع في أعماق شافيز أثرا سلبيا، وجعله يحمل الولايات المتحدة مسؤولية الانقلاب الفاشل ويتهمها بالوقوف وراء محاولة الإطاحة به. ومن المفارقات أن فنزويلا تعد ثاني أكبر مصدر للنفط إلى الولايات المتحدة الأميركية‏.‏ إلا أن الأخيرة غير راضية عن شافيز لجملة أسباب، منها علاقته الخاصة بالرئيس الكوبي فيدل كاسترو، وزيارته للعراق وليبيا، وإيران فيما بعد، وانتقاده قصف أميركا لأفغانستان في حربها ضد طالبان والقاعدة، والتزامه الحياد في حرب النظام الكولومبي.

ومثلما أن شافيز ومؤيديه لم ييأسوا بعد فشل انقلاب 1992 من أمل الوصول إلى السلطة فإن معارضي شافيز ما زال لديهم نفس الأمل إذ أنهم حاولوا مرة أخرى في 2004 إسقاطه عن طريق جمع توقيعات تدعو لانتخابات مبكرة كانت في تلك الفترة كفيلة بالإطاحة به نظر لفشل الكثير من سياساته، وفشل تلك التوقيعات بسبب اكتشاف القضاء بطلان بعض القوائم والأسماء.

وفي الوقت الذي ظل فيه شافيز يحمل شيئا في نفسه ضد الولايات المتحدة بسبب سعيها للإطاحة به فإنه في واقع الأمر مدين لها بطول بقائه في الحكم وبالتجديد له مرة أخرى في الانتخابات الأخيرة. ولتفسير ذلك يمكن التوضيح بأن تورط الولايات المتحدة في العراق، لم يجبرها فقط على غض النظر عن كثير مما يجري في فنائها الجنوبي، ولكن حرب العراق أدت أيضا إلى تصاعد أسعار النفط الأمر الذي خدم شافيز كثيرا في الإنفاق بسخاء على برامجه الاجتماعية التي ساهمت في الحفاظ على شعبيته إن لم نقل في رفع مستواها. وبفضل ارتفاع أسعار النفظ ارتفع متوسط الدخل الفردي في فنزويلا بنسبة 30% في عام 2004، وتوفرت لشافيز ثروة كافية لإنشاء مدارس جديدة، وبناء مشاريع عامة، وتمكنت الحكومة من تقديم قروض لأصحاب الأعمال الصغيرة، والمزارعين، ولكن برامجه الأخرى لمكافحة الفقر والفساد، ظلت على الدوام محلا للجدل ومثارا للتشكيك في نجاحها. وأثارت حملات الإصلاح الواسعة الجدل ليس في فنزويلا فحسب بل أمتدت إلى خارجها، حيث ينتقدها البعض بشدة في حين يرحب بها آخرون بحرارة. وفي ديسمبر الماضي فاز شافيز بفترة رئاسية ثانية لمدة ست سنوات أخرى، وذلك بنسبة 61.35% من أصوات الناخبين، وعلى اثر فوزه بالانتخابات أدى القسم عازما على تحويل فنزويلا إلى دولة اشتراكية وقرر تغيير الاسم الرسمي للدولة من الجمهورية الفنزويلية البوليفارية إلى الجمهورية الفنزويلية الاشتراكية. ولا يخشى شافيز من غزو أميركي لبلاده لكنه يقول دوما إنه مستعد للمواجهة واللجوء للجبال لو اقتضى الأمر ذلك لمئة عام من الحرب مع الغزاة المحتملين، ومن أقواله أيضا «.. إن الولايات المتحدة مهما استخدمت قوتها، فهي نمر من ورق مهزوم.. إن هذا العصر سيكون عصر نهاية الامبراطورية الأميركية.. إن الامبريالية ستنتهي وأن العالم على مشارف مرحلة تاريخية جديدة». ورغم النجاح السياسي الداخلي الذي حققه شافيز في بلاده اعتمادا على محاربة الفساد، فإن خصومه السياسيين يتهمون أسرته بالتورط في الفساد الأمر الذي قد يقوض نفوذ عائلته السياسي حيث يتولى والده المدرس المتقاعد منصب حاكم ولاية باريناس، ولكن بسبب كبر سنه فإن نجله أرخينس شقيق هوغو شافيز وسكرتيره الشخصي هو الذي يتخذ القرارات المهمة نيابة عن الأب المنتخب. وشقيق آخر لشافيز هو أنيبال، أصبح محافظا لمدينة سابانيتاس مسقط رأس شافيز «معقل الثورة»، ويعلق في مكتبه صورة شقيقه الرئيس وصورة بطل التحرير سيمون بوليفار ورسما للسيد المسيح. وإضافة إلى العمدة والحاكم تفتخر العائلة بأن أحد أبنائها هو وزير دولة لشؤون باريناس، وهو منصب تأسس لشقيق الرئيس أرخينس الذي يتحمل مسؤوليات العمل اليومي في القصر الحكومي. وهناك أخ آخر هو أدليس، ويعمل موظفا رفيعا في بنك سوفيتاسا، الذي يقوم بأنشطة تجارية مع حكومة الولاية. أما شقيق شافيز الخامس نارسيسو مدرس الانجليزية فقد اتهم بأنه حاول دون أن يكلله النجاح أن يصبح عمدة بلدية بوليفار القريبة من سابانيتا. واحتل مناصب مهمة في سفارات فنزويلا وكندا وكوبا، حيث كان يشرف على الاتفاقيات الثنائية التي توصل إليها فيدل كاسترو والرئيس الفنزويلي تشافيز. وأدى توزيع المناصب على عائلة شافيز إلى تكوين سلالة شافيزية حقيقية. وكان قبل ذلك سفيرا في كوبا، ومستشارا للرئيس. وقد طالت الاتهامات بالفساد والمحسوبية، عائلة شافيز حتى وهو يجعل من مكافحة مثل هذه المظاهر واحدة من أولويات حكومته. ومهما قيل عن شافيز سلبا أو إيجابا فإن الجميع متفوق على قوة تأثيره في بلاده والعالم، ولذلك اختارته مجلة تايم الأميركية في مايو 2006 ، كأحد أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم.