عندما جرى التوقيع في مارس (آذار) عام 1957 على اتفاقية تأسيس السوق الأوروبية المشتركة في روما، بمشاركة فرنسا وبلجيكا والمانيا وهولندا وايطاليا ولوكسمبورغ، كانت أوروبا تختلف تماما عن أوروبا التي تحتقل في 25 مارس الحالي في روما، بمرور 50 عاما على قيام الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح يضم الآن 27 دولة، وحين يجتمع زعماء الاتحاد الأوروبي للاحتفال باليوبيل الفضي لاتفاقية روما، سيكون من الأفضل لهم في ذلك اليوم تفادي الحديث عن المشكلات التي يعاني منها الاتحاد، وفي مقدمتها ملف الدستور الذي من المفترض أنه يتضمن بنودا لتسيير أمور المجموعة الأوروبية الموحدة في كافة المجالات، بعد اتمام عملية توسيع الاتحاد الاوروبي، فضلا عن ملف تحقيق الاصلاحات في المؤسسات الأوروبية وملف قدرة التجمع الأوروبي على استيعاب دول جديدة.
ولا شك أن هناك الكثير من الانجازات التي حققتها المجموعة الاوروبية الموحدة على مدى الـ50 عاما، ولكن معظمها تحقق على الصعيد الاقتصادي، خاصة ان الاتحاد الاوروبي اصبح الآن يمثل سوقا مشتركة عملاقة تضم 27 دولة، ويعيش فيه ما يقرب من 500 مليون شخص، يتمتعون بامتيازات عديدة منها حرية التجارة وحرية الحركة وحرية العمل، باستثناء بعض القيود المفروضة على الأيدي العاملة القادمة من بعض دول اوروبا الشرقية، كما نجح الاتحاد الاوروبي في اصدار العملة الموحدة «اليورو» في عام 2002 وبانضمام سلوفينيا الى منطقة اليورو مطلع العام الحالي، اصبحت الدول التي تتعامل بالعملة الموحدة 13 دولة اوروبية.
وعلى الرغم من تلك الانجازات، تقول تقارير اعلامية اوروبية، لا يعرف الاتحاد الأوروبي تماما، متى سيبلغ مرحلة النضج، على الرغم من مرور 50 عاما على تأسيسه هذا الشهر. ومع التقدم المستمر لا يزال الاتحاد الأوروبي ممزقا، كما كانت الحال دائما، بين رغبة في توسع أكبر أو تعميق الوحدة وبين وحدة سياسية أو وحدة اقتصادية وبين انفتاح أكبر على العالم أو حماية مصنعيه ومزارعيه. ومن ضمن أزمات أوروبا ازمة الدستور والتوسيع، فقد صدقت 18 دولة على الدستور الاوروبي، الذي يتيح تعيين رئيس ووزير خارجية للاتحاد الاوروبي، على المدى الطويل ونظام اكثر عدالة لاتخاذ القرار مع اخضاع عدد أكبر من السياسات لنظام اقتراع يأخذ بموافقة الأغلبية، ومنح دور أكبر للبرلمان الأوروبي والبرلمانات الوطنية. ولم يستوعب الاتحاد بعد التوسع الهائل، الذي رفع عدد الدول الأعضاء من 15 الى 25 في عام 2004، حين انضمت معظم الدول الشيوعية السابقة في وسط اوروبا، الى ما كان من قبل تكتلا أوروبيا للغرب الثري. وانضمت بلغاريا ورومانيا هذا العام لتتسع الفجوة بين ثروة الفرد في أغنى الدول الأعضاء وأفقرها الى نسبة 11 الى 1%. وفي عام 2005 حين رفض الناخبون الفرنسيون والهولنديون الدستور الأوروبي، وكان الهدف منه سد الفجوات بين دساتير عدد متزايد من الدول الاعضاء، تبين ان أحد عوامل هذا الرفض عدم الارتياح عن التوسع شرقا ومخاوف من انضمام تركيا المسلمة الى الاتحاد. وتسبب الرفض في ازمة ثقة لا تزال قائمة بعد عامين، مما يترك الاتحاد الاوروبي في معاناة مع دستور قديم وضع في الاساس للتعامل مع ست دول ذات فكر متماثل.
وكان إقرار الدستور في قمة 18 يونيو (حزيران) 2004 قد جاء بعد انتهاء فترة عمل لجنة مستقبل اوروبا، التي ترأسها الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، وتشكلت من 105 من الاعضاء والتي استغرقت لمدة 16 شهرا شهدت خلافات ومناقشات صعبة انتهت بالتوصل الى مسودة الصيغة النهائية التي اقرتها القمة ومن بين أهم بنودها:
ـ احتفاظ الدول بحق الفيتو على قضايا السياسة الخارجية والدفاع والضرائب ـ وضع نظام جديد للتصويت على قرارات الاتحاد ينهي الخلاف حول النظام المتبع طبقا لاتفاقية نيس 2000، ويتضمن ضرورة موافقة أغلبية تزيد على نصف عدد الدول الاعضاء في الاتحاد والتي تمثل اكثر من 60% من سكان دول الاتحاد الأوروبي. ـ استحداث منصب رئيس للاتحاد، بدلا من الرئاسة المتناوبة كل ستة اشهر ـ استحداث منصب وزير خارجية للاتحاد الأوروبي. وتعد التعديلات المؤسساتية التي يقرها الدستور الموحد، هي نقطة الخلاف الرئيسية بين الدول الأعضاء. وتخشى بولندا وأسبانيا الدولتان المتوسطتان الحجم في الاتحاد الأوروبي، أن تفقدا قوتهما التصويتية داخل منتدى الدول الأعضاء الذي ينص عليه مشروع الدستور. كما تخشى الدول الأصغر من إلغاء اختيار مفوض من كل دولة بالاتحاد الأوروبي حسب الدستور الجديد على الرغم من أن المفوض لا يعمل لمصلحة الدولة، التي ينتمي لها على الإطلاق، لكن لا يمكن القول بكل هذه المخاوف، أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يبقى هكذا بين السماء والأرض من دون أن يحكمه دستور موحد. وفي ما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، تريد دول مثل فرنسا توافقا أكبر بين أنظمة الميزانية والضرائب على ان تقود هذه المساعي 13 دولة تستخدم العملة الموحدة. بينما يريد الأعضاء الجدد من الشرق الاحتفاظ بميزة الضرائب المنخفضة، التي يتمتعون بها للحاق بالدول الغنية اقتصاديا. وفي مجال التجارة ينقسم الاتحاد الاوروبي لدول زراعية تريد تقليص التنازلات الخاصة بفتح الأسواق الزراعية، وخفض الدعم، وتلك التي ترى أن أوروبا ستستفيد كثيرا من تحرر واسع للتجارة العالمية. وفي مجال الطاقة يواجه الاتحاد الأوروبي مشكلة الاعتماد على مصادر الطاقة عبر روسيا، وحذرت تصريحات العديد من المسؤولين الأوروبيين من ذلك، وطالبت بضرورة تنوع مصادر حصول أوروبا على الطاقة بأنواعها المختلفة.
ومع انطلاق استخدام اليورو «العملة الأوروبية الموحدة»، زادت تكاليف المعيشة في العديد من المدن الاوروبية، وارتفعت الأسعار، وظلت دول في الاتحاد الأوروبي مثل بريطانيا، على موقفها الرافض للانضمام الى منطقة اليورو، تخوفا من عواقب سلبية، ومن مخاوف التضخم التي صاحبت انطلاق العملة الأوروبية الموحدة، ويقول وزير المالية الهولندي السابق غيريت زالم، إن اليورو لم يسبب التضخم في بلاده. وهذا يتعارض مع آراء كثير من الناس، الذين يعتقدون أن التحول إلى اليورو تسبب في رفع الأسعار في المحال التجارية والمقاهي في كل أنحاء البلاد. ويتعارض رأي وزير المالية الهولندي مع رأي نظيره الألماني، الذي صرح في الآونة الأخيرة أن الشركات والمحال التجارية، استغلت استعمال اليورو فرفعت أسعارها قليلا. ولكن وزير المالية الهولندي يقول، إن اليورو غير مسؤول عن ذلك ان مفهوم العامة عن الأسعار لا يتفق مع الواقع وقال: «كل شخص يرى ارتفاعا في الأسعار يقول إن المسؤول عن ذلك هو اليورو، حتى وان كان ذلك غير صحيح»، وقال زالم: «إن ارتفاع الأجور في هولندا، أدى إلى ارتفاع أسعار السلع». وفيما يتعلق بمشكلة الأيدي العاملة والهجرة، بالرغم من حصول كل من بلغاريا ورومانيا على عضوية المجموعة الأوروبية الموحدة ابتداء من مطلع العام الحالي. الا أن دولا في الاتحاد الاوروبي أبلغت المفوضية الاوروبية ببروكسل، انها لن تفتح الحدود امام العمالة القادمة من الدولتين، وذلك في اعقاب توقعات بأن تشهد عدة دول في التكل الاوروبي الموحد، افواجا من الأيدي العاملة من بلغاريا ورومانيا. ففي لاهاي على سبيل المثال أعلنت الحكومة الهولندية انها لن تفتح الحدود أمام استقدام الأيدي العاملة القادمة من بلغاريا ورومانيا وأمرت الحكومة أصحاب العمل بضرورة التقدم بطلبات للحصول على اذونات «تصاريح» عمل مسبقة، إذا رغبوا في استقدام عمال من الدولتين. وسبق أن أعلنت الحكومة البريطانية، انها تدرس فرض قيود على العمالة التي يمكن أن تقدم إلى بريطانيا من كل من رومانيا وبلغاريا بعد انضمامهما إلى الاتحاد الأوروبي. وقالت الداخلية البريطانية، إن عواقب قدوم مهاجرين من هاتين الدولتين، يجب ان تدرس بدقة وتتخذ الاحتياطات الضرورية. كما أشار الى المخاطر التي يمكن ان تترافق مع هذه الهجرة، مثل ازدياد معدل الجريمة في حال السماح بهجرة غير مقيدة من هاتين الدولتين. ويقدر عدد المهاجرين من أوروبا الشرقية السابقة الى بريطانيا، بعد انضمام دولهم الى الاتحاد الأوروبي بأكثر من 600 ألف منذ عام 2004. وأغلب هؤلاء المهاجرين من بولندا، التي كانت واحدة من الدول الشيوعية الثماني السابقة، التي انضمت حينها الى الاتحاد الاوروبي.
ولا توجد أرقام ثابتة حول اعداد المهاجرين الأجانب في دول الاتحاد الاوروبي، نظرا لتعرض تلك الارقام للتغيير في ظل تدفق اعداد جديدة من المهاجرين، وفي نفس الوقت وجود قوانين تتعلق بالحد من الهجرة واللجوء وابعاد الأجانب غير الشرعيين من البلاد الأوروبية، وإذا كان هناك تقارير أوروبية تناولت الإشارة الى وجود ما يقرب من 15 مليون مهاجر من أصول عربية وإسلامية في دول الاتحاد الاوروبية بصورة شرعية، فإن إضعاف هذا الرقم يعيشون بشكل غير شرعي في اوروبا، أما الأرقام التي تحدثت عن الاجانب الآخرين من دول افريقية وآسيوية ودول اوروبية من خارج الاتحاد تزيد عن اضعاف هذا الرقم مرات ومرات، نظرا لقرب رعايا الدول الشرقية من دول الاتحاد، وهناك دول داخل المجموعة الاوروبية الموحدة، ترحب بها على اساس انهم يشكلون عمالة رخيصة ترضى بمقابل وظروف معيشية أقل من المتوفرة للعامل، الذي يعيش في دول الاتحاد الاوروبي.
ويتوقع الاتحاد الأوروبي، زيادة اعداد المهاجرين غير الشرعيين، الذين يحاولون المجيء الى اوروبا وبشكل درامي خلال ربيع العام الحالي، بعد ان تتحسن الأحوال الجوية حسب ما جاء في بيان صادر عن الرئاسة الألمانية الحالية للاتحاد للاوروبي، وجاء ذلك بعد وقت قصير من انتهاء اجتماعات عقدها وزراء الداخلية والعدل في دول الاتحاد الاوروبي بعاصمة اوروبا الموحدة، وناقشوا خلالها ملف الهجرة بشقيه الشرعي وغير الشرعي، وتوصل خلالها الوزراء الى اتفاق بشأن عدد من الاجراءات التي تحد من وصول افواج جديدة من المهاجرين غير الشرعيين من افريقيا، وتعهد الوزراء بتوفير الطائرات الهليكوبتر والقوارب ووحدات فنية لمراقبة الحدود الجنوبية لأوروبا، وزيادة قدرات فرونتكس المكلفة مراقبة الحدود.
وحول التعاون الأمني ومكافحة الأرهاب، تحدث أكثر من مسؤول اوروبي عن المشاكل المترتبة عن عدم وجود تعاون وتنسيق أمني كامل بين دول الاتحاد الاوروبي، وعندما تحدثت مع الهولندي خايس ديفريس، الذي كان يشغل منصب المنسق الاوروبي لشؤون مكافحة الارهاب، حتى مطلع الشهر الجاري قبل ان يترك منصبه قال إن السلطات والاجهزة الأمنية الأوروبية، نجحت في تجنب وقوع ما بين 40 الى 50 عملية ارهابية، خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية في عدة مدن أوروبية، وجاء ذلك نتيجة التعاون الناجح والعمل الأمني المشترك بين أجهزة الأمن الأوروبية. إلا انه عاد واقل «لكن للاسف وعلى الرغم من هذا التعاون المشترك الناجح بين الدول الأوروبية في المجال الأمني، وقعت انفجارات مدريد وحوادث لندن، وهذا يدل على اننا لا نستطيع 100% أن نمنع الحوادث الإرهابية وتحقيق الامن بالكامل وأضاف «انه على الرغم من الاستعدادات والاجراءات الأمنية المطلوبة لتفادي الهجمات الارهابية فإنها تحدث، وهذا يدفعنا الى ضرورة العمل على تطوير وتعميق العمل المشترك بين السلطات الأمنية الأوروبية.
من جانبه، يؤكد وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير نجاح خطط سياسة المجموعة الأوروبية الموحدة العسكرية والأمنية في الكثير من بلاد العالم، التي شارك الجانب الأوروبي في انزالات عسكرية فيها، مثل البوسنة والهرسك والكونغو الديمقراطية، وقطاع غزة ايضا من خلال اشرافه على معبر رفح الحدودي بين مصر وفلسطين المحتلة. وذكر شتاينماير أن الاتحاد الاوروبي أصبح قوة لا يستهان بها في المحافل الدولية، الا انه بحاجة الى سياسة جديدة تعمل على تقوية الدفاع الاوروبي، وحماية اوروبا من التهديدات الخارجية.
وأعلن أنه منذ ارساء سياسة أمنية لأوروبا في عام 1999، طرأ على العالم تغيرات سياسية وأمنية كثيرة، منها محاربة تنظيمات الإرهاب الدولية في افغانستان، إضافة الى الحرب العراقية ومسألة النزاع في الشرق الأوسط، وقال إن هذه التغيرات افرزت مخاطر جديدة تهدد مستقبل الأوروبيين، اذا لم يبادروا باتخاذ سياسة أمنية جديدة، وكسب شراكات استراتيجية لعدد من دول العالم.