كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرا وسط الأمواج المرتفعة والبرد القارس. شاهدنا من بعد، أضواء الجزيرة اليونانية، فحمدنا الله على السلامة وغمرتنا سعادة بالغة، بعدها اتصل قائد القارب بالمهرب في تركيا وأبلغه أننا بصدد الوصول، ولكن هذه الفرحة لم تتم، إذ توقف موتور القارب عن الحركة فجأة، وتسربت المياه إلى أحذيتنا وبين أرجلنا، وأمرنا الشخصان المسؤولان عن المركب بالقفز الى البحر. هذه الكلمات كانت بداية حكاية محمد السيد الصابر الناجي الوحيد من المركب الذي غرق أخيرا في بحر إيجة بالقرب من جزيرة ساموس غرب اليونان، يحكيها ويرتعش وتختلط كلماته بالدموع، قد تكون دموع عذاب الساعات الطويلة من الإرهاق وقد تكون دموع الفرحة بالحياة الجديدة التي كتبت له من أجل أولاده كما يقول.
بجوار محمد الصابر شقيقة خالد وعدد من أصدقائه وأقاربه في أحد الأحياء الشعبية وسط أثينا. توصلت «الشرق الأوسط» إلى محمد الصابر وهو مصري الجنسية من المنصورة، يبلغ من العمر 38 سنة وله ثلاثة أبناء، وهو شاب مثقف ويحمل شهادة تعليمية عليا، لكن ظروف الحياة الصعبة قذفت به إلى تركيا لينضم إلى أفواج المهاجرين غير الشرعيين المتراكمين في المدن الساحلية التركية بانتظار إشارة المهربين للتوجه إلى البحر والسباق مع الموت والعبور إلى اليونان ومن ثم إلى بقية دول الاتحاد الأوروبي.
يقول محمد إن المأساة بدأت قبل حادثة الغرق بأسبوع: أخبرنا المهرب بالسفر من منطقة أزمير إلى منطقة ادرنة وهي مدينة تركية ساحلية مواجهة للجزر اليونانية، وبعد عدة أيام أخبرنا بالسفر، كان مساء يوم الخميس، جاءت سيارة ميكروباص لتنقلنا إلى أحد الشاليهات وبعد دخولنا الشاليه أطفئوا الأنوار حتى لا نثير الشك وبعدها توجهنا إلى المركب الذي نزلنا إليه عبر سلالم من منطقة مرتفعة جدا. كنا 16 شخصا على متن القارب الذي لا يزيد طوله عن 3 أمتار وعرضه نحو متر ونصف المتر، 14 مهاجرا بينهم 9 مصريين وأربعة هنود وعراقي واحد بالإضافة إلى شخصين يقولان إنهما سوريان وكانا المسؤولين عنا، أحدهما كان ناضورجيا (مراقبا) وفي يده بصلة والثاني كان يقود القارب الصغير والمزود بموتور يعمل بالغاز في خلفه.
الساعة كانت الثانية بعد منتصف الليل تقريبا عندما انطلقنا بالقارب بهدف الوصول إلى الجزيرة اليونانية التي عرفت بعد ذلك أن اسمها ساموس، وكان قد ذكر لنا المهرب أن المدة تستغرق نحو ساعة ونصف الساعة تقريبا، كان حجم القارب صغيرا جدا بالنسبة للعدد، ولكن سرعته كانت ترفعه فوق الأمواج. بعد اقترابنا من الجزيرة اليونانية ورؤية الأضواء من بعيد، توقفت حركة موتور القارب، بعدها أمرنا المهربان بإلقاء أنفسنا في البحر وكانا هما أول من سبقنا في ذلك ولكن كانت معهما لوازم النجاة من الغرق. بعد دقائق معدودة من صياحنا وصراخنا لعل أحدا ينقذنا، وجدت نفسي وحيدا أصارع الموت. بعد نحو ثلاث ساعات توقفت أحد قدمي عن الحركة وأصبحت بقدم واحدة، بعدها بساعات توقفت قدمي الأخرى وأصبحت أسبح بذراعي وبجسدي مثل الثعبان.
خلال ساعات السباحة، لم أشاهد أي شيء، وبعد الظهر أي بعد عشر ساعات تقريبا من السباحة جاءت الأمواج الشديدة لتجرفني بعيدا، ولكن إرادة الله أعطتني القوة وصارعت حتى وصلت إلى صخر الجزيرة بعد نحو أربع عشرة ساعة ونصف الساعة، وبالرغم من أنني كنت في شبه غيبوبة وافقد توازني، تسلقت الصخر ومددت جسدي تحت أشجار الجبل، وعاد إلي الإحساس في اليوم التالي.
تمالكت قوتي من جديد وأثناء سيري في الجبل وجدت قطيع من الماعز، ولكن لم أجد أحدا معه، فشربت من المياه المخصصة لشرب الماعز وبقيت هناك لعدة ساعات حتى جاء صاحب القطيع الذي أعطاني بعض الفاكهة والمياه وأرشدني إلى طريق النزول لأعثر على أناس حملوني إلى المستشفى وبعد يومين في المستشفى وإجراء الإسعافات الأولية ووصول الشرطة والتحقيقات تملكت قوتي مرة أخرى.
في هذه الأحيان كان شقيقي قد علم بأن كل من على القارب قد غرقوا، وانتشلت قوات الإنقاذ اليونانية سبع جثث بينما الباقي في تعداد المفقودين، وعند وصوله إلى المشرحة لم يجد جثتي، فتيقن أنني في تعداد المفقودين وعاد إلى أثينا، وبعد ذلك اتصلت به تليفونيا ولم يصدق نفسه وأرشدني إلى كيفية الوصول إلى أثينا.
خالد الصابر المقيم في اليونان وهو شقيق محمد، يقول بدوره لـ«الشرق الأوسط»: فوجئت بخبر أن أخي كان على متن المركب الغارق، وسافرت إلى جزيرة ساموس للتعرف على الجثث التي انتشلتها السلطات اليونانية ولكن لم أجد محمدا فيها. رجعت إلى أثينا يمتلكني حزن كبير إذ تمنيت أن أجد جثته بينهم وليس ضمن المفقودين. بعد يومين، فوجئت بجرس التليفون وشقيقي يحدثني ويقول لي إنه تمكن من السباحة ويرقد في أحد مستشفيات جزيرة ساموس، فحمدت الله، وأحضرته إلى أثينا. أصدقاء الصابر وبعض أقارب الضحايا الذين ماتوا أو فقدوا في البحر من دون أن يعثر على جثثهم، يقولون إن هذه المأساة يمكن أن تتكرر وعلى السلطات والجهات المعنية اتخاذ اللازم حيال عدم سفر أو مجازفة البعض للهجرة غير الشرعية، والالتزام بالأساليب القانونية والشرعية فقط. السلطات اليونانية انتشلت سبع جثث والباقي يعتبر في تعداد المفقودين بعدما أعلنت قوات الإنقاذ إيقاف عمليات البحث والتي جاءت بعد ثلاثة أيام، وتمشيط المنطقة، حيث تم التعرف من الجثث السبع على أربعة مصريين ومهاجر عراقي وعلى جثتين لم يتم التعرف عليهما قد تعودا لمهاجرين هنديين.
وقال أحد المسؤولين اليونانيين في ميناء ساموس اليوناني في اتصال مع «الشرق الأوسط»، ان المركب التي غرقت لم يتم التعرف على اسمها أو حجمها أو عدد من كان عليها بالتحديد، وأن كل ما لديهم هي معلومات أدلى بها أحد الأشخاص بصورة غير رسمية، موضحا أن المركب كانت صغيرة وعليها عدد قليل من المهاجرين وهذا هو الشيء الجيد في الحادث. وأضاف المسؤول اليوناني أن معظم المهاجرين غير الشرعيين يتخلصون من مستنداتهم قبل الصعود إلى ظهر المركب وفي معظم الحالات يقولون إنهم من فلسطين أو العراق وحاليا يقولون إنهم من فلسطين أو لبنان، ولكن الشرطة تعرف جيدا إنهم من دول أخرى. يختتم محمد الصابر حديثه قائلا: لو كنت أعرف أن الحكاية هكذا ما جازفت وخرجت من قريتي ومن بين أولادي، لو كنت أعرف حجم الخطورة والمشقة والتعب، ليس فقط في البحر ولكن قبل هذه المرحلة، وخلال التعامل مع تجار البشر والمهربين من الجنسيات المختلفة.. لما أقدمت عليها.