قارعة الطبول

تبلورت شخصية تسيبي لفني في «الموساد».. وهوايتها لعب السلة ومداعبة «القطط» وخربشتها.. وترفض إطعام الأصدقاء

TT

إحدى النكات التي تداولوها في اسرائيل في مطلع السبعينات، عندما تسلمت غولدا مئير رئاسة الوزراء، كانت ان «الرجل الوحيد في الحكومة هو غولدا». وقد تم استذكار هذه النكتة مرارا في الأيام الأخيرة في اسرائيل، ليس إطراءً لأول امرأة في رئاسة الوزراء في تاريخ اسرائيل، بل للطعن في تسيبي لفني، المرشحة لرئاسة الوزراء بعد ايهود اولمرت. يقصدون القول انها ضعيفة ولا تنطبق صفاتها على المرأة القوية، غولدا مئير.

فالوزيرة لفني، التي تعتبر اليوم أكثر الشخصيات السياسية الاسرائيلية شعبية وتنبأت لها الصحافة أن تجلس على مقعد الرئاسة في القريب العاجل، تتعرض لحملة هجوم وتشويه غير مسبوقة تستهدف تحطيم شخصيتها وإحراق شعبيتها وقطع طريقها الى الكرسي المنشود. والمصدر الأول لهذه الحملة هو مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود أولمرت، الذي كان قبل سنة واحدة فقط قربها اليه وفضلها على كل زعماء حزبه كديما، بمن في ذلك الزعيم التاريخي، شمعون بيرس، والمقربون المخلصون، روني بار أون وزير الداخلية وآفي ديختر وزير الأمن الداخلي. لكن الهجوم المفهوم، عليها من مكتب أولمرت، لم يكن ليحدث أثرا لو لم تترافق معه تلك الهجمة من الصحافة الاسرائيلية، هذا الأسبوع. وذكر بعض عناوين الصحف الاسرائيلية يشي بقوة الحملة ضدها ومن بينها: «خيبة أمل»، و«سقطت في أول امتحان»، و«جبانة وأفاقة ومملة»، و«تعتمد على ذاكرة الناس القصيرة وتخدع مستمعيها ومؤيديها». لفني من جهتها لم تبدو متأثرة ومنهارة من هذا الهجوم الكاسح، بل خرجت الى الاعلام بتصريحات تطلب فيها من الصحافيين وسائر المعنيين أن يمهلوها ما تحتاج من الوقت لتثبت لهم جميعا بأنها تعرف بالضبط ما الذي تريده من الحلبة السياسية وأن خطواتها محسوبة «ومن لا يقدر أهمية هذه الخطوات فإنه يكون واحدا من أمرين فإما انه لا يفهم شخصيتي وإما لا يدرس الوضع بشكل مهني عاقل». وأضافت: «لا تحاسبوني على ما تحسبونه جريمة، بينما أراه أنا شيئا آخر». و«جريمتها»، التي أغضبت الصحافة، هي انهم توقعوا أن تعلن استقالتها من حكومة أولمرت، حالما صدر «تقرير فينوغراد» وأن تقود كتلة من حزب «كديما» في الكنيست (البرلمان الاسرائيلي)، لاسقاطه وتشكيل حكومة جديدة برئاستها. وقد اعتمدوا في هذا الأمل، على ما جاء في تقرير لجنة التحقيق الحكومية، المعروفة باسم «لجنة فينوغراد»، من أن أولمرت يتحمل المسؤولية الأساسية عن إخفاقات الحرب الأخيرة في لبنان. فتوقعوا أن يتصرف أولمرت وفق التقاليد السياسية الحزبية الأوروبية ويستقيل، وإلا فعلى لفني، بوصفها ذات شعبية كبيرة، أن تستقيل وتقود من خارج الحكومة معركة حزبية وسياسية وجماهيرية لاطاحته. لكن لفني خيبت آمال كل هؤلاء، وزادت الطين بلّة، عندما اجتمعت مع أولمرت، بأربع عيون، وسط ضجة اعلامية كبيرة وطلبت منه فعلا أن يستقيل. وقالت له انها تحترمه كثيرا وتؤمن به وبقدراته ولكن تقرير لجنة فينوغراد لا يترك له مجالا إلا ان يستقيل. وانه إذا ترك منصبه اليوم، فإنه بذلك يضرب مثلا في الأخلاق السياسية الديمقراطية وينقذ حكم حزب «كديما»، حيث انه «في حالة تشبث بالكرسي، فإن المعارضة اليمينية ستنجح في جر البلاد الى انتخابات جديدة، وكل استطلاعات الرأي تشير الى ان اليمين سينتصر وأن بنيامين نتنياهو هو الذي سيعود عندئذ الى رئاسة الحكومة». بيد ان أولمرت رفض الاقتراح وطلب من لفني أن تقوم بواجبها في الحكومة وتنتبه الى انها لا تستطيع أن تبقى حاملة المنصب الثاني في الحكومة (القائمة بأعمال رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية) وفي الوقت نفسه تتآمر على رئيس الحكومة. وبدلا من أن تخرج لفني من اللقاء مزهوة، كما توقع الجميع، اهانها أولمرت بتصريح القاه أحد المقربين منه، طال زلبرشتاين، مستشاره الاعلامي، الذي قال انه يعتقد ان على أولمرت أن يقيل لفني فورا من الحكومة لأنها خانت الأمانة وبصقت في الصحن الذي تأكل فيه ولم تعد مخلصة له. فاعتبروا ذلك «توبيخا علنيا» من أولمرت الى لفني يضعها في حجمها الطبيعي، «فهي محبوبة لأنها ليست مكشوفة»، قالوا فما هي حقيقة شخصيتها؟ «امرأة حديدية»، كما يطلق على كل امرأة تتعاطى بالسياسة في عالمنا وتنجح، أم انها تتمتع بصفات أخرى قد تؤهلها للمنصب الجديد؟ وهل هي مؤهلة فعلا لتولي رئاسة الحكومة في اسرائيل؟ عشر نساء فقط في التاريخ الاسرائيلي، وصلن الى منصب وزاري في الحكومة، تيسبي لفني آخر واحدة منهن. ولا بأس من القول انها أجملهن. صفة المرأة الحديدية لا تنطبق عليها، لكن ذلك لا يعني انها متساهلة. هناك من يرى أن أربع سنوات في حياتها، ما بين أعوام 1980 و1984 هي التي رسمت شخصيتها السياسية. لكن من الصعب معرفة حقيقة هذه الفرضية، حيث انها في تلك السنوات خدمت في جهاز المخابرات الاسرائيلية الخارجية «الموساد» وتولت مهمات حساسة، في باريس وغيرها من العواصم، وما فعلته في اطار هذه الخدمة سيبقى سرا دفينا لسنين طويلة.

رئيس «الموساد» الأسبق، أفرايم هليفي، يؤكد ان جهازه ترك أثره عليها «ولكنها جاءت مصقولة». ويضيف انه يذكرها من تلك السنوات «شجاعة شخصية غير عادية، صلبة وراء تحقيق الهدف، قدرة على العمل الجماعي في طاقم، دقة في التنفيذ ودقة في التقارير»، ويقول انه كرئيس للموساد تعرف على نشاطها كوزيرة أيضا، ولاحظ انها تمسكت في أساليب عملها المعروفة في «الموساد»: «قدرة على التركز وصمود في مواجهة الضغط». هي نفسها تؤكد بأن خدمتها في المخابرات ساهمت في صقل شخصيتها، ولكنها ترفض رؤيتها حاسمة في تربيتها. فإنها تعتز بتربيتها البيتية. فوالدها ايتان لفني، كان قائدا في منظمة «ايتسل» وهي الذراع العسكرية للتيار الاصلاحي اليميني المتطرف في الحركة الصهيونية، الذي نفذ عمليات ارهابية كثيرة ضد الجيش البريطاني وضد العرب في فلسطين قبل النكبة. وفي مرحلة معينة تولى والدها منصب قائد العمليات في هذه الحركة. ثم انتخب عضوا في الكنيست (البرلمان الاسرائيلي)، بعد قيام الدولة العبرية. وتميز والدها بالتطرف السياسي «ولكنه كان معتدلا في الحياة. ومعتدلا في القضايا الاجتماعية والعلاقات الشخصية وفي لغة الخطاب الانساني». ابنته تسيبي تحب أن تشير دائما إلى انها تربت على نفس الأسس والمبادئ والأخلاق.

ولدت ليفي في تل أبيب سنة 1958 وهي اليوم تعيش في المدينة نفسها ولها ولدان، الأكبر جندي في الجيش والثاني طالب في الثانوية. منذ نعومة أظفارها انخرطت في العمل السياسي في اطار حركة الشبيبة التابعة للتيار اليميني الصهيوني «بيتار»، وبرزت في روحها القيادية، رغم انها بدت خجولة تتلون وجنتاها بالاحمرار وتغسل عيناها الدموع في أي حدث مؤثر. عندما كانت في السادسة عشرة من العمر قادت فريق كرة السلة في نادي الحي. في سنة 1973 – 1974، عندما أجرى وزير الخارجية الأميركي، هنري كسينجر، جولاته المكوكية في الشرق الأوسط للتوصل الى اتفاقات مرحلية مع مصر وسورية في أعقاب حرب أكتوبر (تشرين الاول)، قادت لفني مظاهرات شبيبة حزب «جاحل» ضده ورفعت شعارات تطعن في اخلاص كسينجر ليهوديته. وهي تحب الرياضة ولا تزال تمارسها حتى اليوم. من هواياتها المشي على شاطئ البحر. رغم هدوئها الخارجي القريبون منها يتحدثون عن شخصية أخرى تماما في البيت ومع الأصدقاء. الصحافية عنات طال شير، التي تتابع لفني منذ سنوات تكشف بعض جوانب الشخصية الخفية لوزيرة الخارجية لفني، فتقول: «هي تحب التحرر. تحب الرقص بلا قيود. وعندما تكون سعيدة تصعد الى الطاولة وترقص عليها. تتقن قرع الطبول كما لو انها ضابطة ايقاع محترفة. مجنونة على القطط. تداعبها وتعاركها وفي مرات كثيرة تشاهد وهي تتدحرج في صالون بيتها مع قطتها. وهي بالمناسبة نباتية، وتعلن انها لا تأكل اللحوم من منطلق ضميري حيث ترفض مبدئيا ذبح الحيوانات الأليفة. تحب الرحلات في الجبال والغابات. تمضي نهاية الأسبوع عادة مع عائلتها الصغيرة». تجندت في الجيش ضمن الخدمة الالزامية ووصلت الى درجة ملازم أول، وعملت مرشدة في مدرسة الضباط. وتركت الجيش لأنها رغبت في دراسة المحاماة. وقد قطعت الدراسة من أجل «الموساد»، وتمت مكافأتها بأن أعادوها الى الدراسة في السنة الأخيرة من خدمتها. بدأت لفني تبرز في العمل السياسي والحزبي في مطلع التسعينات. انتخبت عضوا في المجلس المركزي لحزب الليكود. ورشحت نفسها لعضوية الكنيست في انتخابات 1996، واحتلت المركز 34 مع انها لم تعمل كثيرا على الدعاية لنفسها سوى في اللحظة الأخيرة، خلال جلسة المجلس الانتخابية. وكادت تدخل الكنيست، لولا ان حزبها لم يتخط عتبة الـ 32 مقعدا. وقد كان الأمين العام لحزب الليكود يومها، أفيغدور لبرمن، قائد حزب «اسرائيل بيتنا» ووزير الشؤون الاستراتيجية في حكومة أولمرت اليوم. فأعجب بها وبطريقة تقديمها نفسها وتأكيدها على المصالح العامة من دون أن تعد أحدا بشيء. بل كانت تقول لأعضاء المركز الذين سينتخبون القائمة: من كان منكم يريد التصويت لي مقابل خدمة ما أقدمها له، فإنني أطلب منه أن لا يصوت لي. فأنا لا أشتري مقعدي بالمال وكل ما أعدكم به هو أن أحافظ على أخلاقي واستقامتي وعلى مصالح الدولة والحزب.

ويؤكد تسادوق يحزقيلي، الصحافي الذي قابل العديد من العاملين مع لفني في وزارة الخارجية، يقول ان قسما كبيرا من مرؤوسيها لا يحبونها، لأنها جلبت الى الوزارة أخلاقيات اخرى لم يعرفوها من قبل: «نقابة الموظفين في الوزارة حاولت تشويه سمعتها ومحاربتها بكل الوسائل لأنها تفرض جو عمل جديا وقاسيا. منذ توليها منصبها دخلت في صدام مع رؤساء الدوائر في الوزارة. فقد جمعتهم لسماع تقديراتهم وتقويمهم للأوضاع، فراحوا يتكلمون الواحد تلو الآخر. فاستمعت لهم بصبر وأناة، ولكن بعد انتهاء كلماتهم صدمتهم في تلخيصها بالقول ان ما سمعته منهم سطحي وسخيف وليس فيه عمل مهني وطلبت منهم أن يعودوا اليها في اليوم التالي بتقارير محترمة وذات معنى وبأن لا يكرروا معها هذا التصرف. وقالت لهم: «أنا أسمح لكم بأن تختلفوا معي. بل أطلب منكم أن لا توافقوا على شيء لا يروق لكم. تحدوني. ناقشوني. لكن اياكم والتعامل معي بهذه السطحية». ويضيف يحزقيلي ان كبار الموظفين هناك لم يعتادوا على وزير يوجه الكثير من الأسئلة مثل تسيبي لفني. لم يعتادوا على توبيخ جماعي كهذا.

ومع ذلك فإن أشد أعدائها في الوزارة يعترف لها بأنها لم تستخدم منصبها لرفع مكانة مؤيديها من الليكود أو «كديما». فقد جلبت معها الى الوزارة فقط موظفين اثنين، هما المدير العام والمدير السياسي. كل الوظائف الأخرى من الوزارة نفسها. وحتى السفراء الذين عينتهم في السنة الأخيرة كان معظمهم موظفين وليسوا سياسيين. هي تقول ان السبب في ذلك هو انها ترفض أي شكل من اشكال المحسوبية. لكن خصومها يقولون ان هذا ناجم عن افتقارها للأصدقاء والمقربين. فهي لا تقرب أحدا الى ساحتها. ويرد أحد مساعديها: «أجل قد يكون ذلك صحيحا ولكن ليس عيبا. فمن يربي له اصدقاء سيضطر الى اطعامهم. وهي ليست مستعدة الى استغلال مركزها لمنح أية وظيفة وأي امتياز». وكما هو معروف، فإن هذه ميزات مهمة في اسرائيل اليوم، في ظل انتشار الفساد ووصول وزراء ونواب بل رئيس دولة ورئيس وزراء، الى قفص الاتهام في المحاكم وغرف التحقيق في الشرطة. مقابل هؤلاء، فازت لفني بلقب «بطلة طهارة الحكم» من المسابقة السنوية التي تجريها منظمة «بيئة نظيفة». ويبقى السؤال الأهم، هل لفني ستصبح رئيسة حكومة أم لا ومتى؟ هذه هي القضية التي يتم تداولها في اسرائيل اليوم. فالتصرف الذي قامت به مع أولمرت، أي مطالبته بالاستقالة ثم الاستمرار في العمل معه كما لو أن شيئا لم يحدث، فسر على انه ضعف شخصية أو خوف من عقاب. وهذا ما أدى الى هجوم الصحافة عليها. إلا انها تصد هذه الهجمة بهدوء وبلطف، فتقول في حديث الى الصحافي ناحوم بارنياع، انها ليست مبنية من شخصية التآمر.

وانها قالت ما قالته لأولمرت من منطلق القناعة وانها لم تغير رأيها. ولكن إذا أراد أولمرت أن يتجاهل الانتقادات الجماهيرية فانها لن تظل ساكتة. ولكن إذا أقنع أولمرت الجمهور الاسرائيلي فتوقفت حملات الاحتجاج، فإنها لن تنفذ انقلابا على أولمرت. وستواصل العمل معه، فهو قائد جيد وانسان مخلص ولديه طاقات ومواهب.

ويذكر هذا الموقف من لفني بموقف آخر حصل في نهاية الحرب على لبنان في السنة الماضية. فقد استدعيت لفني الى الولايات المتحدة وتم ترتيب لقاء لها مع رئيس مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. وخلال جلستهما دخل الغرفة بشكل «مفاجئ» الرئيس الأميركي، جورج بوش، وتكلم معها ثلاثة ارباع الساعة. وحسب شخصية سياسية قريبة منها فان كلام بوش تضمن تعبيرا عن خيبة الأمل من أولمرت وفشله في ادارة هذه الحرب، ولمح بوش اليها بالسؤال إن كانت معنية بتولي منصب رئيس الوزراء الاسرائيلي في حالة سقوط أولمرت أو استقالته. فردت بحزم لا يقبل التأويل انها ترفض التآمر على من دفعها الى مقدمة الحياة السياسية. وهكذا، خرج بوش خائب الأمل منها، وقال: إنها ليست من نفس الطينة التي جبلت منها غولدا مئير.

بيد ان لفني تنظر للأمور بشكل آخر. وكما قالت للصحافة في تبرير تصرفها المرن مع أولمرت فإنها تعتبر طريقتها المعتدلة هذه بمثابة امتياز لها. وانه قد يبدو غير مقبول حاليا لأن «المجتمع الاسرائيلي معتاد على الصراخ والزعيق والمزاحمة والتآمر، فعندما تفهمون طريقتي هذه ستكتشفون انها تحدث انقلابا أبيض في السياسة الاسرائيلية سيترك أثره على مجمل حياتنا». ولم تنس أن تؤكد بالطبع على أنها ستصبح بالتأكيد رئيسة للحكومة الاسرائيلية، وليس في زمن بعيد. بكلمات أخرى ان تسبي لفني لم تبرح أرض المعركة بعد مع أولمرت. وإذا كان هذا العراك يشبه اليوم عراكها الدمث مع قطتها، فإنها في العراك الحقيقي قد «تخرمش»، وفي أية الأحوال هي واثقة من النجاح.