معركة سد

مشروع إقامة سد كجبار يهدد بتشريد مليون وخمسمائة ألف نسمة في السودان.. لكن الأخطر أنه يهدد بحرب بين أهالي النوبة والعرب

TT

«سد كجبار».. قصة سودانية بسبعة رؤوس، علي ما يبدو، رأس يفضي الى رأس. اعتلت القصة، بقوة وعن جدارة، هذه الايام، عرش الاحداث الساخنة في السودان وما أكثره في هذا البلد. والقصة خليط من الواقع، والحقائق، والارض، والعرض والجذور والانتماء. وهي صفحة غير منقحة في كتاب التنمية الشائك في هذا البلد. كما انها لا تخلو من «وصفة» سياسية، على الطريقة السودانية، ومن «جهوية» تسللت إلى منضدة القرار السوداني بكثافة، في العقدين الاخيرين، او اكثر، على وجه التحديد. في ابريل (نيسان) الماضي، اعترض مئات المواطنين سبيل آليات حكومية تحركت من العاصمة الخرطوم، ومدينة «دنقلا»، كبرى المدن الشمال، لاجراء دراسات حول اقامة «سد كجبار»، على نهر النيل في شمال السودان، استنجدت الاليات الحكومية بالشرطة، فوقع صدام بين الاخيرة والمواطنين اسفر عن اصابة اربعة من المواطنين بعضهم اصاباته خطيرة. لم ينقشع غبار المعركة، إلا بعد أن سحبت الحكومة آلياتها وأطلق مسؤولون حكوميون تصريحات بأن الدراسة جمِّدت، الي حين إشعار اخر، ولكن ظل الاحتقان والترقب وفقدان الثقة هو سيد الموقف في المنطقة، وظلت الابواب مفتوحة على كل الاحتمالات.

الاسبوع الماضي يبدو أنه حان وقت «الاشعار الاخر» الوارد في تصريحات المسؤولين في الحكومة، حين شق صباحات القرى والارياف ضجيج آليات في ذات المكان. وما أن عرف الناس أن ما يجري في المكان هو بمثابة استئناف للدراسات الميدانية لاقامة المشروع المثير للخلاف والجدل حتى احتشدوا مرة اخرى وتوجهوا صوب مكان اقامة السد. ويروي شهود عيان ان المئات من سكان المنطقة تجمعوا في الصباح في منطقة «جدي»، وقرروا التوجه الى موقع السد على ان يلتقوا هناك بمواطني منطقة كجبار وبعض من القرى الاخرى ليتحرك الجميع الى منطقة «سبو» التي تبعد ثلاثة كيلومترات عن جدي مكتب المهندس المقيم للمشروع. وطبقا لشهود العيان فان «المحتجين قرروا ان ينفذوا فى المكان اعتصاما يستمر حتى مغيب الشمس ويستفسروا عن المبررات التى اعيدت بها الآليات بعد سحبها وعن تجريف الاراضي الزراعية والحكومة تؤكد في كل خطبها ان المشروع في طور الدراسة، وهل الدراسة تتطلب التجريف». ومضى شهود العيان في روايتهم للاحداث ان الحشود وصلت الى ممر ضيق محصور بين النهر وربوة فى المكان، على بعد أكثر من 5 كيلومترات من موقع الآليات. وأضافوا: «هنا اطلقت الشرطة النار فسقط القتلى والجرحى وقذف عدد منهم بأنفسهم الى النهر، وتحول المكان الى هرج ومرج. وقتل فى الحادث 4 اشخاص، وجرح نحو 20 بينها اصابات خطيرة، وآخرون باتوا في عداد المفقودين. وتواترت قصة الدم المراق فى كجبار بسبب السد. وتحولت المنطقة الى برميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة. وقصة «سد كجبار» الشائكة، يمكن اختصارها في كبسولة تقول: ان الحكومة بناءً علي دراسات اولية سابقة، ودراسات غير منشورة، حاليا، تسعى الى اقامة «سد كجبار» على نهر النيل، ليصبح هو السد الثاني بعد «سد مروي» على ذات النهر، وذات الولاية الشمالية «شمال الخرطوم».

ولكن سكان «كجبار» يرفضون الفكرة، ويعتبرون الخطوات الحكومية الحالية إزاء المشروع، هي بداية تهجيرهم قسراً من ديارهم ووطنهم الاصلي في السودان، ويستندون في رفضهم الى تداعيات إقامة «السد العالي» على نهر النيل جنوب مصر ومن بينها فقدان المتضررين للارض والجذور والموطن. ويعتقد سكان كجبار ان اقامة السد وفق الطريقة التي تمضي بها الحكومة الان يعني تهجير سكان «36» مشيخة قسرا. وطبقا لدراسة اعدها المهندس إبراهيم سليمان مسؤول في لجنة فنية مؤقتة لانقاذ الانسان والتراث النوبي شمال السودان فان المشروع يؤثر على مليون وخمسمائة الف نسمة مقيم بالمنطقة الممتدة جنوب السد حتى القولد وجزيرة كومي، بجانب أكثر من مليون شخص تنتمي جذورهم الى المنطقة، ولظروف الحياة المختلفة هاجروا عن مناطقهم الى دول أخرى ومناطق أخرى داخل السودان. ويقول سليمان فى دراسته التي اعدها في يونيو (حزيران) 1998 ان المشروع سيقضي على منطقة زاخرة بالآثار الموغلة في القدم، والممثلة للحقب التاريخية المهمة في تاريخ أفريقيا والسودان ووادي النيل، ومناطق تزخر بالكنائس والاثار القبطية. وهذا ما يدفع بالكثيرين من الخبراء للمطالبة بضرورة التأني في اقامة السدود «حتى لا تظهر فى عمليات التنفيذ حقائق غير مرئية فى الدراسات تسبب الكثير من الاضرار»، حسب الخبير السوداني فى مجال السدود صغيرون الزين صغيرون الذي تحدث لـ«الشرق الاوسط» حول الموضوع، وقال ان فكرة السد العالي كانت بسيطة ولكن عند التنفيذ حدثت تغيرات كبيرة وصعبة ولم تكن في الحسبان، وقال «لا بد من دراسة الماضي والحاضر وقراءة المستقبل جيدا قبل اقامة اي سد». ومضى «ولا بد من الاجابة عن جملة اسئلة مثل لمن وعلى من يقع التغيير».

وفي هذا الخصوص. ويرى الدكتور علي عثمان محمد صالح عالم الاثار واستاذها بجامعة الخرطوم بأن المشروعات القومية مثل السدود يجب ان تكون مسبوقة اصلا بمشروعات تنمية محلية تحفز على القبول بالمشروعات متى ما جاءت.

وتساءل في حديث لـ«الشرق الاوسط»: لكن هل هناك اهتمام ملموس بالتنمية المحلية في؟ وشدد: على أن «الشروع لن يقوم بجدوى الا بعد تأهيل المشروعات المحلية التي تشعر المواطن بأنه جزء من الدولة، وفي هذا الخصوص، يضيف الجزولي ان المنطقة المتأثرة بقيام سد كجبار لن تستفيد منه باعتبار ان القيمة الفعلية للاستثمار في الكهرباء هي استخدامها في التصنيع والمواطن في تلك المناطق لا يملك غير قوت يومه.

وتتخلل المحاذير من اقامة المشروع دراسات وروايات غير منشورة من بينها ما يردده ابناء «قومية النوبة» شمال السودان بان مشروع كجبار يمثل الجزء الثاني من «مؤامرة عربية» يدريها عرب في مصر والسودان لتذويب القومية النوبية فى العرب الى درجة التلاشي وان المرحلة الاولى من المؤامرة بدأت عندما اقيم السد العالي حيث جرى اثره تهجير آلاف من النوبة المعروفين بـ«الحلفاويين» من ديارهم ومدينتهم «حلفا» القديمة الى داخل السودان، وأغرقت مناطقهم بمياه السد، وتحذر الدراسات بان المرحلة الثانية «قد لا تختلف في الشكل والمضمون عن المرحلة الاولى».

وفي نطاق المحاذير يعيد المحامي كمال الجزولي، وهو قيادي في الحزب الشيوعي، الى الأذهان «قصص الاغراق» في ديار النوبة. ويقول: «إن للنوبيين من التجارب المريرة، أصلاً، مع الدولة، استعماريَّة كانت أم وطنيَّة، ما يكفي لتبرير شكوكهم في مثل هذه المشاريع، دونما حاجة لصهيونيَّة أو ماسونيَّة، كون مناطقهم ظلت وحدها المستهدفة تاريخياً بالإغراق، مثلما ظلوا هم المجموعة العرقية الوحيدة المستهدفة في كلِّ مرة، بـ التهجير ولقد تعرَّضوا خلال ما لا يربو كثيراً على نصف قرن، لأربع من هذه الخبرات الأليمة، ابتداءً من إنشاء خزان أسوان عام 1902، وتعليته مرَّتين خلال عام 1932، وحتى قيام السدِّ العالي عام 1963/1964». وفي نطاق الجدل المتصاعد حول جدوى مشروع سد كجبار من عدمه، يعتقد وزير ري سابق في السودان ان تعلية خزان الرصيرص على الحدود السودانية ـ الاثيوبية لها فوائد في مجال توفير الكهرباء والماء اكثر من اقامة سد كجبار، ولكن الوزير الذي طلب عدم ذكر اسمه، تساءل في حديث لـ «الشرق الاوسط» هل الدراسات التي تقوم بها الحكومة تراعي الفوائد الحقيقية من المشروع ام المسألة استثمار بحت؟، ويشدد ان اقامة السدود لها جوانب اجتماعية لا بد ان تراعى في المقام الاول. ويرى المساندون للمشروع ان بحيرة النوبة جنوب حلفا ترسبت فيها الاطماء الى عمق 70 متراً، وهي اراض خصبة شرق النهر وغربه على طول 150 كيلومتراً مسحت قبل شهور بأحدث ادوات المسح في اطار دراسات المشروع بواسطة 15 مساحاً حصروا اراضي الدلتا للزراعة فوجدوها 315 الف فدان، وعليه فانه في حال اقامة السد فان زراعة هذه الاراضي من شأنها ان تعيد الحياة للمنطقة. ويقول عوض داوود حسن احد قيادات منطقة حلفا، وهو «موال للحكومة» ان تعداد السكان في المنطقة من «تمبس الى وادي حلفا» شمالاً لا يتعدى 45 الف شخص. والموجودون في العاصمة ودول الخليج لا يقل عن 3 ملايين نسمة، وهذه النسبة توضح لك ان الذين بقوا من النوبة لجملة عدد السكان اقل من 1%. ويضيف بالتأكيد فانه بقيام السد ستروى السهول هناك بالري الانسيابي للزراعة، كما تكون البحيرة مزرعة للاسماك.

ويقول المهندس ميرغنى صالح والي الولاية الشمالية ان هناك «بعض الجهات السياسية ولاغراض خاصة بدأت تشكك المواطنين بان ما يجري بالموقع عبارة عن تنفيذ للسد وليس دراسات»، وعلى النسق، يرى الداعية الاسلامي عوض داوود حسن ان الشيوعيين هم الذين يحرضون السكان ضد المشروع.

واعتبر مسؤول في دارة السدود «حكومية» ان المشروع فقط الان في مرحلة الدراسات «الجيو تقنية». وقال لـ«الشرق الاوسط» ان الحديث الان عن اقامته حديث سابق لاوانه كما ان الحديث ان المتأثرين من قيامه لم يحن وقته بعد، ومضى «نحن في مرحلة الدراسات حتى نعرف الجدوى». وأخيرا، دخل الرئيس عمر البشير على خط الجدل حول المشروع، وقال في سياق دفاعه عنه «هناك محاولات جارية لتعطيل المشروعات التنموية الجارية في السودان من قبل الدول التي تسعى لحصار السودان وفرض العقوبات عليه».

وحكى عالم الاثار الدكتور علي عثمان صالح وهو من ابناء المنطقة لـ«الشرق الاوسط» بداية القصة، وقال «في أعقاب بناء السد العالي جنوب مصر تمت ازالة كميات من الصخور خلف السد، في مناطق حلفا والمحس، لفتح السبيل أمام البواخر لتتحرك جنوبا، وقد ادى هذا الى زيادة في سرعة المياه الى الشمال مما تسبب في خلق جفاف في مناطق المحس فجاءت فكرة اقامة سد «سبو» عام 1965 المعروف الآن بسد كجبار».

ومضى استاذ الاثار السوداني يقول ان الغرض من السد هو حجز المياه لري مشروع مقترح وهو مشروع «كوكا» الزراعي الذي يمتد غربا الى اولى الحدود مع ليبيا شمال غرب في مساحة 70 الف فدان، ولكن الفكرة لم تتطور، ويتابع «ان الفكرة نشطت مرة اخرى عام 1970 في عهد الرئيس نميري الذي طرح خطة التنمية الريفية في البلاد، فكون انباء المجلس لجنة لتطوير المنطقة برئاسة محمد ابراهيم ارباب، وظلت منذ مارس 1970 وحتى اغسطس عام 1971 تدرس جدوى اقامة السد وربطت اللجنة اقامة السد بمشروع «كوكا» الزراعي، ولكن الفكرة اصطدمت بصعوبات فلم تمض الى الامام. يمضي عالم الاثار الى القول «في عام 1988 تصدى اتحاد انباء المحس الى مسألة اقامة السد، وخرجوا بتوصية بأنه لابد أن تسبق التنمية الريفية اية خطوة لإقامة سد كجبار» وايضا لم يستمر المشروع على خطى التنفيذ.

وتجددت فكرة المشروع فى عهد الرئيس البشير عام 1994، ويقول والي الولاية الشمالية، في هذا الشأن، ان موافقة مواطني المنطقة على اقامة السد منذ عام 1995 على قيام السد. ويضيف ان المشروع كان حلما وما يزال ويعول عليه كثيرا اذا اثبتت الدراسات جدواه في أحداث نهضة شاملة وتنمية مصاحبة تسهم في اعادة توطين الذي نزحوا خارج الولاية. وذكر ان الدراسات كانت تسير بصورة طبيعية حتى ابريل 2007 حيث تم الفراغ من الدراسات وتبقت بعض الدراسات «الجيو تقنية». ولكن هذه الدراسات جاءت مصحوبة بمناهضة شديدة وتحت لافتات تحذيرية على شاكلة: «مأساة عبود لن تعود»، «نخيلنا اقتصادنا»، «أرضنا تاريخنا»، «لا للخزان.. لا للغرق». ومن تداعيات الاحداث الدامية الاخيرة الناجمة عن استئناف الدراسات، ان تحولت الاحداث الي ساحة نشاط للقوى السياسية المعارضة، فقد طالبت بالتحقيق المحايد في الصدام بين الشرطة والمواطنين، وادانت مقتل المواطنين فيها، وهناك من اقترح رفع دعوى دستورية لإيقاف ما سماه المعارض السوداني علي محمود حسنين «العبث» الذي يجري هناك. وطالب فصيل من المعارضة بإيقاف العمل في المشروع وتعويض الأهالي، والتفاوض مع لجنتهم. كما اعتبر معارضون أن ما جرى يمثل آخر حلقة لإغراق المنطقة وثقافتها وحضارتها. ويرى معارضون أن الحلَّ الوحيد هو الانتفاضة الشعبيَّة». والى «حين اشعار اخر»، لا يعرف الى اية وجهة تتجه الامور فى «كجبار»، التي تحولت بين عشية وضحاها الى «برميل بارود» معبأ وجاهز لمن يفجره، من جديد.