هذا الكتاب ممنوع

تاريخ منع الكتب فى العالم يمتد من الصين إلى فرنسا وروسيا وألمانيا

TT

خرج المئات فى باكستان خلال الايام الماضية يحرقون كتبا يرون انها تتعارض مع تعاليم الاسلام. وضعت الكتب وسط الشوارع، ومعها اقراص «سي دي» و«دى فى دي» وصب فوقها بنزين، وأشعل احدهم عود ثقاب، فاحترق كل شيء فى دقائق. هذا المشهد ليس نادرا او جديدا، فخلال عمر الانسانية المعروف، كانت ظاهرة حرق الكتب، مثل الحروب الداخلية او الصراع على السلطة، ظاهرة يومية اعتيادية عرفتها كل الشعوب القديمة بلا استثناء. فبعد ميلاد السيد المسيح بخمسين سنة لم يحرق كتاب، او كتابين، او ثلاثة كتب فقط، ولكن دمرت مكتبة كاملة، اكبر مكتبة في العالم في ذلك الوقت: مكتبة الاسكندرية.

كان بناها (وبنى الاسكندرية نفسها) الاسكندر الاكبر، قبل ميلاد المسيح بثلاثمائة سنة. كان ذلك اول غزو غربي للشرق الأوسط، ولمصر، بعد خمسة آلاف سنة من حكم الفراعنة. بعد وفاة الاسكندر، حكم مصر بطليموس «سوتر» (المخلص)، من قادة جيوش الاسكندر، وتلميذ ارسطو. ولأربعمائة سنة، حكم مصر أولاده وأحفاده. وعبدوا الإله «سيربيس»، وكان خليطا من شعوذات فرعونية ويونانية، منها «اوسريس» (إله الحياة والموت)، و«ابيس» (الإله البقرة). وكانت تماثيلهم تملأ مكتبة الاسكندرية، وربما كان هذا سبب تدميرها. عندما انهارت الامبراطورية اليونانية، وجاءت بعدها الامبراطورية الرومانية، ووصل قيصر الى الاسكندرية دمرها، ودمر مكتبتها، كراهية في اليونانيين. ولكن، دمرت المكتبة تدميرا حقيقيا عندما اعتنق الاباطرة الرومانيين المسيحية. وأرسل الامبراطور ثيودوسيس رسالة الى حاكم الاسكندرية بتدمير «معابد الكفار». بينما كان اليونانيون يبنون مكتبة الاسكندرية، كان الصينيون يدمرون المكتبات، و«يحرقون الكتب، ويدفنون العلماء وهم احياء». كانت هذه الجملة شعار حملة الامبراطور «كين» الذي وحد الصين لاول مرة (قبل ميلاد المسيح بمائتي سنة). لكنه، باسم توحيد كلمة الصينيين "حتى لا يستغل الاعداء اختلافاتنا"، امر بحرق كتب «عهد مئات المدارس الفكرية»، الذي كان سبقه. منها كتب الفيلسوف كونفوشيوس، مؤسس المذهب الكونفوشيوسي.

وأمر بحرق اكثر من سبعمائة كاتب ومثقف وهم احياء (عندما عارضه ابنه، نفاه). وخلد الحريق والدفن الشاعر الصيني زانق في قصيدة مطلعها: «قبل ان تهمد نار الكتب المحروقة، بدأ التمرد في شاندونغ». هذه اشارة الى المعارضة التي بدأت ضد عائلة «كين». وفي الحقيقة، حكمت عائلة «كين» الصين لمائة سنة، وسقطت امام ثورة شعبية، وجاءت بعدها عائلة «هان» التي اعتنقت الكونفوشيوسي والتي اثرت على تاريخ الصين لألفي سنة، حتى يومنا هذا.

لكن، هناك من حرق الكتب عمدا لينتقل من دين الى دين آخر، مثل سكان «افسس» (عاصمة الاناضول، في تركيا، خلال الامبراطوريتين اليونانية والرومانية). حرقوا كتب الشعوذة، ودمروا تماثيل «دايانا» (إلهة العذارى)، ومعبد «ارطاميس»، (من عجائب الدنيا السبعة) بعد ان وصل اليهم بولس، صاحب المسيح. وبعد ثلاثمائة سنة من ميلاد المسيح، قتل الامبراطور الروماني ديوكليتان الآف المسيحيين، ودمر كنائسهم، واحرق كتبهم. حتى جاء بعده الإمبراطور كونستانتين (سنة 313)، واعتنق المسيحية، ونشرها في طول الإمبراطورية وعرضها.

أما القرآن الكريم فقد احرقه البعض لسببين: للمحافظة على صورته الأصلية، مثل ما فعل الخليفة عثمان بن عفان عندما خاف كثرة النصوص غير الصحيحة. وجاء في صحيح البخاري، عن انس بن مالك، ان حذيفة بن اليمان جاء الى الخليفة عثمان، عندما كان العراقيون والشوام يغزون ارمينيا واذربيجان، وقال له: «يا امير المؤمنين. ان اهل الشام والعراق يقرأون نسخا مختلفة من القرآن. يا امير المؤمنين: أنقذ هذه الأمة قبل ان تختلف على كتابها كما اختلف اليهود والنصاري».

لكن، حرق القرآن اعداؤه. مثلما فعل الكاثوليك الإسبان (حملات التفتيش)، بعد أن هزموا دولة الأندلس الإسلامية. في سنة واحدة (سنة 1499، بعد اكتشاف اميركا بسبع سنوات) وحسب أوامر فرانسسكو سيسنرو، كاردينال غرناطة، احرق اكثر من مليون كتاب اسلامي، لكنه استثنى كتب الطب.

وكتب الكاردينال، في السنة التالية: «لا يعيش في غرناطة غير المسيحيين. وصارت كل المساجد كنائسا». بعد سبع سنوات، اختاره الملك فيردناند لمنصب «كبير المفتشين». ولم يخيب امله، لأنه طارد المسلمين عبر مضيق جبل طارق، ووصل الى وهران والمرسى الكبير. وقبل اربعين سنة فقط، ألغى الفاتيكان «اندكس ليبرورم بروهيبتورم» (قانون الكتب الممنوعة) الذي وضعه قبل سبعمائة سنة، والذي اعتمدت عليه «حملات التفتيش».

ولأن الثورة الفرنسية كانت مثل «قطة اكلت بنيها»، حرقت كثيرا من الكتب. وامر روبسبير، واحد من قادتها، بحرق الكتب التي مدحت الملكية والملوك. لكنه امر ايضا بحرق كتب دينية. ثم قاد «حكم الارهاب» (استمر سنة واحدة بعد الثورة، وكان كل جناح يقتل قادة كل جناح في مقصلات وضعت في شوارع باريس). دافع روبسبير عن الارهاب، وقال: «تسود الفضيلة في وقت السلم. لكن، عندما تبدأ الثورة، تختلط الفضيلة بالارهاب. فضيلة بدون ارهاب ليست فعالة. وكل ارهاب بدون فضيلة دمار». لكن، في وقت لاحق، حرق معارضوه الكتب التي كتب فيها هذه الآراء.

وعندما بدأت الشيوعية، أحرقت أو منعت كتبها، او كتب معارضة لها. بل قبل بداية الشيوعية. مثل كتاب «مملكة الله في قلبك» الذي كتبه ليو تولستوي، الكاتب والفيلسوف الروسي (توفي سنة 1910، قبل الثورة الشيوعية بسبع سنوات). اعتمد الكتاب على قول عيسى المسيح: «اذا صفعك احد على خدك الأيمن، ادر له خدك الأيسر». وعارض الحرب، وأيد العصيان المدني، والهم الزعيم الهندي المهاتما غاندي.

كان تولستوي من اوائل الأوروبيين الذين ربطوا ربطا ايجابيا بين الدين والسياسة، بين المسيحية والحرية. (رغم انتشار واكتساح العلمانيين الذين دعوا لفصل الدين عن الدولة). كتب الكتاب في روسيا باللغة الروسية. لكن، منعه القيصر لأنه اتهم القيصر بالنفاق (اعتنق المسيحية، لكنه لم يلتزم بها). فاضطر لأن يطبعه في المانيا (سنة 1894) باللغة الالمانية. وبعد قيام الثورة الشيوعية في روسيا، منعت الكتاب أيضا، لأنه نشر الفكر المسيحي (كانت الشيوعية ضد الدين). ثم منعه هتلر في المانيا بعد ذلك بعشرين سنة تقريبا (عندما استشهد بالكتاب مسيحيون متشددون اتهموه بالكفر).

كان تولستوي نقيض كارل ماركس (عاشا خلال نفس الفترة). في سنة 1848، أصدر ماركس كتاب «المانفستو الشيوعي». وانتقده تولستوي، وبعد اربعين سنة تقريبا، اصدر تولستوي كتاب «مملكة الله». على اي حال، توفي الاثنان قبل قيام الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917، والتي احرق ملايين الكتب. ويعتقد أن ذلك كان اكبر حريق كتب بعدما فعل الكاثوليك في الأندلس، وربما مثل ما فعل التتار عندما غزو بغداد سنة 1258، كما يحدث الآن.