الرأسمالي المعادي لأميركا

حادث في الصغر حدد توجهات جورج سوروس اليسارية.. وحوادث في الكبر جعلته من كبار الرأسماليين المتهمين بتدمير اقتصادات الدول

TT

رغم ان الملياردير الاميركي جورج سوروس ساهم الى حد كبير في تدمير المعسكر الاشتراكي المتمثل في الاتحاد السوفياتي واوروبا الشرقية، كما دعم المعارضة الاوكرانية، وثورة جورجيا المخملية عام 2003، الا انه وهو الرأسمالي الكبير يتبنى في الواقع افكارا يسارية اشتراكية غريبة على من هو في وضعه المالي. وتعود هذه الافكار الاشتراكية الى مرحلة مبكرة من شبابه يرجعها بعض كتاب سيرته الذاتية الى حادث وقع له في الصغر بعد خروج اسرته من المجر، التي ولد فيها، الى انجلترا التي تلقى فيها علومه وتنشئته الاكاديمية. ففي عام 1947 هاجرت أسرة سوروس من المجر الى انجلترا، وهناك وقع للشاب جورج الحادث الذي ساهم في تشكيل شخصيته ونظرته للعالم. يتلخص الحادث في اصابة وقعت لسوروس تمخضت عن كسر في ساقه تلقى على اثرها رعاية صحية مجانية في مركز للخدمات الصحية الوطنية الانجليزية، في حين ان وكالات الاغاثة اليهودية في ذلك الوقت لم تعرض عليه ايَّ مساعدة. ويعتقد بعض المحللين النفسيين ان هذا الحادث جعل سوروس منذ وقت مبكر يتبنى آراء تفضيلية للتوجه الاشتراكي الديمقراطي وينظر بسلبية نحو كثير من الجماعات اليهودية التي ينتمي اليها عرقيا. وقبل ذلك بحوالي 11 سنة اي عام 1936 كان والده المولود في المجر قد قرر تغيير اسمه العائلي من شوارتز الى سوروس في محاولة من الأب لإخفاء الجذور اليهودية للعائلة، الامر الذي مكن الأب وبقية افراد الاسرة من النجاة من المحارق النازية. من الطفل الفقير، الذي تربى في ملاجئ المجر بين الفئران والحشرات، الى السبعيني الذي يقطن نيويورك وفي جعبته ثروة طائلة من مليارات الدولارات، رحلة مجبولة بقليل من الحظ والكثير من الدهاء والمثابرة.

لم يحمل جورج سوروس كنيته منذ الولادة. فهو ولد في 11 اغسطس (آب) عام 1930 في بودابست، من والده تيودورو شوارتز الذي اضطر الى تبديل اسم عائلته مع بدء موجة قتل اليهود في المجر. عرف عن عائلته عدم التزامها بالديانة اليهودية وحتى أن بعضا من افرادها تخلوا عن ديانتهم ليعتنقوا المسيحية. وجورج، كالكثير من أفراد عائلته، عرف عنه عدم التزامه بديانته وكان يصفه مقربون منه بأنه «علماني متزمت»، حتى انه اعلن بنفسه في احدى المقابلات التلفزيونية بأنه «غير متدين».

بعد أن هاجر الى لندن عام 1947 لمتابعة تعليمه، عمل سوروس كموظف في سكة الحديد ثم نادل في مطعم كاغلينو. وكان مدير المطعم يقول له: «بالعمل الجاد قد تصبح يوما ما رئيس النادلين»! وعمل بعد ذلك في مصنع للتماثيل البلاستيكية، لكنه طرد بسبب بطئه في العمل. أما حياته العاطفية فهي حافلة. تزوج ثلاث مرات وأنجب خمسة أولاد من زيجاته تلك. زوجته الاولى أنالييز ويتشاك انجبت له ثلاثة أولاد: روبرت، أندريا، جوناثان. أما زوجته الثانية سوزان ويبر سوروس فقد أنجبت له ألكسندر وغريغوري. وهو اليوم متزوج من عازفة الكمان جنيفر شان. وسورس رجل جمع في شخصيته من التناقضات ما يكفي لخلق كارهين بقدر المعجبين. فهو بالنسبة للبعض مبعث شؤم ومنذر بالمصائب، ولآخرين هو نافذة أمل ومبشر بغد أفضل.

ثروته جناها أساسا من خلاله استثماره في البورصة، وكان ذلك سببا، كما يرى البعض، في العديد من الازمات المالية الكبيرة في اسواق دولية، بسبب مضاربته بالعملات. اذ ارتبط اسمه بيوم «الاربعاء الاسود» في 16 يناير (كانون الثاني) عام 1992 في بريطانيا ولقب منذ ذلك الحين بـ«الرجل الذي حطم بنك انكلترا»، بسبب مضاربته على الاسترليني، حين باع أكثر من عشرة مليارات دولار من الجنيهات الإسترلينية، مستفيدا من تردد بنك انكلترا المركزي بين رفع معدلات الفائدة إلى مستويات مماثلة لآلية الصرف الأوروبية أو تعويم عملته. وفي ذلك اليوم، كما يقال، ربح مليار استرليني.

ولم تكن انكلترا وحدها التي عانت من تلاعب سوروس بالبورصة، فكان لآسيا وفرنسا حصة مماثلة. ففي العام 1997 وخلال الازمة الاقتصادية التي ضربت الاسواق الاسيوية اتهم رئيس مجلس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، سوروس باستخدام ثروته لمعاقبة منظمة «الآسيان» بعد ضم ميانمار كعضو جديد فيها، ووصفه بـ«الغبي والابله». وأطلقت عليه السلطات التايلاندية لقب «مجرم الحرب الاقتصادي» الذي «يشرب دم الشعب». ولكن في المقابل، عرف سوروس بكرمه الانساني وتبرعه السخي لمنظمات تنادي بالديمقراطية وخصوصا في بلدان اوروبا الشرقية. وبحسب الموقع الإخباري الأميركي «سي إن إس نيوز»، فقد صرف سوروس نحو خمسة مليارات دولار في حياته على أعمال الخير، معظمها وزع على الحركات الديمقراطية، وبعضها خصص لأهداف ليبرالية في الولايات المتحدة. وتوزعت أمواله بين جمعيات الدفاع عن حقوق الإجهاض ومنظمات محاربة المخدرات. وقبل ان يهاجر سوروس الى الولايات المتحدة كان قد استفاد من وجوده في بريطانيا في تنمية معارفه الاقتصادية وتلقي علوم افادته كثيرا في حياته، خصوصا دراسته للاقتصاد في لندن، وعمله في سوق الاسهم بالعاصمة البريطانية. لكنه عندما وصل الى الولايات المتحدة عام 1956 لم يكن قد اصبح مليارديرا ولا مليونيرا بل انه لم يبدأ استثماراته الناجحة إلا عام 1969 عندما خاطر بالدخول في مغامرات مالية حققت له مكاسب هائلة استمرت عوائدها تتدفق على مدى اكثر من ثلاثة عقود. وهناك من رجال السياسة والاقتصاد من يتهم سوروس بالمساهمة في تعريض الدول الآسيوية لأزمة حادة عام 1997؛ وهي الأزمة المعروفة باسم ازمة النمور الآسيوية بسبب المضاربات الوهمية ‏على سوق العقارات والاوراق المالية، وكانت كل اصول الدولة موجهة الى الاستثمارات طويلة ‏الاجل، مما شجع الاستثمار الاجنبي على الاستثمار في الاصول قصيرة الاجل، والاستثمار غير ‏المباشر في الاوراق المالية. وتقول المصادر التي توجه اصابع الاتهام الى امبراطورية سوروس انه استثمر مبالغ طائلة في شراء الاوراق المالية، ‏ثم باع استثماراته بشكل جماعي في وقت الامر الذي ادى فيه الى انخفاض حاد في قيمة الاصول، وترتب على ذلك ‏انخفاض العملات الوطنية لدول النمور الآسيوية، ثم عاد سوروس واشترى ما باعه فتحسنت الاسعار، ثم قام بعملية بيع اخرى، وترتب على مضارباته المتتالية حدوث الانهيار في وجود عوامل اخرى.

ولا احد يستطيع ان يؤكد او ينفي وقوف الملياردير الاميركي عن عمد وراء انهيار اقتصادات ‏دول النمور الاسيوية خلال عامي1997 و1998، اذ ان الانهيارات الكبرى من الصعب ان يتسبب فيها رجل واحد مهما كانت قدراته المالية، لكن هذا لا ينفي ان ‏المهاجر المجري سعى ايضا عام 1998 للمضاربة على الريال السعودي وإنزال قيمته لكنه فشل في ذلك.

وتأتي ماليزيا على رأس الدول التي اتهمت سوروس صراحة بالضلوع في ‏ازمة النمور الآسيوية فقد اتهم رئيس وزراء ماليزيا آنذاك مهاتير محمد «جهات يهودية» ‏بالوقوف وراء محاولات ضرب اقتصاد بلاده، رغم ان مهاتير محمد كان صديقا لسوروس، ولكن عندما اختلف الرجلان وصفه مهاتير بأنه يمثل «خطرا على ماليزيا».‏ ويواجه المحللون الاقتصاديون والسياسيون صعوبة كبيرة في فهم الدوافع التي تقف وراء سلوك الملياردير سوروس لانها كثيرا ما تخالف المبادئ التي يعلن وفاءه لها، ولكن مؤلفاته الفكرية ومقابلاته الصحافية تكشف جانبا كبيرا من الافكار التي يتبناها في الاقتصاد والسياسة. ففي معارضته العنيفة لسياسات الرئيس الاميركي جورج بوش يجاهر سوروس بالقول ان ادارة الرئيس بوش استخدمت الحرب على الارهاب ذريعة لغزو العراق.

وفي هذا السياق، يقول سوروس «ربما لم يدرك بوش هذا شخصيا، لكن نائب الرئيس ديك تشيني ومجموعة من المتطرفين المتركزين داخل وحول وزارة الدفاع كانوا على ادراك تام لهذا الامر. ويقود هؤلاء الناس في هذا الاتجاه اعتقاد بأن العلاقات الدولية علاقات تحكمها القوة وليس القانون. ولأن اميركا اقوى الامم على وجه الارض، فلابد ان تستخدم هذه القوة بشكل اشد توكيدا واكثر ايجابية». ويضيف «لقد ايدوا الاطاحة بصدام حسين حتى قبل انتخاب بوش، وعمدوا الى استقطابه لصالح قضيتهم بعد الحادي عشر من سبتمبر». ويعتقد سوروس انه كان من الممكن تبرير غزو افغانستان بحجة ان حركة طالبان كانت توفر لاسامة بن لادن وتنظيم «القاعدة» مواقع آمنة للتدريب. اما غزو العراق فلم يكن من الممكن تبريره بنفس الحجة. ومع هذا فان العقائديين في الادارة وفقا لرأي سوروس كانوا قد عقدوا العزم على غزو العراق، وذلك لان هذا الغزو «ممكن من الناحية العملية». ويعتقد سوروس ان الرئيس بوش ومساعديه حاولوا اقناع الامة بان صدام حسين كان على صلة ما بمنفذي العمليات الانتحارية التي وقعت في سبتمبر، وانه يمتلك ترسانة من اسلحة الدمار الشامل. وحين ثبت كذب الزعمين ادعى الرئيس بوش ان اميركا قامت بغزو العراق بغرض تحرير الشعب العراقي. وحتى هذا الزعم يرى سوروس انه كان من الصعب تصديقه فلو كانت اميركا تهتم حقا بالشعب العراقي لكانت قد ارسلت من القوات عددا اكبر يكفي، ليس لتوفير الحماية لوزارة النفط فحسب، بل لحماية المتاحف والمستشفيات ايضا. لكن «ما حدث كان على النقيض، فقد تُرِكَ العراق ليصبح خرابا بالسلب والنهب». ورغم ان سوروس يحمل الجنسية الاميركية وحقق جل نجاحاته بفضل وجوده في الولايات المتحدة إلا انه يهاجم النظام الاقتصادي والسياسي الاميركي بل ان اقواله الواردة آنفا تثبت انه اشد المنتقدين للسياسة الخارجية الاميركية ولادارة الرئيس بوش على وجه التحديد. وقد اصدر سوروس عام 2004 كتابا تحت عنوان «فقاعة التفوق الاميركي» حاول فيه ان يفشل حملة الرئيس الحالي بوش ويمنع اعادة انتخابه ولكنه فشل في ذلك. ويعتقد سوروس ان بوش ألحق دمارا بالولايات المتحدة داخليا وخارجيا، معتبرا سياسات الضربات الاستباقية مدمرة لسمعة الولايات المتحدة في الخارج. ولا يترد في اتهام ادارة بوش بأنها اختطفت من قبل متطرفين متأثرين بما سماه بـ«الداروينية الاجتماعية».

ويقصد سوروس بـ«الداروينية الاجتماعية» تيار المحافظين الجدد الذين يعتبر انهم متوحشون في الاقتصاد والسياسة ولا يرحمون الكيانات الصغرى والدول الضعيفة. وينتقد سوروس مشروع القرن الاميركي الجديد الذي اعلنه المحافظون الجدد عام 1997 ودعوا فيه الى انتقال اميركا الى مرحلة الهجوم والسيطرة العالمية من دون تحفظ، من اجل الحفاظ على ‏الموقع القيادي لها في القرن الواحد والعشرين.‏ وهو يعتقد في نقده لمبادئ المشروع ان المحافظين الجدد لم يتمكنوا من تطبيق مبادئهم الا بعد هجمات سبتمبر 2001. ويقول سوروس ان ردة الفعل على تلك الهجمات جاءت لتطبيق سياسة معدة سلفا وسيطرت على توجهات الادارة. ويتنبأ اليساري سوروس بهزيمة فكر اليمين الاميركي بسبب افغانستان والعراق، قائلا ان فقدان الولايات المتحدة لموقعها في العالم سيكون نتيجة لهذه الهزيمة الحتمية. ويدعو سوروس الى انقاذ الولايات المتحدة من افكار المحافظين الجدد ومن افكار ما يسميه بالعصابات اليمينية بشكل عام لتعود اميركا الى سابق عهدها في دعم الحرية والديمقراطية العادلة في الداخل والخارج.

وكان سوروس قد خصص في انتخابات 2004 الرئاسة عشرة ملايين دولار من اجل العمل على ‏هزيمة الرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية. ويعتقد سوروس ان ‎مصير العالم يتوقف على الولايات المتحدة، وان الرئيس الحالي ‏ بوش يقود العالم في‎ ‎الاتجاه السيئ‎. وقد اطلقت اللجنة التي شكلها سوروس حملة واسعة النطاق لتشجيع الاميركيين على تسجيل‎ ‎اسمائهم للتصويت والتوجه الى صناديق الاقتراع. ومع ذلك، فان نشاط اللجنة صب في النهاية لصالح اليمين المتمثل في بوش وادارته ولم ينصت الناخب الاميركي لدعوات اليساري الرأسمالي سوروس. ورغم محاولات سوروس التخلي عن جذوره اليهودية إلا ان هذه الجذور جعلته دون ان يدري يبدي اهتماما بالصراع العربي ـ الاسرائيلي، وهو من بين اكثر اليهود المؤثرين الذين يوجهون انتقادات لاذعة للسياسة الاسرائيلية. وفي آخر مقال له عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي بعد حرب الصيف الماضي في لبنان، اعتبر سوروس ان اخفاق اسرائيل في اخضاع حزب الله يقيم الدليل على نقاط الضعف العديدة التي يشتمل عليها مفهوم الحرب ضد الارهاب. ومن بين نقاط الضعف هذه حسب وجهة نظر سوروس ان الضحايا في اغلب الاحوال من بين المدنيين الابرياء، الامر الذي يعزز من من قضية «الارهابيين» وحجتهم. وقال سوروس ان اسرائيل كان عليها ان تبذل قدرا اكبر من الجهد لتقليص الاضرار المصاحبة لهجماتها، معتبرا ان الخسائر بين المدنيين، والاضرار المادية التي تكبدها لبنان، كانت سببا في تأجيج مشاعر الغضب بين المسلمين وتهييج الرأي العام العالمي ضد اسرائيل، فضلا عن تحويل المنتمين الى حزب الله من «معتدين الى جماعة من ابطال المقاومة».

كما زاد اضعاف لبنان من صعوبة اخضاع حزب الله وكبح جماحه. ويعتبر جورج سوروس ان ما جرى ويجري في لبنان وفلسطين هو جزء من الحرب الدائرة على الارهاب، قائلا ان «ثمة نقطة ضعف اخرى في مفهوم الحرب ضد الارهاب، وهي تتخلص في اعتمادها على العمل العسكري واستبعادها للسبل السياسية». ويضيف «كانت اسرائيل قد انسحبت من لبنان ثم من غزة بقرار احادي الجانب، بدلا من التفاوض من اجل التوصل الى تسوية سياسية مع الحكومة اللبنانية والسلطة الفلسطينية. ولقد كان تعزيز قوة حزب الله وحماس من بين النتائج المباشرة لهذا الاسلوب في التعامل مع القضية. ومفهوم الحرب ضد الارهاب يقف كحجر عثرة في الطريق امام الاعتراف بهذه الحقيقة، وذلك لانه يفصل بين «نحن» و«هم». وينكر ان تصرفاتنا تساهم بقدر كبير في صياغة سلوكهم. ويدعو سوروس الى دعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس بقوله: «حين انتخب محمود عباس رئيسا للسلطة الفلسطينية، كان من الواجب على اسرائيل ان تخرج عن اسلوبها المعتاد سعيا الى تقوية عباس وفريقه الاصلاحي». وحذر من ان وجود اسرائيل اصبح عرضة للخطر، قائلا «لم يعد تفوق اسرائيل على الصعيد العسكري كافيا للتغلب على العواقب السلبية المترتبة على السياسات التي تنتهجها. فقد بات وجود اسرائيل الآن اكثر عرضة للخطر مما كان عليه اثناء اتفاقية اوسلو. وعلى نحو مماثل، اصبحت الولايات المتحدة اقل أمانا منذ اعلن الرئيس بوش الحرب ضد الارهاب». ويدعو الى حل القضية الفلسطينية لما فيه مصلحة اسرائيل نفسها، قائلا «لقد آن الأوان لكي ندرك دون ادنى مجال للشك ان سياسات اليوم هدامة. ولن يتسنى لنا كسر هذه الحلقة المفرغة من العنف المتصاعد إلا بالتسوية السياسية للقضية الفلسطينية. والحقيقة ان احتمالات الدخول في مفاوضات اصبحت اليوم افضل مما كانت عليه منذ بضعة اشهر. ولكن يتعين على اسرائيل ان تدرك ان الردع العسكري لا يكفي في حد ذاته، وان العرب، بعد ان استعادوا كرامتهم في ساحة المعركة، اصبحوا اكثر استعدادا للتفكير في التسوية». وفي مقال آخر نشره في موقعه على الانترنت، اشاد فيه ضمنيا بالجهود السعودية لتحقيق السلام في المنطقة، معتبرا ان المملكة العربية السعودية تسلك مسارا مختلفا. واشار الى القمة التي عقدت في شهر فبراير (شباط) بمكة بين عباس وزعيم حماس خالد مشعل، حيث تمكنت الحكومة السعودية من التوصل الى اتفاق بين حماس وفتح، بعد المناوشات العنيفة التي كانت بينهما، لتشكيل حكومة وحدة وطنية. واعتبر سوروس ان الاتفاق كان مقدمة ضرورية لطرح تسوية سلمية مع اسرائيل، تضمنها السعودية ودول عربية اخرى. ولكن في رأيه انه «لن يتسنى احراز اي تقدم ما دامت ادارة بوش وحكومة ايهود اولمرت الاسرائيلية مصرتين على رفض الاعتراف بأي حكومة وحدة وطنية تضم حماس».

ومثلما فرضت الجذور اليهودية لسوروس عليه ان يهتم بالصراع العربي ـ الاسرائيلي، فان مولده في اوروبا يجعله يشعر بالحنين نحو القارة الاوروبية ويتضح من مقالاته ومقابلاته انه يعقد آمالا واسعة على اوروبا في اجبار موطنه بالتبني اميركا على تغيير السياسات الخارجية التي يصفها بالمدمرة. ويعتبر ان الاتحاد الاوروبي لا يستطيع ان يحل محل الولايات المتحدة في زعامة العالم. الا انه يستطيع ان يضرب المثل، سواء داخل حدوده او خارجها، موضحا ان آمال الحصول على عضوية الاتحاد الاوروبي كانت تشكل الاداة الاكثر قوة في تحويل الدول المرشحة الى مجتمعات مفتوحة. ويرى ان السياسة الخارجية المشتركة للاتحاد الاوروبي لا ينبغي ان تكون معادية لاميركا. فاتخاذ موقف كهذا يعد تدميرا للذات، ذلك انه في رأيه لن يؤدي إلا الى تعزيز حالة الانقسام التي يعاني منها المجتمع الدولي والتي بداتها ادارة بوش. لكن الاتحاد الاوروبي في نظره يستطيع ان يضرب المثل في التعاون الدولي على النحو الذي يجعل الولايات المتحدة تحت ادارة مختلفة ـ وهو ما سيحدث لا محالة ـ تسعى الى محاكاة هذا المثل ومنافسته. كما يدعو سوروس في كتاباته الى اصلاح منظمة الامم المتحدة وانقاذها من التمزق الذي تعانيه بسبب التوترات الداخلية. ويرى ان الفشل في اصلاح المنظمة الدولية سيؤدي حتما الى عواقب مأساوية سوف يتحملها اولئك الذين يعتمدون على المساعدات والمعونات التي يقدمها لهم البرنامج الانمائي التابع للامم المتحدة في كافة انحاء العام، كما سيتأثر الامن الذي توفره عمليات حفظ السلام العديدة التي تتولاها قوات الامم المتحدة، وعلى الخدمات الاخرى التي لا تعد ولا تحصى والتي تقدمها وكالات الامم المتحدة المختلفة. كما يرى ان اخفاق الامم المتحدة في تنفيذ الاصلاحات الادارية اللازمة سوف يؤدي الى ارتفاع الاصوات في الكونغرس الاميركي المطالبة بسحب المساهمات التي تقدمها الولايات المتحدة لميزانية الامم المتحدة ـ وهي سياسة من شأنها ان تؤدي الى تهديد مصالح تهم الولايات المتحدة ذاتها، مثل «توسيع مهمة وقف حملة التطهير العرقي في دارفور».

ولا يتردد سوروس في تقديم اقتراحاته لاصلاح العالم عن طريق اصلاح الامم المتحدة داعيا الى اعطاء الجمعية العامة دورا اكبر في اختيار الامين العام حتى يصبح بوسع الدول الاعضاء تفويض السلطات والصلاحيات الى شخص من اختيارها. وهذا الحل في رأيه لن يفتح الطريق امام الاصلاحات الادارية المطلوبة بشدة فحسب، بل انه سيؤدي ايضا الى اضفاء نوع من الوضوح والشفافية على عملية تحتاج الى تحسينات كبيرة. ويضيف «اذا ما كانت الولايات المتحدة راغبة حقا في ادخال الاصلاحات التي تطالب بها على ميزانية الامم المتحدة، فيتعين عليها ان تضطلع بالدور الاكبر في محاولات اقناع الدول الاخرى دائمة العضوية في مجلس الامن بمنح الجمعية العامة دورا اكبر في العملية. وقد تتحقق هذه الغاية بعدة طرق. فمن الممكن ان يتفق مجلس الامن على تزكية عدة مرشحين تختار الجمعية العامة من بينهم. ومن ناحية اخرى تستطيع الجمعية العامة ان تقترح على مجلس الامن عدة مرشحين يختار المجلس من بينهم لإحالته الى موافقة الجمعية». وحسب الاقتراح فانه في كل من الحالتين سوف تتمتع عملية الاختيار بقدر اكبر من الشفافية. فتستطيع الجمعية العامة على سبيل المثال ان تعقد جلسة استماع علنية يتم خلالها مقابلة المرشحين، الامر الذي سيؤدي بكل تأكيد الى تعزيز مكانة المرشح الذي سيقع عليه الاختيار في النهاية. ان هذه المقترحات، اذا ما لاقت القبول، من شأنها ان تساعد في النهاية على التوصل الى حل للنزاع القائم الآن على نحو يرضي جميع الاطراف.