جنوب أفريقيا.. الكلام عن اللون

يتذكر الافارقة يوم قال مانديلا «لم يكتفوا باستعمارنا ولكنهم ايضا جعلونا اضحوكة»

TT

لا يوجد مكان التقى فيه اللونان الابيض والاسود، واختلفا وتقاتلا، مثل جنوب افريقيا. لأكثر من ثلاثمائة سنة، وحتى قبل عشر سنوات، عندما صار نيلسون مانديلا اول رئيس افريقي, بعد انتهاء الحكم العنصري والذي تحل الذكرى العاشرة عليه هذه الايام. انتهى القتال، ولكن لم تنته المواجهة، لأن خمسة ملايين ابيض لا يزالون يعيشون هناك، تحت حكومة اغلبية سوداء (اربعون مليون اسود، بالاضافة الى خمسة ملايين ملون). يؤمن هؤلاء البيض ايمانا قويا بأنهم اكثر حضارة (تعليما وعلما) من السود، وهم الذين طوروا البلاد، وبدونهم ستتدهور. يخطئ البيض في قول ذلك، او لا يخطئون، صار واضحا ان جنوب افريقيا تتدهور تحت حكم السود.

بدأت المواجهة بين البيض والسود يوم 6-4-1652، بعد خمسين سنة من تأسيس اول مستعمرة بريطانية في اميركا. عكس بريطانيا، لم تكن في هولندا حكومة قوية ترسل سفنها لتستعمر البلاد البعيدة. كانت هناك سفن شركة «فيرنجيد اوست انديش» (شركة الهند الشرقية)، وتسمى، ايضا، شركة «فوك» (الحروف الثلاثة الاولى من اسم الشركة باللغة الهولندية). في ذلك اليوم، وصلت ثلاث سفن تابعة للشركة الى كيب تاون (مدينة الرأس)، كما سماها جان ريبيك قائد السفن. كان اسم واحدة من السفن الثلاث «غود هوب» (الرجاء الصالح). ولهذا تسمى ايضا «كيب او غود هوب» (رأس الرجاء الصالح). ذهب ريبيك الى هناك، مع زوجته واولادهما الثمانية، من اندونيسيا (كانت والمناطق المجاورة تسمى جزر الهند الشرقية)، التي كان اسطول الشركة وصل اليها قبل ذلك بمائة سنة. وتوجد في مبنى البرلمان في هولندا لوحة تاريخية تصور ريبيك ومساعديه يلبسون ملابس انيقة عندما نزلوا اول مرة، والتف حولهم افريقيون عرايا. ولم ينس رسام الصورة ان يزيد بياض البيض، ويزيد سواد السود.

لم يكن ريبيك وعائلته ومساعدوه اول بيض ينزلون الى الساحل الاسود. قبلهم، بمائتي سنة تقريبا، وصل الى هناك الملاح البرتغالي بارثلوميو دياز. لكن حدثت، خلال المائتي سنة التالية، ثلاثة تطورات في ميزان القوى العالمي: اولا، قلت قوة البرتغال. ثانيا، زادت قوة هولندا. ثالثا، صارت هولندا منافسا قويا لبريطانيا (التي كانت تستعمر اميركا). وانعكس ذلك على مستعمرات هذه الدول.

في الحقيقة، لم تكن هناك حكومة هولندية قوية، وقام بوظيفتها اسطول شركة «فوك». في نفس السنة التي وصلت فيها عائلة ريبيك الى جنوب افريقيا، كاد اسطول شركته، شركة «فوك»، ان يهزم الاسطول البريطاني بالقرب من ساحل ولاية ماساجوستس الحالية. (لو كان الهولنديون استعمروا اميركا، كان كل تاريخ اميركا سيتغير. ولأنهم كانوا اكثر عنصرية من البريطانيين، ربما كانوا سيتاجرون بالرقيق حتى وقت قريب. وربما كانوا سيؤسسون في اميركا نظاما عنصريا يستمر حتى قبل عشر سنوات).

وربما كانوا سيؤسسون نظاما اكثر رأسمالية من النظام الاميركي الحالي، لأن شركة «فوك» كانت هي الحكومة. كانت اول شركة عالمية (ملتيناشونال)، اسسها تجار في روتردام وامستردام، وغامروا ببناء سفن، وارسلوها الى عالم مجهول لتبيع الاقمشة الهولندية وتشتري البهارات واسنان الفيل وجلود النمور. (لم تقل نسبة ارباحها عن عشرين في المائة لاكثر من مائتي سنة).

هزم البريطانيون في اميركا الهنود الحمر. وهزم جنود شركة «فوك» في جنوب افريقيا شعبا آخر من شعوب العالم الثالث، رغم ان اسمه كان «خوي خوي» (ارجل الرجال)، وهم اقرباء قبيلة البانتو التي تحكم جنوب افريقيا حاليا.

نصروهم بعد ان وجدوهم يعبدون القمر، ويرقصون تحت ضوئه وهم عرايا. وأخذوا بعضهم الى اوروبا ليعرضوهم في معارض سنوية، وسط شعوب لم تر انسانا اسود. وتندر الاوروبيون بـ«وحشيتهم» وطاقتهم الجنسية. مثل سارتاجي بارتمان الافريقية العملاقة (توفيت في اوروبا سنة 1815)، التي كان الاوروبيون يشترون تذاكر ليقدروا على لمس جسدها الاسود (بالاضافة الى لونها، اشتهرت بضخامة اعضائها التناسلية).

نقلوها من معارض هولندا الى معارض في بريطانيا، ثم فرنسا. ويقال ان الامبراطور نابليون بونابرت استقبلها في قصره (لم يشاهد اسود من قبل، وكان يريد رؤية اعضائها التناسلية العملاقة). وبعد وفاتها، عرضت اعضاؤها التناسلية ومخها في متحف اللوفر لاكثر من مائة سنة، وحتى قبل سنوات قليلة.

عندما صار مانديلا رئيسا لجنوب افريقيا، وزار فرنسا، طلب اعادة ما تبقى من سارتاجي. ودفنت بقاياها في كامتوز فالي، القرية التي ولدت فيها قبل مائة وثلاثين سنة، وسميت سفينة باسمها.

وقال مانديلا، احتجاجا: «لم يكتفوا باستعمارنا، ولكنهم، ايضا، جعلونا اضحوكة يتندرون بنا».

وهكذا، ظل اللونان الابيض والاسود، هما المحور الذي يدور حوله تاريخ جنوب افريقيا.

بسبب التركيز على تناقض اللونين الاسود والابيض، لم يعرف البيض في جنوب افريقيا ماذا يفعلون باللون الاسمر، خاصة لوجود ملايين من السمر هناك. اطلقوا عليهم براونز (سمر)، وسموهم مالايز (من الملايو. ماليزيا الآن)، ويسمونهم الآن كالارد (الملونين). احضروا نسبة كبيرة من هؤلاء من ماليزيا واندونيسيا، لأنهم ناضلوا ضد الاحتلال الهولندي. واعتقدوا انهم سيقدرون على تنصيرهم في بلاد بعيدة، لكنهم، عكس مسلمي غرب افريقيا الذين نقلوا كرقيق الى اميركا، لم يتنازلوا عن اسلامهم. وعلى وزن كيب تاون سموا منطقة المسلمين كيب مالايو، ثم كيب اسلام.

واليوم، يوجد وزراء وسفراء مسلمون، وتوجد منظمات قاومت حكومة الاقلية البيضاء، مثل: «مسلمون ضد الاضطهاد» و«نداء الاسلام» و«المسلم الايجابي» (لمواجهة زيادة مرضى الايدز). وهناك فريد اساك (اسحق)، صديق مانديلا، والمسؤول عن التقارب بين الاديان ومؤلف كتب، من بينها «عن ان اكون مسلما». (لكن، مع حرب الرئيس بوش ضد الارهاب، وجهت له اتهامات بأن تلاميذه ذهبوا الى افغانستان وتدربوا مع الارهابيين).

منذ عشر سنوات، واللون هو محور الصراع في جنوب افريقيا. ويسيطر الحزب الوطني الافريقي (ايه ان سي) على النظام السياسي، ليس فقط لأنه الحزب الذي حقق الاستقلال، ولانه حزب مانديلا، ولأنه حزب السود في بلد اغلبيته سود، ولكن، ايضا، لأن اللون لا يزال، بعد ثلاثمائة سنة، محور الصراع. حصل الحزب الافريقي، في الانتخابات قبل سنتين، على نسبة 70 في المائة من الاصوات. وحصل الحزب الديمقراطي (حزب الاقلية البيضاء) على نسبة 15 في المائة من الاصوات، وتقسمت بقية الاصوات على احزاب صغيرة، منها احزاب ملونين.

وقبل ثلاثة أشهر، فازت هيلين زيل، عمدة جوهانسبيرغ، برئاسة الحزب الديمقراطي، وفتحت صفحة جديدة، ليس فقط في الصراع الحزبي، ولكن ايضا في الصراع اللوني، لأنها نوع جديد: اول امرأة تصعد الى القمة، واول بيضاء تعلن ان التقارب مع السود هو هدفها الاول. نصف يهودية، هربت من المانيا مع عائلتها خلال الحرب العالمية الثانية، وعملت صحافية تقدمية في جريدة «ديلي راند»، واشتهرت عندما كتبت تحقيقات صحافية شجاعة، خلال سنوات حكومة الاقلية البيضاء، عن اغتيال ستيف بيكو، من قادة الحزب الافريقي.

هذه بيضاء من نوع جديد: تتكلم لغة «خوسا»، لغة الافريقيين، وترقص «كويتو» (هيب هوب افريقي)، وتغني، عندما تنتصر في الحملات الانتخابية، اغنية «ري لا لوينا» (نحن معك).

قبل سنة، تحالفت مع سود، وسيطر حزبها على انتخابات بلدية جوهانسبيرغ، وربما لأن احدا لا يقدر على ان يقول انها عنصرية، او تكرة السود، او تحتقرهم، تقدر هي على ان تنتقد السياسيين السود بدون وضع اعتبار للونهم.

ولم يعد سرا ان هناك خلافا علنيا (وعدم ارتياح شخصي) بينها وبين الرئيس مبيكي، ولم يكن سرا ان الرئيس لم يردها عمدة لمدينة جوهانسبيرغ، وحاول، بعد ان فازت، ان يقلص سلطاتها. ووجدت العمدة زيل شجاعة لتقول اشياء مثل: «الرئيس يتحدث عن الديمقراطية ويخطط ضدها» و«الرئيس يواجه تحديات اخلاقية» و«لا يوجد فرق بين ابيض واسود في القيم الاخلاقية» و«زوما سيكون اكثر فسادا»، (اشارة الى جاكوب زوما، الذي كان نائب الرئيس مبيكي، وتورط في فضيحة علاقات جنسية مع امرأة مصابة بمرض الايدز، وكانت محاكمته مسرحية سياسية واخلاقية، استغلتها العمدة زيل لزيادة اسهمها وسط السود).

وعندما فصلت مدير البلدية بسبب فساد، وعندما استأنفت احكام قضاة سود ضدها، وعندما وصلت الى المحكمة العليا التي أيدتها، تحاشت الاشارة الى اللون، وركزت على ان «الفساد عنده عمى الوان».

وتعتمد زيل في نقدها على احصائيات دولية توضح ان جنوب افريقيا لا تتقدم بنسبة عالية كما كانت (لم تقل، ولا تقدر على ان تقول، ان التقدم كان اعلى في عهد حكومة الاقلية البيضاء). حسب ارقام الامم المتحدة، جاءت جنوب افريقيا الثانية في نسبة الجرائم (حسب عدد السكان)، وجاءت الثانية في نسبة الاغتصاب، وجاءت الرابعة في نسبة العقول المتعلمة التي تخرج من البلاد. (في بداية هذه السنة جاء الى اميركا زعيم الحزب الديمقراطي السابق ليدرس في جامعة هارفارد، واضطر لأن ينفي اشاعات بأنه هرب من بلده، وهو الابيض، بسبب فساد حكومة الاغلبية السوداء).

وقالت ارقام الامم المتحدة ان جنوب افريقيا في المرتبة رقم 45 في التنافس التجاري (مرتبه لا بأس بها)، وفي المرتبة رقم 30 في حرية الصحافة (مرتبة عالية)، لكنها في المرتبة رقم 121 في التطور البشري. ويؤكد ذلك ان نسبة العطالة تزيد عن ثلاثين في المائة.

لكن، تحاول جنوب افريقيا الا تنتكس، خاصة لأنها «الأمل الأسود» بالنسبة لبقية الافريقيين، وبالنسبة للسود في اميركا.

ربما مثل تركيا وسط دول الشرق الاوسط، تريد جنوب افريقيا ان تكون اكثر الدول الافريقية قربا (فكريا واقتصاديا وحضاريا) الى الغرب. وفازت باستضافة منافسات كرة القدم العالمية (فيفا) بعد ثلاث سنوات. وستستضيف، بعد شهرين، المنافسات العالمية في لعبة الكريكت، وكانت قد استضافت منافسة عالمية في الرغبي. حتى في مجال زواج المثليين، صارت الرابعة في العالم بعد هولندا وبلجيكا وكندا.

لخصت مجلة «ايكونوميست»، مؤخرا، مشكلة جنوب افريقيا عندما قالت: «تحتاج جنوب افريقيا الى معارضة قوية لأن سيطرة الحزب الواحد (الافريقي) في نظام ديمقراطي تكاد تكون غير ديمقراطية».

وقالت ان زيل، عمدة جوهانسبيرغ، تقدم املا جديدا للتقارب بين البيض والسود. وقالت: «لن تكن زيل ابدا رئيسة. ولن ينتصر حزبها ابدا على الحزب الافريقي، لكن، تحتاج جنوب افريقيا الى معارضة قوية، والى افكار بديلة». لم تقل المجلة اي شيء عن اللون، لكن، صار واضحا انها تتكلم عن اللون.