ثورة توتو

ديزموند توتو.. رمز نهاية الفصل العنصري.. والكفاح للقضايا الجديدة مثل انتشار الجريمة والإيدز والفقر في جنوب أفريقيا («الشرق الاوسط»)
TT

لا يوجد شخص يمكن أن يضاهي نيلسون مانديلا، في دوره لتحرير جنوب أفريقيا من الاضطهاد والفصل العنصري، ولا يوازيه في مكانته العالمية والاحترام الذي يحظى به، سوى الرئيس السابق لأساقفة جنوب أفريقيا الحائز جائزة نوبل للسلام، ديزموند توتو. هذا الرجل له مقولة مشهورة تلخص الأهداف التي ناضل من أجلها في كلمات موجزة، حيث يقول:

«إذا كنت ذا بشرة داكنة فإنك ستأتي آخِرا على الدوام، حان الوقت للتحوّل نحو زمن يكون فيه كل الناس متساوين بقيمتهم الإنسانية، بصرف النظر عن لون بشرتهم». لقد حصل الرجل على جائزة نوبل للسلام عام 1984، بسبب مجاهرته في انتقاد النظام العنصري في ذلك الوقت، ونصرته القوية لأشهر سجين سياسي في التاريخ المناضل ضد العنصرية نيلسون مانديلا. ويشهد نيلسون مانديلا لصديقه في إحدى المقابلات المنشورة أخيرا عندما سئل عن مشاعره وقد تحقق حلمه في إقامة مجتمع قائم على المساواة بين البيض والسود في جنوب افريقيا، فلم يتردد في الإجابة ببساطته المعهودة قائلا: «الحقيقة أنه ليس حلمي وإنما حلم ديزموند توتو.. إن جنوب أفريقيا بلد يتألف من مجموعات شديدة الاختلاف.. وقد نجحنا في أن نتفهم وندرك أن البلد يجب أن يمثل كل الأوجه المختلفة لأمة واحدة.. واليوم فإن هذه الصورة مقبولة من الجميع.. ولهذا تحقق حلم توتو».

هذا الداعية الذي يشهد له نيلسون مانديلا ويعيد له الفضل في تحقيق حلم كان في يوم من الأيام بعيد المنال، ولد عام 1931 في مدينة صغيرة يعمل معظم سكانها في مناجم الذهب في ترانسفال، ولم تختلف طفولته كثيرا عن طفولة أي طفل أسود في بلد عنصري، لكنه بدأ في شبابه يخطو خطوات والده بالعمل في التدريس، قبل أن يقرر الانضمام إلى الكنيسة عام 1953، ثم أصبح أول عميد أسود للكنيسة الأنجليكانية في جوهانسبيرغ، عام 1975. وطوال سنوات الستينات والسبعينات اشتهر توتو بصوته العالي المناهض للعنصرية، وزادت مجاهرته بأفكاره القوية، بعد ان انتخب رئيسا للأساقفة في كيب تاون عام 1986. وفي مارس (آذار) 1988 أعلن رفضه المطلق لأن يعامل الرجل الأسود «كخرقة تمسح بها الحكومة أحذيتها».

وبعد هذه المقولة بستة أشهر غامر توتو مرة أخرى بمناداته لمقاطعة الانتخابات البلدية، ولكنه في عام 1989 رحب بحرارة بخطوات الإصلاح التي أعلنها الرئيس كليرك، بعد توليه السلطة، ومن ضمن تلك الإصلاحات، الإفراج عن السجين نيلسون مانديلا. وقد استلهم توتو في نضاله ضد العنصرية في الثمانينات أفكار نظيره الأميركي، داعية حقوق الإنسان في الستينات الدكتور مارتن لوثر كينغ، حيث ردد توتو بعض مقولات مارتين لوثر كينغ، التي تحولت إلى نفير يذكي نشاط حركة مناوءة التمييز العنصري في جنوب افريقيا، عندما بلغت الاحتجاجات والمطالبات بإطلاق سراح نيلسون مانديلا أوجها. فقد كان رئيس الأساقفة ديزموند توتو يقتبس من مقولات كينغ في مواعظه، خصوصا تلك المقولات التي وردت في رسالة من السجن في عام 1963 قال فيها كينغ: «هناك نوعان من القوانين: العادلة والجائرة. وتقع على عاتق كل امرئ مسؤولية أخلاقية بعصيان القوانين الجائرة». ويبدو أن إعجاب توتو بهذه المقولة لا يقتصر على دلالاتها في مقاومة التمييز، بقدر ما يصل إلى دلالاتها في تضمين الأخلاق داخل إطار المقاومة، حيث أن مكافحة التمييز لم تعد ضرورة سياسية، بقدر ما هي أيضا مسؤولية أخلاقية.

وفي عام 1995 طلب مانديلا، الذي أصبح رئيسا من توتو أن يرأس لجنة الحقيقة والمصالحة التي كانت مهمتها جمع الأدلة على جرائم اللاإنسانية واللاأخلاقية في عهد التفرقة العنصرية، على أن تتولى اللجنة تحديد ما إذا كان أولئك الذين اعترفوا بتورطهم في تلك الجرائم يستحقون العفو أم لا. وقد استمر عمل اللجنة برئاسة توتو حتى اغسطس (آب) 1998، حيث هاجم توتو في النهاية القادة البيض السابقين لجنوب افريقيا متهما إياهم بالكذب على اللجنة. وعفت اللجنة عن 849 شخصا من بين الـ7112 الذين قدموا الطلب. لكن توتو أعرب عن ندمه بعد عشر سنوات من تشكيل اللجنة وبالتحديد في 2005 على عدم محاكمة من لم يطلب العفو، حيث قال إن اللجنة كان عليها محاكمة مقترفي جرائم عهد التمييز العنصري، الذين لم يطلبوا العفو امام اللجنة. وأوضح في حوار مع اذاعة جنوب افريقيا بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس اللجنة، التي اعطت لمرتكبي الجرائم العنصرية الفرصة للاعتراف مقابل العفو: «اظن اننا لم نفعل ما كان علينا فعله بخصوص... أولئك الذين سخروا من اللجنة». وأضاف «أرى انه ربما كان علينا اتباع القانون وادانتهم فعلا». واعتبر توتو ان الضحايا لم يتلقوا تعويضات مناسبة، خاصة ان اولئك الذين شهدوا امام اللجنة تخلوا عن حقهم في المطالبة بتعويضات امام القضاء. ويذكر ان الحكومة لم تبدأ في دفع التعويضات للضحايا حتى ديسمبر (كانون الاول) 2003، أي بعد الجلسات العلنية للجنة بخمس سنوات. وقد خصصت الحكومة مبلغ 660 مليون راند لـ22 ألف ضحية، مقارنة بالثلاثة مليارات التي أوصت بها اللجنة.

ورغم أن تقرير اللجنة حظي بقبول الحكومة إلا أنه قوبل بانتقاد آخرين اعتبروه قاصرا عن تحقيق الهدف الذي شكلت من أجله اللجنة، كما اتهم البعض توتو بمحاباة الزوجة السابقة لصديقه مانديلا. ومهما قيل عن هذه اللجنة أو لجان الحقائق المنبثقة عنها فإنها كانت سلطة أخلاقية فريدة من نوعها وتعد تجربة ناجحة نسبياً في تفكيك الأنظمة القديمة، ويرى كثير من الكتاب المحايدين أنه لولا السلطة الأخلاقية، التي تمتع بها كل من الزعيم الوطني نيلسون مانديلا والأسقف ديزموند توتو، لما كان لمفهوم العفو العام مقابل الاعتراف بحقائق ماضي التمييز العنصري أن يؤدي مفعوله مطلقا. ولم يتوقف توتو عن العمل السياسي بعد تحقيق الحلم في إنشاء مجتمع قابل بالتنوع، كما أن نضاله ضد التفرقة العنصرية لم يتوقف بانتهائها، بل استمر لمكافحة آثارها السلبية في إفساد أخلاق ضحاياها، وقرر توتو الاستمرار في الدفاع عما يسميه بالمبادئ الأخلاقية التي يجب الوقوف عندها دوما. ويرى داعية الأخلاق الأفريقي أن جنوب أفريقيا تواجه الآن خطر فقدان توجهها الأخلاقي. وكثيرا ما يقول توتو في تصريحات علنية، إن جنوب أفريقيا أخفقت في الحفاظ على روح المثالية التي وضعت حدا لنظام التفرقة العنصرية، الأبارتايد، كما يحذر دوما من تنامي التقسيمات ‏العرقية في البلاد. ‏ويرى توتو أن الاحترام والتوقير الأفريقي للحياة أضحى مفقودا، في إشارة إلى المعدل العالي للجريمة في جنوب أفريقيا وحوادث اغتصاب الأطفال والسرقات. ومن الطريف أن منزل توتو نفسه تعرض الشهر الماضي للسرقة، ولا يعرف هل كان ذلك من قبيل الصدفة أم أن اللصوص أرادوا التعبير عن انزعاجهم من صوته المرتفع ضد الجرائم اللاأخلاقية، بما فيها السرقات. وأعادت الشرطة في جنوب افريقيا في يونيو (حزيران) المنصرم قلادة جائزة نوبل، التي فاز بها توتو، إلى زوجته بعد أن سرقت من منزله في جوهانسبيرغ في الشهر ذاته. وحسب ما أوردته وكالات الأنباء في حينه فإن قائد شرطة جوهانسبيرغ اعلن أن ليا زوجة توتو تعرفت على القلادة التي منحت لتوتو في عام 1984، عندما فاز بجائزة نوبل تقديرا لجهوده ضد الفصل العنصري، كما تعرفت على أشياء اخرى سرقت من منزلها. وذكرت وسائل اعلام محلية أن قيمة القلادة، التي أعيدت إليه تبلغ حوالي مليون راند (139400 دولار). وقالت الشرطة ان المسروقات تشمل أيضا مجوهرات وجهاز تلفزيون ومشغل أقراص فيديو رقمية. واعتقل خمسة اشخاص مشتبه فيهم. وكان توتو موجودا خارج البلاد عندما وقع الحادث. ولم ينج من ارتفاع معدلات الجريمة في جنوب افريقيا المشاهير وأصحاب النفوذ الآخرين في البلاد. فقد تعرض منزل ويني ماديكيزيلا مانديلا الزوجة السابقة لنيلسون مانديلا في سويتو للسطو في فبراير (شباط) الماضي. وتمكن لصوص آخرون من حجز الكاتبة الحائزة جائزة نوبل نادين جورديمر في مخزن بمنزلها في جوهانسبيرغ في أكتوبر (تشرين الاول) الماضي، اثناء استيلاء لصوص على نقودها ومجوهراتها، وهو الأمر الذي يؤكد أن ما يحذر منه داعية الأخلاق توتو يستحق التأمل والوقوف بحزم تجاهه. تجدر الإشارة إلى أن توتو كان قد عارض فكرة تولي نائب الرئيس السابق لجنوب أفريقيا، جاكوب زوما، منصب الرئاسة في البلاد، نظرا «لإخفاقاته الأخلاقية». ‏ وفي محاضرة ألقاها في جامعة كيب تاون حول ذكرى ستيف بيكو، الزعيم المناهض للأبارتايد، الذي توفي وهو رهن الاعتقال لدى الشرطة عام 1977، ‏تساءل توتو عن سبب غياب احترام القانون والبيئة وحتى الحياة في جنوب أفريقيا! وقال: «ترى، ما الذي جرى لنا؟ يبدو الأمر وكأننا قد أسأنا استخدام حريتنا وحقوقنا في حرية العمل وفي كوننا مسؤولين. فالحقوق تسير يدا بيد مع المسؤولية ‏والكرامة واحترام الذات والآخر». ‏ ويضيف توتو: «حقيقة الأمر هي أننا ما زلنا، وبشكل يدعو إلى الكآبة، لا نحترم بعضنا بعضا. لقد قلت على الدوام إن وعي وشعور السود لم يتمم العمل ‏الذي نذر نفسه من أجله». وقال إن المسؤولين الحكوميين غالبا ما يتصرفون وكأنهم مسؤولون سابقون خلال عهد الأبارتايد او الفصل العنصري، فيعاملون الناس بتعجرف. ‏ويشدد على وجوب أن تقاوم جنوب أفريقيا رهاب الأجانب، أي الخوف من كل ما هو أجنبي، ويوضح وجهة نظره بالقول: «ربما لم ندرك كيف أن الأبارتايد قد سبب لنا الضرر، لذلك نبدو أننا قد فقدنا شعورنا بالحق والباطل. لذلك فنحن عندما نخرج في احتجاج أو إضراب ‏كما يحق لنا أن نفعل، فنحن لا يريعنا منظر البعض منا وهم ينزلون الناس بالقوة من القطارات وهي تسير، لأنهم لم ينضموا إلى المظاهرة»، ‏ويتساءل قائلا: «لماذا أصبح الأمر معتادا بالنسبة لنا أن نتصرف كالرعاع أو أن نثور ونهتاج؟». إلا أن توتو أكد أن جنوب أفريقيا تبقى بلدا رائعا وهي التي أنتجت أناسا لامعين، مثل ستيف بيكو ونيلسون مانديلا، وقال توتو: «أفضل نصب تذكاري لستيف بيكو هو وجود جنوب أفريقيا يحترم فيها الجميع نفسه وتكون لنفسها الصورة الإيجابية المملوءة بالتقدير الذاتي ‏اللائق، وأن تقدر الآخرين حق تقدير». ‏ عاد اسم توتو ليبرز من جديد على الساحة الدولية في الرابع عشر من شهر سبتمبر (ايلول) الماضي، عندما حذر من أن العنصرية هي عنصر ‏فاعل في ما وصفه بطء الرد الدولي على العنف في منطقة إقليم دارفور السوداني. ‏وجاءت تعليقات الأسقف توتو بالتزامن مع اجتماعات مجلس الأمن الدولي لمناقشة ما أطلق عليه «اليوم العالمي لدارفور»، الذي دعا الناس حول العالم إلى ‏المشاركة في فعاليات استهدفت الضغط على الحكومات لبذل المزيد من الجهد لانهاء المعاناة في دارفور. ولا يتردد توتو في المقارنة بين معاملة إسرائيل للفلسطينيين مشبها إياها بمعاملة النظام العنصري السابق في جنوب افريقيا لأبناء البلاد من ذوي البشرة السوداء. وطالب توتو العام الماضي العالم بسحب الاستثمارات من إسرائيل بسبب سياساتها مع الفلسطينيين. وكان توتو قد قاد حملة تشجع على عدم الاستثمار في جنوب أفريقيا أثناء حكم النظام العنصري الأبيض في البلاد. وندد توتو بنظام نقاط التفتيش المهينة للفلسطينيين، الأمر الذي أغضب جماعات يهودية في أميركا وجعل إحدى الجماعات تهاجمه في صحيفة «انترناشيونال هيرالد تريبيون» الأميركية. ففي مقارنة توتو بين النظام العنصري السابق في جنوب أفريقيا والإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، قال إنه من الصعب الذهاب للمستشفى حتى في حالة الطوارئ، ولكن يمكن دخول السجون من دون ارتكاب أي جرائم، مشيرا إلى أحوال الفلسطينيين تحت الاحتلال. وفي رد الجماعات اليهودية عليه قال الحاخام مارفين هاير، عميد ومؤسس مركز سيمون فايننشال، إن توتو كان مخطئا بتشجيعه الأنشطة المعادية لإسرائيل وانه بدلا من أن يحث العالم على عدم الاستثمار في إسرائيل، وهي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، كان عليه أن يحث الزعماء المسلمين والساسة بإدانة الجماعات الإرهابية التي تهدف إلى تدمير دولة إسرائيل. ويقول مهاجمو توتو إنه انضم إلى قائمة الرافضين لوقف الارهاب، بدلا من أن يرفع صوته نيابة عن ضحايا الإرهاب. وإلى جانب وصفه الجريء لحرب العراق بأنها غير أخلاقية، فإن توتو انتقد بشدة استمرار معتقل غوانتانامو من دون تقديم المعتقلين للمحاكمة، كما هاجم بريطانيا بسبب فترة الاعتقال التي تستمر 28 يوما للمشتبهين بالقيام بأعمال إرهابية. ومن دلائل الحرص الأخلاقي الذي يمتاز به توتو وتحريه في استخدام الألفاظ دعوته، بل ونصيحته لوسائل الإعلام العالمية، بتوخي الحذر في اختيار التوصيفات لدى تغطية الصراعات الطائفية في العالم، يرى أن مسمى «الإرهاب الإسلامي»، في وقت لم يذكر فيه قط تعبير «الإرهاب المسيحي»، يعني ضمنا أن الإسلام يدعو إلى العنف، لكن أحدا لم يتحدث قط عما حدث في آيرلندا الشمالية على أنه «إرهاب مسيحي». ويقول في هذا السياق «نحن المسيحيين علينا أن نترجل وننزل من فوق جيادنا لنتعلم كيف نكون أكثر تواضعا حين ننظر إلى تاريخنا والأشياء الدموية التي ارتكبناها باسم الدين». وقال «لم أسمع بدين يدعو إلى العنف أو يقول إن قمع أي شخص هو شيء خير، أدرك أن وسائل الإعلام يمكن أن تكون قوة فاعلة للخير لكن عليها أن تكون مسؤولة». إن دفاع توتو عن الإسلام وهو رجل دين مسيحي لا يؤكد سوى حقيقة واحدة، وهي أنه دفاع نابع من إنسان ذي مبادئ ورجل أخلاق.