السير على حبل

المتشددون في طهران مستمرون في تذكير «البحرين» بأنها «محافظة إيرانية».. والبحرينيون يتساءلون.. إلى متى؟

بحرينية تحمل صورة الملك حمد بن عيسى آل خليفة خارج سفارة إيران في المنامة خلال تظاهرة احتجاجية الجمعة الماضي (رويترز)
TT

إذا كانت الدنيا قامت ولم تقعد خلال الأسبوع الماضي، بعد تصريحات إيرانية عن تبعية البحرين للدولة الفارسية. فإن قسما كبيرا من البحرينيين، ملوا سماع «هذه الاسطوانة.. ».. وباتوا يتساءلون.. «الى متى؟».

لم تكن هذه المزاعم الإيرانية، الأولى في تاريخ البلدين الجارين، ولكنها ربما كانت حلقة في مسلسل المطالبات الإيرانية، غير الرسمية، في ما تعتبره فعالياتها بأنه جزء من أراضيها. صحيح أن الاستفتاء التاريخي، الذي أجرته الأمم المتحدة عام 1970 من القرن الماضي قد حسم وبشكل نهائي مثل هذه الإدعاءات، وصحيح أن ملف البحرين وإيران أغلق منذ نحو 37 عاما، لكن المطالبات الإيرانية ظلت مستمرة منذ ذلك التاريخ، وإن كانت في مجملها لا تأتي من الجانب الرسمي في طهران.

ولعل أول ما يتبادر للذهن في «ضجة التصريحات»، هذه التي اكتفت الحكومة البحرينية بوصمها بـ«الاستفزازية»، هو الخلفية التي تنطلق منها، والتوقيت الذي تختاره طهران في كل مرة، والسؤال الأبرز هو: هل تعني طهران حقيقة هذه المطالبات، أم أنها لعبة سياسية تقذف بها بين الحين والآخر لتحقيق هدف محدد؟

يعي كثير من المراقبين ان مثل هذه المزاعم الإيرانية لم تتوقف طوال الأعوام الـ37 الماضية، التي تبعت استقلال البحرين في 1970. لكن ما فاجأ المنطقة من افتتاحية حسين شريعتمداري في صحيفة «كيهان» في التاسع من يوليو (تموز) الجاري، بعنوان «الصفير في الظلام»، والتي شن فيها هجوماً غير مسبوق على دول الخليج، والبحرين خصوصا، هو أن مصدر هذه التصريحات محسوب على الدولة الإيرانية، باعتباره رئيس تحرير الجريدة شبه الرسمية ومستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، على عكس غالبية التصريحات السابقة، التي كانت تطلق من أشخاص مستقلين، وهو ما كانت تتذرع به الحكومة بأنهم لا يمثلون الجانب الرسمي.

وتبدو قوة تصريحات شريعتمداري من كونها أتت لتعيد نغمة الاستعلاء في التعامل بين الجيران، بعد أن ظن الجميع أنها انتهت منذ فترة طويلة، لكن شريعتمداري أعاد المنطقة إلى التفكير من جديد عن جدوى هذه المطالبات مرة أخرى، على عكس الموقف الرسمي الإيراني الذي يقول دائما إنه يسعى لتحسين علاقاته مع جيرانه بدول الخليج العربي.

الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة وزير الخارجية البحريني، قال لـ«الشرق الأوسط» إن بلاده تقدر كثيرا الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الايراني منوشهر متقي للمنامة لتطويق أزمة التصريحات، مشيرا إلى أن الأزمة كان من الممكن أن تتفاعل لتشمل البحرين والمنطقة بأشملها، مضيفا «اعتبر زيارة أخي منو شهر متقي السريعة للبحرين، وإنهاء أزمة التصريحات، هي حكمة جاءت في وقتها المناسب، ونحن في البحرين نقدر زيارة الوزير الإيراني للبحرين».

وحول الموقف البحريني من استخدام القواعد الأميركية في بلاده، خاصة في ظل اعتبار المراقبين أن هذا هو السبب الرئيسي في إطلاق تلك التصريحات ضد البحرين، قال الشيخ خالد «لأكن صريحا معك.. في الظرف الدقيق الذي تمر به منطقة الخليج، أصدقك القول أن أي تعليق لي في هذا الوقت، هو بلا شك سيحسب على انه موجة ضد أحد الطرفين، أي إيران والولايات المتحدة، فإذا قلت لك سنسمح باستخدام أراضينا لأية هجمة ضد إيران، سنكون وقفنا ضد بلد شقيق وجار ومسلم. وإذا قلت إننا لن نسمح باستخدام أراضينا لـ«ضربة عسكرية» نكون وقفنا ضد حليف لنا وهو الولايات المتحدة»، ويضيف وزير الخارجية البحريني «كل الذي نتمناه في البحرين أننا نسعى لتخفيف التوتر وليس من مصلحتنا حدوث أي عمل عسكري ضد جارتنا إيران». مشيرا في الوقت ذاته أهمية ما يربط البحرين والولايات المتحدة بشأن القواعد الأميركية. وأضاف «صحيح أن هذه القواعد هي تحت السيادة البحرينية، لكنها أيضا اتفاقيات عسكرية قديمة، ونحن نتشاور مع حلفائنا الأميركيين باستمرار». ويقول «نحن نسعى يوميا لتفادي أي عمل عسكري يوجه ضد إيران، نحن لا نعادي أي طرف ولا نقف مع طرف ضد آخر، لكننا نبحث عن مصلحتنا، والمصلحة البحرينية في عدم حدوث أي تصعيد عسكري في المنطقة»، موضحا أن الحل الدبلوماسي هو الأكثر جدوى وهو الوحيد الذي ينزع فتيل الخطر عن المنطقة. الدكتور ما شاء الله شمس الواعظين، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية في طهران، يشير الى اهمية التعرف على «التيار المتشدد الذي يمثله شريعتمداري لمعرفة حجم ما تمثله تصريحاته من اهمية». يقول ان هذا التيار يعتبر أن أي اصطفاف إقليمي، وبالتحديد في البحرين، وأي خطوات في اتجاه إعطاء مواقع عسكرية استراتيجية للولايات المتحدة، وابرام معاهدات مع الأميركيين، موجهة ضد إيران. ويشير الدكتور شمس الواعظين إلى أن التيار المحافظ يمارس سياسية هجومية في الداخل «سواء باستهداف المثقفين أو بالنسبة لحجاب النساء، وعندما ينتقل هذا الهجوم من الداخل إلى الخارج، كما حدث في أزمة التصريحات، فلا بد أن تهرع حكومة إيران، لتهدئة الأزمة، وتخفيف ردود الفعل العنيفة التي خلفها تدخل التيار المحافظ نحو تشكيل السياسة الخارجية لإيران». ويضيف «وزير الخارجية الإيراني متقي غادر إلى البحرين لطمأنة الشعب البحريني وتأكيد احترام إيران للسيادة البحرينية، لكن السؤال هو من الذي سيطمئن الداخل البحريني من تدخل التيار المحافظ وضغطه الكبير على الشارع الايراني؟».

ويعتقد الدكتور شمس الواعظين أن التيار المتشدد يريد أن يوجه رسالة إلى البحرين بأنها كانت في السبعينات جزءا من بلاده «وأن هذه الخلفية ضرورية من أجل تذكير البحرين بما يجب أن تقوم به في علاقتها مع الولايات المتحدة، خاصة تلك المتعلقة بالتسهيلات العسكرية لها، والتي يعتبرها التيار المحافظ ضد إيران بدرجة أساسية».

إذن هناك من يرى أن أصواتا إيرانية، وبخاصة المحافظين، يستخدمون مثل هذه المزاعم بين الحين والآخر، لتذكير البحرين بأنها يجب أن تضع ذلك في اعتبارها خلال تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وأن وجود الأسطول الخامس الأميركي في الأراضي البحرينية، يعتبر نوعا من التهديد المباشر لإيران. بالرغم من أن البحرين جددت مرارا رفضها لاستخدام أراضيها لأي ضربة محتملة لجارتها إيران، لكن كل ذلك يبدو أنه لم يقنع المحافظين الإيرانيين بالموقف البحريني، وإصرارهم على محاسبة البحرين على اتفاقياتهم العسكرية السابقة، والتي مر عليها عقود من السنين.

يقول الشيخ عادل المعاودة رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في البرلمان البحريني، أن ما تقوم به إيران لا يخفى على المراقبين في توقيته، «فهي تعيش في شبه عزلة دولية، والولايات المتحدة تحاصرها من كل حدب وصوب.. ومن هنا جاءت فكرة اطلاق تصريحات وتهديدات على دول الخليج، كحل مؤقتة للتخفيف من وطأة المحاصرة السياسية لإيران». ويعتقد المعاودة أن المزاعم الإيرانية في البحرين، لم تنته بإقرار الأمم المتحدة لاستفتاء الشعب البحريني في سبعينات القرن الماضي، «فالتكرار المستمر لتلك المزاعم يفضح بأن هناك في إيران من يغذي هذا الاتجاه، ويبحث في ما يكدر صفو العلاقات الخليجية الإيرانية»، مضيفا القول «بغض النظر عن الخلفيات التي ينطلق منها هؤلاء، فإن مثل تلك التصريحات والفرقعات السياسية، يجب أن تؤخذ بشكل جدي في الخليج والبحرين خصوصا، في ظل انها قد تجر المنطقة يوما لحساسيات وعداء.. نحن في غنى عنه».

ويلفت المعاودة إلى أن مثل هذه المزاعم، لم تكن الأولى التي تخرج من المسؤولين الإيرانيين، فقد طالب أحد النواب الإيرانيين أيضا بضرورة التعامل بشدة مع دول الخليج وتبني سياسة هجومية دائما وليست دفاعية، وهذا يعطينا سببا رئيسيا لخروج تلك المزاعم الإيرانية بين الحين والآخر».

ويلاحظ المراقبون هنا، السرعة الإيرانية في لملمة الموضوع قبل أن تصعب السيطرة عليه، وخروجه عن دائرة السيطرة، فكانت الزيارة السريعة لوزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي للمنامة، للتأكيد على السيادة البحرينية، ورفض هذه التصريحات جملة وتفصيلا، واعتبارها مجرد تصريحات إعلامية «غير مطلوب من الحكومة الاعتذار عنها، كما أن إيران لا تطالب الجانب البحريني بالاعتذار عما ينشر في الصحافة البحرينية»، بحسب كلام منو شهر متقي.

والبحرينون، سنتهم وشيعتهم، يشعرون بحساسية شديدة من طرح مثل هذه المطالب الإيرانية، ولعل أكثر ما يثير هذه الحساسية، هو ربطها بالوجود الشيعي المكثف بالبحرين، وكأنت إيران تعول على شيعة البحرين في مطالبتها هذه، بالرغم من أن الرفض الشيعي لبقاء البحرين تحت السيادة الفارسية، كان بارزا خلال استفتاء الأمم المتحدة التاريخي. أي أن الشيعة كانوا، كما السنة، متمسكين بعروبتهم وقوميتهم، بعيدا عن أي تحزبات طائفية، لكن كل ذلك لا يزال يثير الكثير من الحساسية، خاصة مع التلميح، وأحيانا التصريح، لبعض الفعاليات الإيرانية بأهمية أخذ حساب العنصر الشيعي في هذه المطالبة.

أما أستاذ العلاقات الدولية رئيس وحدة الدراسات الأميركية في جامعة الكويت الدكتور عبد الله الشايجي، فيقول «اذا أخذنا بعين الاعتبار التصريحات المتتالية للمسؤولين الإيرانيين وتحديدا في الآونة الأخيرة، نرى بالفعل ان ايران تشعر بالقلق، ومخاوفها تزداد من أن تتحول دول الخليج إلى منصة للاعتداء عليها»، مشيرا الى ان ايران تستخدم لغة التهديد، ولها موقف موجه لمجلس التعاون الخليجي يحذر هذه الدول بألا تكون طرفا في المواجهة. إلا أن الشايجي يرى أن «دول الخليج في الوقت الذي ترفض فيه مبدأ الحرب على إيران، لا تستطيع رفض التعاون فيما لو أقرت عقوبات مجلس الأمن تحت البند السابع، لأنها غير قابلة للمناقشة أو رفض التطبيق». ومن هذا المنطلق يطالب الشايجي «برصد هذه التصريحات وأخذها على محمل الجد، لأنها مرتبطة بالجناح الثوري الايراني، وهو اللاعب الرئيس داخل النظام الأمني والعسكري في ايران». ويضيف «تصريحات المسؤولين الايرانيين المقصود منها أن الأمن في الخليج للجميع.. ولن يكون أحد آمنا في حالة تعرضها لهجوم، فهي تستطيع توجيه ضربات مضادة لمواقع عسكرية غربية في الخليج العربي، ودول التعاون». ويرى الدكتور الشايجي انه «يخطئ من يظن أن الولايات المتحدة بحاجة لاستخدام قواعدها في الخليج لمهاجمة إيران. ولنا في هجومها على العراق عبرة، فقد كان 70 في المائة من هجماتها، قادم من خارج المنطقة أساسا». ويدلل بأن 50 في المائة من ترسانة الأميركيين العسكرية توجد بالقرب من المنطقة، سواء في الخليج العربي أو بحر العرب أو البحر الأحمر، «لذلك لن تحرج الولايات المتحدة حلفاءها العرب في هجومها على إيران، وهي قادرة على قيامها بذلك من دون الحاجة إليهم».

ربما أنتهت تصريحات شريعتمداري بعد زيارة سريعة لوزير خارجية إيران للمنامة، لكن تبعاتها تبين أن العلاقات الايرانية الخليجية ستستمر في مد وجزر، وتشبه السير على حبل، من دون أن تصل إلى المستوى العلني الذي يؤكده الزعماء في الجانبين، في ظل وجود عوامل مؤثر تعيد هذه العلاقات إلى نقطة الصفر دائما.

* 1970: الشعب البحريني حدد وجهته.. برفض السيادة الإيرانية

* لعل التاريخ يذكر، أن إيران كانت تعتبر كل الجزر القابعة في مياه الخليج العربي، بأنها تقع ضمن حدود الامبراطورية الفارسية. لكن الاستعمار البريطاني لهذه الجزر منع إيران، في ذلك الوقت، من ممارسة سياستها التوسعية على حساب جزيرة البحرين، وشقيقاتها الإماراتية، طنب الكبرى وطنب الصغرى التابعتين لأمارة رأس الخيمة، وجزيرة أبو موسى التي تأتي ضمن حدود أمارة الشارقة. ولكن ما أن أعلنت الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في عام 1968 الخروج من دول الخليج العربي (قطر والبحرين والامارات العربية المتحدة) حتى وجدت إيران فرصة في الكشف عن مخططاتها بضم هذه الجزر لحدود سيادتها. وبالفعل تمكنت من احتلال الجزر الإماراتية الثلاث فور خروج الانجليز من هذه الجزر، لكنها لم تستطع القيام بذلك بالنسبة للبحرين. حيث كان الموقف البريطاني، والأميركي فيما بعد، حائلا أمام الخطة التوسعية الايرانية، بالرغم من بعض المقترحات المشتركة بين البريطانيين والأميركيين بعقد صفقة إجمالية يتم بضوئها إعطاء البحرين للعرب وجزيرتي طنب الصغرى والكبرى لإيران. الشاه الايراني أعلنها بصراحة وعلنا.. بأنه لن يعترف باتحاد يضم البحرين أو ببحرين مستقلة، وأن إيران ستنسحب من الأمم المتحدة إذا هي اعترفت بالبحرين.

استمرت إيران لأكثر من 150 عاماً، متمسكة بمزاعمها بالسيادة على البحرين، متخذة في ذلك أساليب شتى: من الاحتجاج على إشراك البحرين في بعض اللجان الفنية في الأمم المتحدة، إلى سحب الجوازات البحرينية من زوار العتبات المقدسة في إيران، إلى اعتبار قرار تأميم النفط الإيراني سارياً على البحرين، إلى غيرها من الممارسات التي تواصلت من سنة 1820 ، مروراً بـ1932 و1946 وليس انتهاء بـ1954. وتخلت إيران عن هذه المزاعم بشكل نهائي ورسمي، بقبول قرار مجلس الأمن الصادر في 11مايو (أيار) 1970، القاضي باستقلالية البحرين، وتصديق مجلسي الشيوخ والشعب عليه من دون تأخير.

وبعد فترة وجيزة من إعلان بريطانيا في أكتوبر (تشرين الأول) 1968 نيتها الانسحاب من الخليج العربي بنهاية 31 ديسمبر (كانون الأول) 1971، قامت السعودية والكويت وبريطانيا بالوساطة بين البحرين وإيران، الأمر الذي أسفر عن عقد لقاءات سرية في خريف عام 1968 بغرض التوصل لـ«صيغة مقبولة من الطرفين»، وعرض الإيرانيون عدة مقترحات لحل النزاع، لم تلق استجابة من الوفد البحريني لأنها، بحسب الدكتور حسين البحارنة أحد أعضاء الوفد، «تؤخر النظر في النزاع ولا تنطبق على وضع البحرين (الاستقلالي)، بالإضافة إلى عدم اقتناع هذا الوفد ـ ومن وراءه السعودية والكويت ـ بوجود مشكلة قانونية حتى ترفع لمحكمة العدل الدولية للنظر فيها». وجاءت تصريحات الشاه ـ بعد ذلك ـ في 4 يناير (كانون الثاني) 1969 أثناء زيارته للهند، لتعيد أجواء التفاؤل من جديد، حين تعهد بعدم استخدام القوة والاحتلال لفرض الحكم الإيراني على البحرين، خلافا لإرادة شعبها، وأنه سيقبل «أيّ شيء يعبر عن رغبات شعب البحرين»، بدون أن يغفل ذكر مزاعمه بالسيادة على البحرين. حددت الغالبية العظمى منهم (أي أهل البحرين) رغبتها في أن تكون البحرين دولة عربيّة «هذا ما خرج به تقرير بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة في عام 1970، وهو ما كان كفيلا، بحسم استقلال البحرين وإنهاء أية مطالبات إيرانية.