السودان.. كتاب الانقلابات

على خلفية فقدان الاستقرار وضعف النظم الديمقراطية وتردي الخدمات وعجز الأحزاب والغبن الاجتماعي.. وشهوة العسكر للسلطة

نازحة من دارفور تعيش في ضواحي مدينة الخرطوم حيث تنعدم كثير من الخدمات الاساسية (أ.ب)
TT

رغم انخفاض موجة الانقلابات العسكرية في العالم، وارتفاع نسب المؤمنين بالتعددية والنظم الديمقراطية، لا يزال نظام الرئيس السوداني المشير عمر البشير، يعلن كشف المزيد منها، وآخرها الانقلاب المزعوم الذي اتهم فيه زعيم حزب الأمة للاصلاح والتجديد مبارك الفاضل. ورغم التشكيك في صحة تلك الانقلابات العديدة التي بدأت منذ عام 1990، الا ان عسكريين ومراقبين كثرا وضعوا قواعد عامة ضمنت في كتاب الانقلابات العسكرية فى السودان.

فمن السهل جدا ان تنفذ انقلابا عسكريا على النظام المدني التعددي الحاكم في السودان، ولكن من رابع المستحيلات وضرب من ضروب المغامرات ان تنجح في تنفيذ انقلاب عسكري ضد اي نظام عسكري حاكم، هذا هو الدرس الأول في كتاب الانقلابات، اما الدرس الثاني فهو: «ان النظم العسكرية في السودان، دائما تطيحها الثورات الشعبية العارمة» فلا تتعب نفسك.

ومع ذلك، هناك من لا يستفيد من هذه الدروس، على ما يبدو، بدليل تواتر المحاولات الانقلابية الفاشلة في عهدي الرئيسين السابق جعفر نميري، الذي جاء الى سدة الحكم بانقلاب عسكري على نظام ديمقراطي، والحالي عمر البشير الذي اطاح حكومة الصادق المهدي الديمقراطية في عام 1989.

وشهد نظام البشير منذ قيامه سلسلة من الانقلابات العسكرية، والمحاولات التخريبية، وهو اسم «الدلع» للانقلابات العسكرية، بغض النظر عن ان تصنيف المراقبين لها. فهناك من ينظر اليها على أنها حقيقية وجدية تستهدف إطاحة حكم البشير، وهناك من يرى ان بعضها مفتعلة ملفقة، الغرض منها «تحويل انظار الناس عن قضايا ملحة تشغل الساحة، تتطلب المواجهة من قبل الحكومة»، طبقا للناشط في مجال الحقوق المدنية والحريات عبد الله آدم خاطر، الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» حول الموضوع.

وتمثلت أمشاج سلسلة الانقلابات على نظام البشير في نشوء وتحركات تنظيمين داخل الجيش الاول: «تنظيم الضباط الاحرار»، وهو تنظيم سري ولد مع ميلاد الجيش السوداني في اوائل الخمسينات، وظل يسطع نجمه ثم يأفل من وقت لآخر ومن نظام إلى آخر»، وبدأ التنظيم تحركات وتعبئة واستقطاب الضباط وضباط الصف في عام 1990، واطلق عليه اسم «حركة مارس»، حسب كتاب «الجيش السوداني والسياسة» لمؤلفه العميد متقاعد عصام الدين ميرغني الشهير بـ«ابوغسان»، أما التنظيم الثاني فهو «حركة الخلاص الوطني»، ويضم مجموعة من الذين عملوا في عهد الرئيس نميري «ومعظم ضباط حركة الخلاص ذوي توجهات بعثية».

ودبرت «حركة مارس» انقلابا ضد نظام البشير في مارس (آذار) عام 1990، ولكن انكشف في مراحله النهائية، وتم اعتقال عناصره الاساسية وعددهم»34 » ضابطا تعرضوا اثناء التحقيقات الى الحرمان من الأكل والشرب والإغراء والحبس الانفرادي والاذلال والإهانة»، كما اورد عصام الدين ميرغني في مؤلفه المذكور. وشكلت محاكم عسكرية للانقلابيين أصدرت أحكاما بالاعدام على قائدها «اللواء محمد علي حامد، والرائد شرطة متقاعد جمال الدين الطيب الشافعي»، خففت فيما بعد الى السجن المؤبد.

وقبل ان تلملم حكومة «الانقاذ الوطني» أطرافها المشتتة جراء المحاولة اندلع انقلاب عسكري آخر عرف بـ«انقلاب رمضان» أو الانقلاب المذبحة كما يسميه المعارضون لحكومة الرئيس البشير، ولكن احبط مع ساعة تنفيذه في 2 ابريل (نيسان) عام 1990 والقي القبض على 28 ضابطا، وتم اعدامهم في محاكمات عسكرية في 24 ابريل، من بينهم: الفريق خالد الزين نمر، واللواء الركن عثمان ادريس، واللواء حسن عبد القار الكدرو، والعميد طيار محمد عثمان كرار حامد، والعقيد محمد حمد قسام والعميد عصمت ميرغني طه، وهناك قائمة من الضبط، الذين سجنوا أو طردوا من الخدمة بسبب الانقلاب الفاشل.

ويقول الخبراء العسكريون ان مدبري انقلاب رمضان الذين اطلقوا اسما حركيا للعملية «الخلاص» تمكنوا من الاستيلاء على عدد من المرافق العسكرية الحساسة، لكنهم لم يستطيعوا تحقيق كلمة السر التي تداولوها بينهم «هدية رمضان»، ما قاد الى سهولة القبض عليهم وإعدامهم، ويرى محللون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» ان حركة ابريل أو حركة رمضان هي اكبر محاولة انقلابية على نظام الرئيس عمر البشير منذ قيامه وحتى الآن.

ومن المحاولات النقلابية الجديرة بالذكر، محاولة الجناح العسكري للتجمع السوداني المعارض لنظام البشير تنفيذ انقلاب في 20 أغسطس (آب) 1991 باسم عملية «أنا السودان» لإسقاط النظام عبر تحركات من داخل السودان ومن خارجه، بتوجيه الفريق فتحي أحمد علي قائد القيادة الشرعية لقوات التجمع، وقيادة اللواء محمد عثمان حليفي واللواء مهندس علي التيجاني في الجناح العسكري الداخل، بمساندة كاملة من الأحزاب الممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، ولكن تم إلقاء القبض على معظم العناصر المشاركة، وإحباط التحرك قبل اليوم المحدد للتنفيذ.

وبعد محاولة حركة رمضان وقعت جملة من المحاولات المسلحة لقلب النظام، ولكنها «لم ترتق الى مرتبة الانقلابات، لذلك اطلقت عليها الحكومة المحاولات التخريبية»، طبقا لمسؤول حكومي تحدث لـ«الشرق الأوسط» وأضاف «كما أن الأجهزة كثيرا ما تتستر على بعض المحاولات حتى لا تعطي مؤشرا الى وجود فلتان وحالة تذمر تغري الآخرين، للقيام بعمل يسقط النظام».

وفي عام 1997 اتهمت السلطات الأمنية حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي بالتخطيط لانقلاب عسكري ضد النظام، على الاثر تمت حملة اعتقالات طالت قيادات وناشطين في الحزب من بينهم: دكتور بقادي وعبد الرحمن فرح رئيس جهاز الأمن السابق للأمير عبد الرحمن نقد الله. وبالتزامن أعلنت السلطات الأمنية عن حدوث تفجيرات محدودة في ودمدني وجهت فيها اصابع الاتهام لحزب الأمة المعارض، حيث كان يعمل بكثافة من الخارج ضمن منظومة التجمع المعارض لاسقاط النظام بالقوة، تحت «راية الانتفاضة المحمية بقوة السلاح». ومع تصعيد العمليات العسكرية للتجمع المعارض من شرق السودان منطلقة من الاراضي الاريترية، تواترت الأنباء عن وقوع اعمال تخريبية في شرق السودان «مستهدفة قطع شرق السودان الذي توجد فيه اكبر ميناء بحري في مدينة بورتسودان عن باقي البلاد»، كما يردد المسؤولون الحكوميون في سياق تعليقاتهم عن تلك الاحداث التكررة تحت مسمى «المحاولات التخريبية».

وأشهر تلك العمليات الاعلان عن تفجير انبوب النفط، ثم محاولة تفجير جسر «كبري الاشراف قبالة مدينة جبيت» في شرق السودان عام 1997، ولقي منفذ عملية كبري الاشراف في جبيت حتفه نتيجة الاستخدام الخاطئ للمتفجرات. وفي ذات العام تمت عمليات تفجير النفط بنجاح في مناطق شرق مدينة «عطبرة» الواقعة شمال الخرطوم، ليعلن الجناح العسكري للتجمع المعارض وجيش الأمة للتحرير التابع لحزب الأمة مسؤوليتهما من الحادثتين، وقالت هذه الجهات انها نفت العملية باعتبار ان النفط هدف عسكري مشروع لأن الحكومة تستخدمه في تقوية موقفها العسكري» وجاء رد فعل الحكومة ازاء هذا الاعتراف ان فتحت بلاغات دولية ضد الجناه بدعوى «ان استهداف المنشآت النفطية من العمليات الارهابية».

وخفت صوت المحاولات التخريبية لأعوام، ويعتقد اكثر من مراقب في الخرطوم أن السبب تضاؤل فرص التصعيد العسكري بين الحكومة والمعارضة بعد اتفاقية مشاكوس، التي مهدت السبيل لمفاوضات ماراثونية بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان بزخم دولي مشهود الى ان جرى التوقيع على اتفاق السلام بين الطرفين في يناير عام 2005 عرف باسم «اتفاق نيفاشا»، الذي طوى صفحة دامية لحرب طويلة في جنوب السودان، واطر لحكم السودان بنظام دولة بحكومتين، ودستور انتقالي، ومواقيت لإجراء انتخابات عامة في البلاد، «واطر لقضايا يصبح معها اية محاولة لتنفيذ انقلاب عسكرى مجرد مغامرة»، على حد قول الدكتور الطيب زين العابدين المحلل السياسي والكاتب والقيادي الاسلامي.

في موجة من موجات الصراع بين الرئيس عمر البشير وزعيم الإسلاميين وعراب «الانقاذ» الدكتور حسن الترابي اعلن عن محاولتين تخريبيتن او انقلابيتين الاولى: في مارس 2004، والثانية: سبتمبر 2004، وتم القاء القبض على مجموعة كبيرة من عضوية حزب المؤتمر الشعبي المعارض بزعامة الترابي، وفي المحاولتين كانت اصابع الاتهام تشير إلى الدكتور الحاج آدم علي القيادي في الحزب، بأنه «الرأس المدبر للعملية» غير ان السلطات لم تتمكن من القبض عليه حينذاك، لأنه غادر سرا الى اريتريا.

وطالت الاعتقالات التي شنتها الحكومة في صفوف الشعبي كل من: حسن ساتي عضو الهيئة القيادية وأمين الأمانة الاقتصادية، والدكتور بشير آدم رحمة الأمين السياسي للحزب، والمهندس آدم الطاهر حمدون أمين أمانة الحزب بالعاصمة الخرطوم، وسليمان صندل المحامي القيادي في الحزب، ومحمد أحمد دهب، وأحمد فضل الناشطين في الحزب. وفي غمر انشغال البلاد بقضية نشر قوات هجين من الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي في اقليم دارفور المضطرب، وتواتر الاتصالات والاجتماعات لعقد مفاوضات بين الحكومة وحركات دارفور المسلحة لإنهاء الأزمة باتفاق للسلام، وفي ظل علو وهبوط حرارة العلاقات بين حزب المؤتمر الوطني بزعامة الرئيس البشير، والحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة الفريق سلفاكير حول تنفيذ اتفاق نيفاشا، ومع اجتياح الفيضانات والسيول والأمطار لعدد من القرى والمدن السودانية ما أسفر عن تشريد آلاف السكان، في هذا الوقت، قامت قوة مدججة بالسلاح باعتقال مبارك الفاضل المهدي رئيس حزب الأمة الاصلاح والتجديد المنسلخ عن حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي، كما اعتقلت اثنين من مساعديه في الاصلاح ولتجديد، ونحو «14» من الضباط المتقاعدين، وقالت في سلسلة تصريحات وبيانات إن المعتقلين كانوا يدبرون لـ«أعمال تخريبية وفوضى» في العاصمة الخرطوم، تستهدف زعزعة الاستقرار واسقاط نظام الحكم.

هناك من صدق حيثيات الحكومة التي قامت عليها عملية الدهم والاعتقال، وهناك من تشكك في القضية برمتها، خاصة المعارضة، بالعودة الى تداعيات محاولات سابقة أعلنت عنها الحكومة والنهايات التي وصلت اليها، ومهما يكن، فإن المحاولة الأخيرة فتحت مجالا واسعا لجدل مفتوح حول جدوى الانقلابات العسكرية ولمحاولات التخريبية في البلاد واهدافها ودوافعها. وفي السياق يعدد العميد الركن متقاعد عصام الدين ميرغني «أبوغسان»، وهو عضو المجلس الوطني الانتقالي «البرلمان» دوافع الانقلابات العسكرية في السودان في الآتي: فقدان الاستقرار السياسي، واستمرار الأنظمة المدنية الديمقراطية الحاكمة حتى تكملة دوراتها المحددة لحين موعد الانتخابات التالية هو المعيار الأساسي للحكم على ثبات ورشد الأنظمة الديمقراطية، وضعف النظام الديمقراطي، ويرى في الخصوص أن النظام الديمقراطي في السودان عبر ثلاث حقب ديمقراطية منتخبة، عكس كل أوجه القبح والشذوذ في الممارسة الديمقراطية، وأظهر أيضاً، عجزاً كاملاً داخل الأحزاب السياسية السودانية في تطبيق المعايير الديمقراطية. في بناء هياكلها التنظيمية والقيادية. ومن اسباب ودوافع الانقلابات حسب الخبير العسكري السوداني ضعف مؤسسات الدولة الحديثة ومؤسسات المجتمع المدني يأتي على رأس مؤسسات الدولة الحديثة النظام القضائي الثابت غير الخاضع لأي مؤثرات «مبدأ فصل السلطات»، والذي يتميز بقدرة الحفاظ على سريان وتطبيق الدستور والقوانين. يصاحب ذلك أجهزة قادرة على بسط هيبة القانون وتنفيذه بعدالة وحيدة تتمثل في أجهزة شرطة منزهة وبعيدة عن المؤثرات، وتتميز بالاستقرار والقدرة على التطور.

ويرصد «ابوغسان» أن تردي اقتصاد الدولة يعتبر مدخلا اساسيا للانقلابات العسكرية، ويقول ان ثبات ونماء الاقتصاد عامل مهم في استقرار الدول والأنظمة السياسية. تقاسمت معظم دول العالم الثالث حالات التردي الاقتصادي وتدهور المستوى المعيشي لشعوبها.. إن الشعب الفقير الجائع، تكون له مسائل السياسة والحرص على النظام الديمقراطي ترف لا يستميت للدفاع عنه. أما التدهور الاقتصادي وهبوط معدلات النماء وتدني مستوى معيشة الشعب، فيفتح الأبواب لتدخل المؤسسة العسكرية التي تخاطب الشعب في عواطفه. كما يعدد أن من الأسباب تفشي الفساد والجريمة وغياب القانون، وضعف الانصهار القومي للدولة، اختراق القوى السياسية للمؤسسة العسكرية، وضعف البناء القاعدي للمؤسسة العسكرية، والتدخل الأجنبي.

وفي شأن الدوافع يرى اللواء متقاعد حسب الله عمر المدير السابق للمخابرات السودانية ان الانقلابات العسكرية من مجموعة عساكر على نظام مدني تأتي دائماً للتعبير عن عدم رضاء المجموعة المخططة للانقلاب بالمعادلات والأوضاع السياسية، أي تعبير عن عدم رضا بالمعادلة التي تحكم اللعبة السياسية. أما انقلاب عسكريين على نظام عسكري دافعه بالإضافة الى تعبير عن عدم الرضاء بالدور، فإنه يأتي نتيجة للتنافس بين الأشخاص أو المجموعات المؤيدة أصلاً لمبدأ الانقلابات أو النظام العسكري السائد. ولكن عبد الله آدم خاطر، له رأي آخر حول الدوافع، فيقول ان نظام الدولة السودانية تشكل في عهد الإدارة البريطانية التي حكمت البلاد منذ قدومها حتى الاستقلال بالطوارئ، أي حكم بالقوة، أي ممارسات انقلابية، وعليه بعد الاستقلال وجد الناس أنفسهم بدون أرضية فكرية، ذات توجه تعددي ديمقراطي ولا ثقافة ديمقراطية، فاستمرت الأوضاع الشمولية سواء عبر العساكر أو الأحزاب، أو القبيلة أو العشيرة.. وحتى الآن نفتقد الى جذور النظام المدني. ومن هنا تأتي الانقلابات العسكرية على النظم المدنية، وتتوالى الى يومنا هذا.. حتى التنافس عندنا يتم في نطاق التخطيط الدقيق للانقلابات.. نفس القضية الانقلابية هي التي تحرك العساكر للانقلاب على زملائهم الحاكمين من نفس المؤسسة أو عبر انقلاب عسكري.

ويلفت خاطر الانتباه الى أن السودان الآن في آخر «الحالة الصفرية» للعمل بالطوارئ والشمولية وعقلية الانقلابات، وفقد استنفد هذا التوجه كل مراحله ودوره التقليدي، رغم عدم وجود الجذور للعمل المدني، إلا أنه يلاحظ أن هناك تنامي التوجهات الرامية لخدمة التداول السلمي للسلطة.. وسينتصر هذا التوجه الذي بدأ. ويجمع الخبراء على أنه من السهولة جدا، انقلاب مجموعة من العساكر على نظام مدني، ولكن من الصعب الانقلاب على نظام عسكري في السودان، ويقول أبوغسان في هذا الشأن «نعم من السهولة تحرك المؤسسات العسكرية لإسقاط الأنظمة الديمقراطية، حالة توفر العوامل الأساسية الدافعة والمناخ الملائم لتنفيذ ونجاح الانقلاب العسكري، كما أوردنا من قبل. أما الأنظمة الشمولية والعسكرية، فتقوم بوضع تدابير عسكرية وأمنية واسعة، لمنع الانقلاب العسكري، وفي الغالب توهم المؤسسة العسكرية بأنها تحكم باسمها رغم تضرر الجيش بصورة ملموسة، من تلك التدابير والتي تقود إلى تصفية الكوادر القيادية والمساس بالقدرات المهنية». ويتفق العسكريون مع «ابوغسان» بأن كل الأنظمة العسكرية تستمر في السلطة عبر التوظيف المتكامل لأجهزة الأمن، وعلى قدرات القوات المسلحة المختلفة، وعلى رأسها قدرة الردع والتصدي الحاسم عند المنعطفات الخطيرة التي قد تواجه النظام العسكري الحاكم. ويرى الخبير العسكري «ابوغسان» ان هناك عوامل فشل الانقلابات العسكرية عديدة، ولكن يأتي على رأسها تمكن الأجهزة الأمنية من اختراق المجموعة العاملة في التخطيط لانقلاب عسكري، ولتتوسع آليات الرصد والمراقبة حتى تأتي مرحلة تطويق المجموعة وإجهاض مخططها. ويحتدم الجدل حول ما اذا كانت هناك انقلابات مفتعلة لا اساس لها من الصحة ام لا، فهناك من يعتقد انه من السهولة نظرياً قيام النظام الحاكم القائم في أي بلاد بتلفيق انقلاب عسكري، ولكن عملياً واقع السودان الآن لا يشجع الحكومة الحالية للقيام بخطوة التلفيق، بل إنها ليست لديها مصلحة في التلفيق، ويساند هذا الرأي اللواء مقاعد حسب الله عمر الذي قال لـ«الشرق الأوسط» ان أوضاع السودان الآن غير مهيأة على الإطلاق لاستقبال انقلاب عسكري بالنظر الى العملية السياسية التي تسود في البلاد، مثل اتفاق نيفاشا واتفاقات دارفور واتفاق الشرق، وأضاف أن الحكومة الآن لديها قضايا أساسية مع المجتمع الدولي، تمضي الى الأمام وفي اتجاه مصالحها، كما أنه في ظل ظروف الحريات التي تسود البلاد، فإن الفبركة عمرها قصير جداً، لذلك لا أعتقد أن أي عاقل يلجأ الى تلفيق انقلاب عسكري في الوقت الحالي، ويعضد قوله الدكتور زين العابدين حين يقول لـ«الشرق الأوسط» ان الوضع في السودان الآن غير مواتٍ تماماً لأي انقلاب عسكري، هناك اتفاقيات مسنودة دولياً والتزامات لا يمكن أن يفي بها أي قادم جديد للسلطة عبر انقلاب عسكري». غير أن «ابوغسان» يرى ان دول العالم الثالث شهدت العديد من حالات افتعال محاولات انقلابات عسكرية أو مخططات تهدف للتخريب وزعزعة الأمن والاستقرار، وكانت في مجملها ترمي لتحقيق أهداف غير مباشرة، مثل تصفية مراكز قوى محددة، أو تحجيم حزب سياسي، أو تبرير تطبيق إجراءات أمنية صارمة تمس الحريات العامة للشعب والممارسة الديمقراطية، وقريب من ابوغسان يقول الناشط في مجال الحقوق المدنية والحريات عبد الله آدم خاطر، ان الأنظمة يمكن أن تفبرك انقلابات عسكرية، ونظام الإنقاذ يمكن أن يقدح بهذا العمل، لأنه أصلاً قائم على تجريم الآخر والاختصام معه، إنه شيء طبيعي أن يفبرك الأحداث تشويش عن الرأي العام وصرفهم عن قضايا أساسية تشغلهم. انقلابات سابقة: ويبقى التذكير بأن سيرة نصف قرن من الزمان منذ استقلال السودان (1956)، وحتى الآن ظلت المؤسسة العسكرية السودانية تتدخل في الصراع السياسي بصورة مباشرة، ويرصد الباحثون بأن طوال هذه الفترة جرت ثلاثة انقلابات عسكرية ناجحة، استولت فيها مجموعة من القوات المسلحة على السلطة، بينما جرت أكثر من خمس عشرة محاولة انقلابية، أجهضت بعد تحركها، أو تم تطويقها في طور التخطيط، وهناك العشرات من المحاولات التخريبية، نال نظام البشير النصيب الأوفر منها.

ويقول خبراء عسكريون ان تمرد مجموعة من الضابط والجنود الجنوبيين في جنوب السودان عام1955 ضد قياتهم من الضباط الشماليين، هو بمثابة البداية للانقلابات العسكرية في السودان «أي اول صدام مسلح بين عسكريين سودانيين في مؤسسة واحدة». لتنتعش الجرثومة من بعد في اوصال الحركة السياسية في السودان، وتوحي تلك الافكار لمجموعة من ضباط الجيش بقيادة الفريق ابراهيم عبود بانقلاب عسكري في 17 نوفمبر(تشرين الثاني) 1958 على أول نظام حكم تعددي ديمقراطي في البلاد بعد الاستقلال، وبعد عام حاولت مجموعة منهم تدبير انقلاب تصحيحي تحديدا في مارس (آذار) 1959 بقيادة العميد عبد الرحيم شنان والاميرلاي محي الدين احمد، تم احتواؤه، ولكن نفس المجموعة حاولت مرة اخرى في مايو (أذار) من ذات العام، ولكن هذه المرة تعامل معهم عبود بشيء من العنف، «مستفيدا من دروس المحاولة الاولى»، طبقا لـ«أبوغسان»، فقام بزج قادة الانقلاب في السجون بعد محاكمات عسكرية.

ويرصد في السياق انقلاب 25 مايو 1969 الذي تمخض عن النظام المايوي بقيادة الرئيس الأسبق جعفر نميري، ثم محاولة حركة 19 يوليو (تموز) 1971 التي أطاحت النظام المايوي، لأيام، ولكن حينما تدخلت «دول ميثاق طرابلس ـ مصر وليبيا» واجهضت الانقلاب المسنود من قبل عناصر في الحزب الشيوعي السوداني، والذي كان اصلا من المشاركين بشكل أو بآخر في انقلاب مايو، ويعتبر المحللون العسكريون ان انقلاب 19 يوليو الذي قاده الرائد هاشم العطا وآخرون هو اول انقلاب عسكري في البلاد، انتهى بيتدفق نهر من دماء قادته والمشاركين فيه، عبر اعدامات هي الأولى من نوعها في تاريح الحكم الوطني ما بعد الاستقلال. وفي سبتمبر (كانون الأول) 1975 وقع انقلاب قاده المقدم حسن حسين «لإطاحة نظام نميري، ولكنه فشل، واعدم زعيمه رميا بالرصاص، ثم قادت «حركة الجبهة الوطنية» تحالف المعارضة السودانية ضد نميري بقيادة محمد نور سعد، في يوليو 1976، ولكن المحاولة التي عرفت شعبيا بـ«محاولة المرتزقة» عملا بالتسمية الحكومية لها، او حركة محمد نور سعد، انتهت ببركة دماء.

ثم انقلاب الرئيس عمر البشير المسنود من الاسلاميين السودانيين «الجبهة الإسلامية» في يونيو (حزيران) 1989، المعروف بـ«ثورة الانقاذ»، وها هي تشهد سلسلة من المحاولات لقلبها، ولكن كل المحاولات باءت بالفشل، وآخرها «محاولة مبارك الفاضل»، وهي تبدو مطوقة بالتشكيك في اصل وجودها، من ناحية، وموصوفة، بأنها «فطيرة وبائسة»، من الناحية الأخرى.