مأساة أسرة

عائلة بدران.. شاهد على حرب الصيف: من بقي منهم يحسد الآخرين

عائلة بدران.. (من أعلى اليمين): زينب ووالدتها رقية وشقيقتها ليلى. في الوسط (من اليمين): حنين ومنال ومريم ثم علي وحسن (خاص بـ«الشرق الاوسط»)
TT

عندما اندلعت حرب يوليو (تموز) 2006 اخذت باسمة بدران اولادها حنين 16 عاما، ومنال 15 عاما، وعلي 13 عاما، وحسن 10 اعوام، الى بلدة مغدوشة المتاخمة لبلدتها «الغازية» في قضاء الزهراني من الجنوب اللبناني. استغرب بقية افراد العائلة هذه الخطوة، فالبلدة لم تستهدف سابقا بنيران الاسرائيليين ولم يفكر اي من سكانها بالنزوح. كانت طوال الحروب الماضية آمنة. حتى خلال الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 لم تستهدف. في حرب تموز لجأ اليها مهجرون من عمق الجنوب فاق عددهم عدد سكانها. بعد غياب يومين عادت باسمة والأولاد الى المنزل ليبقوا الى جانب الاب احمد والجد حسن والجدة رقية والعمتين زينب وليلى وابنتها مريم والعم علي وزوجته ماجدة واولادهما، وذلك في بيت بدأ غرفة واحدة ونما الى اربع طبقات كانت كفيلة بجمع شمل العائلة التي تزوج اولادها واختاروا البقاء في الحي العتيق.

حينذاك قالت منال لوالدتها: «لن اسامحك إذا متنا». كانت خائفة وتريد الهرب الى مكان آمن. فأجابتها: «اعدك بأن نغادر مع اول ضربة للبلدة». وحضرت الحقائب لتكون جاهزة اذا اقترب الخطر.

الخوف استولى ايضا على الصغير علي. كان يمسك يد عمته ويسألها اذا كان الاسرائيليون سيقصفون بيتهم؟. لا سيما بعدما عرف ان رفيقته في الصف، التي تقيم في قرية قريبة، قتلت خلال القصف الاسرائيلي. كان يلجأ الى الحمام ليبكي ويلجأ الى الباحة الخارجية ليلعب بالكرة فيهدأ قليلا.

لكن باسمة لم تستطع ان تفي بوعدها، فالضربة الاسرائيلية الاولى دكت المبنى الذي تسكن العائلة في طبقاته الاربع، وذلك صباح الاثنين في السابع من اغسطس (آب). هي طارت من غرفتها في الطابق الثاني الى بيت الجيران. اما اولادها حنين ومنال وعلي وحسن ووالدة زوجها رقية، 65 عاما، وشقيقتاه زينب 47 عاما، وليلى 51، وابنتها مريم 27 عاما، فقد قضوا تحت الانقاض. الجد حسن «البحري»، صائد السمك، خرج ذلك الصباح برفقة ابنه محمد، الذي يسكن في حي آخر، الى الفرن ليشتري «المناقيش» للاحفاد. كانت ابنته ليلى وحفيدته مريم خافتا من البقاء في منزلهما في «ساحة العين» والتجأتا الى منزله. ابنه علي وزوجته ماجدة واولادهما الخمسة كانوا قد غادروا قبل ثلاثة ايام الى بلدة شحيم في منطقة الشوف.

حسن «البحري» يلتزم الصمت منذ سنة. لا يتكلم الا اذا استدرجه احد من اولاده. عباراته مقتضبة غاضبة. قوته البدنية التي كانت تميز شيخوخته بدأت تنهار، وكأن حزنه يدمره شيئا فشيئا. لا يريد العودة الى الحي الصغير الذي كان الاقدم في القرية ويحوي آثارا عثمانية. فالبيت الجديد الذي بدأ بناؤه قبل اشهر لا يحمل دفء العمر الذي راح الى غير رجعة. حتى اليوم لم يستفق من الصدمة. لا يستوعب سقوط ثمانية شهداء من عائلة واحدة.. لا يستوعب المأساة التي توزعت على طبقات بيته ولم تكتف بإبادة جني عمره وعمر اولاده وانما ابادت «بركة البيت» الحاجة التي رحلت وتركته الى شيخوخة قاسية والاحفاد الذين صنفهم ربحا صافيا على اعتبار ان الابناء هم رأس المال.

علي ابن حسن بدران وافق بعد تردد على التحدث الينا عن مأساة العائلة. قال: «قبل ثلاثة ايام من الكارثة غادرت الغازية برفقة عائلتي بعد الحاح من ابنتي روان، 12 عاما، التي قالت لي: انت تريد ان تموت اما انا فلا اريد ذلك. عادة كنت اطنش ولا ألبي طلباتها. فقد كنت ارفض مغادرة بيتي. هذا الامر لم يكن واردا. كأن العناية الالهية ارغمتني على المغادرة. في صباح اليوم المشؤوم اتصل بي اخي محمد وابلغني ان الغازية استهدفت. لم يكن قد علم بالكارثة. مع انه اصيب ووالدي بجروح طفيفة حيث كانا. حضرت بسرعة لأوافيهما الى البيت. لكننا لم نجد من المبنى إلا الركام، فقد سويت الطبقات الاربع بالارض. اخذت احمد الى المستشفى. كان مصابا في رأسه وكانت زوجته باسمة شبه ميتة. نقلناها الى المستشفى متوقعين اعلان وفاتها. كنا نعتقد انها لن تنجو. ثم عدت الى الحي لاكتشف المصيبة التي تنتظرنا. احضرنا جرافة ورافعة وبدأنا العمل لرفع الركام. الجثة الاولى التي انتشلناها كانت جثة والدتي رقية البالغة 65 عاما. ثم انتشلنا جثث ليلى وابنتها مريم وشقيقتي زينب. أخيرا وصلنا الى جثث حنين ومنال وعلي وحسن. حفرنا تسعة قبور».

باسمة التي حفر قبرها وبلغ ضغط الدم في عروقها درجة الصفر عفّ عنها الموت. تحركت قليلا فاكتشفت الممرضة انها ليست جثة هامدة، اجريت لها الاسعافات ثم نقلتها الهيئة العليا للاغاثة من المستشفى في صيدا الى مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت لمزيد من المعالجة حيث تتوفر امكانات أكبر ومعدات متطورة. بقيت في قسم العناية الفائقة طوال شهرين. بعد ذلك نقلتها الهيئة الى ايطاليا حيث عولجت حروقها خلال شهرين آخرين لتعود بعدها الى لبنان».

من أخبر باسمة ان اولادها الاربعة قضوا في القصف؟ يجيب علي: «انا اخبرتها. عندما وقعت المصيبة. كان الجميع يبدلون ملابسهم السوداء بأخرى ملونة عندما يدخلون ليطمئنوا اليها في غرفة العناية الفائقة. وكانوا يرتبكون عندما تسألهم عن الاولاد، فيجيبون تارة بانهم في مستشفى آخر، وطورا بانهم بخير. انا قلت لها الحقيقة. كمية ادوية المسكنات التي اعطيت لها في المستشفى حالت دون ردة فعل بحجم المصيبة. كانت شبه مخدرة».

باسمة تعيش حاليا في الغازية، لكنها لا تقترب ابدا من الحي وكذلك زوجها احمد. هما في مطلع الاربعينات. باسمة كانت قد خضعت لعملية ربط انابيب للحد من الانجاب لانها كانت مكتفية بعائلتها. واليوم تسعى الى الحمل مرة جديدة عبر التلقيح. في المرحلة الاولى كانت تحت وطأة المها الجسدي بسبب الحروق والكسور التي اصابتها من الاستغراق في حزنها. بعد شفاء جسدها أغرقها الالم النفسي الذي لا يزال يتوالى فصولا.

لا تبحث باسمة عن النسيان. جل ما تسعى اليه هو الهرب من الفراغ القاتل الذي تعانيه. يقول علي: «عندما افكر بالكارثة التي حلت بعائلتنا اشعر بالضياع لولا ايماني بالله عز وجل. فحنين ومنال كانتا صبيتين جميلتين ومجتهدين في دروسهما. كان احد شباب البلدة مغرما بحنين ويريد ان يخطبها. واليوم يزور ضريحها ويزينه بالزهور. كان ابناء احمد نموذجا للتربية الصالحة والهدوء. وهو كان يعمل من اجل تأمين نشأة جيدة لهم. اليوم يرفض العودة الى العمل. لمن اعمل بعد اليوم؟ الذين كنت اعمل لاجلهم ذهبوا».

احيانا يشعر علي بشيء من الخجل لان عائلته نجت في حين خسر شقيقه جميع اولاده. غداة الكارثة اصطحب ولديه حسن وابراهيم الى مسيرة التشييع التي قصفها الطيران الاسرائيلي ووقع المزيد من الضحايا. قالت له زوجته ماجدة: «الا تخاف عليهما؟». أجابها: «ليسا افضل من الذين ماتوا». يعيش علي اليوم مع الاسئلة والحسرة. لا يستطيع ان يصدق ما حصل. ابنته روان قالت انها لا تنسى عمتها زينب التي كانت تنام الى جانبها، كذلك تفتقد حنان جدتها. اما الحسرة الكبيرة فشعرت بها عندما حل عيدا الفطر والاضحى. قالت: «لم يحضر العيد الى منزلنا». روان فتاة وحيدة بين اشقائها الاربعة. حنين ومنال كانتا شقيقتيها. معهما كانت تنتظر باص المدرسة ومعهما كانت تلعب. عندما ايقظها شقيقها واخبرها لم تصدق. لكن دموع والدها اخافتها. تأرجحت بين اليأس والامل عندما تضاربت المعلومات بشأن من مات ومن بقي. اليوم لا تخاف روان الحرب والموت. اصبحت تعرف ان من يموت شهيدا مثل جدتها وعماتها واولاد عمها يذهب الى الجنة. تقول ماجدة زوجة علي: «الله يساعد باسمة عندما تزورنا تحضن الاولاد وتبكي. تسألنا كيف الحي من دون الاولاد؟ كيف يلعب الذين لم يموتوا؟» وتضيف: «اشتاق لمن يناديني يا ماما. انيستها الوحيدة المقبرة حيث دفن اولادها. تمضي معظم اوقاتها هناك. تنتقل من ضريح الى آخر وتحدث ولدا تلو الآخر. تزورهم فجرا وبعد الظهر. تبكيهم وترثيهم. لا تريد العودة الى الحي تبحث عن منزل قرب المقبرة. شيء يقطع القلب كل يوم على هذه الحال».

علي تولى الاشراف على اعادة بناء المنزل. ماجدة تتفقد المكان من حين الى آخر، لكنها لا تشعر بالراحة. تدخل المبنى فتنظر خلفها. تشعر بوجود الذين رحلوا. تسمع اصواتهم. تقول: «كنا دائما معا. ننهي اعمالنا ونتناول القهوة او نبدأ نهارنا بفطور ثم ننتقل الى اعمالنا. سنعود الى منزل نخاف منه. التفت حولي لأفتش عن الذين رحلوا. اتخيلهم في كل زاوية. صورة المكان لا تكتمل من دونهم. لا يغادرون البال ابدا. الجارة ام حسين تقف كل صباح وتنادي حنين ومنال وعلي وحسين».

ماجدة تحلم بالغائبين تقريبا كل يوم. تقول: «يزوروني في المنام. يطلون سعداء مرتاحين على طبيعتهم عندما كانوا على قيد الحياة وليس كما كانوا عندما ماتوا». روان لا تحلم بهم. لكنهم يستولون على يقظتها. فقد اثرت المأساة على تركيزها في المدرسة. هذه السنة كانت صعبة. عدا الذين فقدتهم، قبل الحرب كانت تنتظر انتهاء بناء شقة جديدة، حيث خصصت لها غرفة طليت جدرانها باللون الزهري. عندما غادرت مع عائلتها، اخذت المفتاح معها. وهي تنتظر الانتهاء من بناء المنزل الجديد لتستعيد الغرفة. لكن الذين رحلوا لا يمكن استعادتهم.

شقيق روان حبيب يفضل العودة الى الحي حيث من تبقى من العائلة. قال لأمه: «اليوم وجدت في الحي ولدا لا يزال على قيد الحياة ولعبت معه». لا تجف دموع شقيقة علي جميلة. كانت والدتها توصيها بأن تحافظ على حجابها حتى عندما تنام. كانت تقول: «لا نريد ان يفضحنا الموت». وبالفعل عندما انتشلت جثة الام كانت محجبة ترتدي عباءة فوق ثوب النوم. اثنين القصف لا تنساه جميلة. قرابة الثامنة صباحا سمعت القصف. لم تعرف مكانه وانتابها شعور غريب. حاولت الاتصال بأهلها. لكن لا جواب. حتى دخلت ابنة الجيران واخبرت الجميع بعفوية ان القصف دك بيت عائلة بدران. اغمي عليها. حاولت بعد ذلك الذهاب الى الحي. منعها زوجها خوفا عليها من الصدمة. طبقات الحزن لدى عائلة بدران تشابه طبقات المنزل الذي سقط على رؤوس قاطنيه. وحكاياته لا تنتهي. ليلى احدى هذه الحكايات. تقول جميلة: «مسكينة ليلى فحياتها مأساة. توفي زوجها ولم تكن قد تجاوزت العشرين، وذلك خلال الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 عندما قصفت مدينة صيدا. تركها ارملة وأما لطفلتين: مريم كانت في الثانية وأمل التي كانت قد ولدت قبل اربعين يوما. عادت الى الغازية وعملت في مشغل للخياطة لتربي ابنتيها. تزوجت الصغيرة وبقيت الكبيرة تنتظر نصيبها وتعمل في صالون للتزيين. خافت ان يستهدف القصف منزلها الواقع فوق مكتب للسيد محمد حسن فضل الله ولجأت الى منزل والدها. لم تستجب لتوسلات أمل بأن تغادر وتقيم عندها في صيدا. كانت تسير الى حتفها». عام مضى على مأساة عائلة بدران. تفرق شملها ولم تعد تجتمع الا لاستحضار الذكريات المؤلمة. احمد يحسد جاره كاظم خليفة الذي رحمه القدر فمات مع زوجته واولاده ولم يحمل الحسرة التي تحرق قلبه. اما باسمة فتخاف ان يحتل القبر الذي فتح لاستقبال جثتها ميت آخر. توصي الجميع بأن يحفظوا لها قبرها. تقسم انها لن تسامحهم اذا دفنوها بعيدا عن اولادها تماما كما لم تسامحها منال عندما طلبت اليها ان تأخذها بعيدا.