قندهار .. تخلع عمامتها

من عمائم سوداء الى مطاعم الوجبات السريعة والحديث بالإنجليزية

جنديات بريطانيات من فرقة الدعم اللوجستي في افغانستان («الشرق الاوسط»)
TT

* أمور كثيرة تغيرت في أفغانستان منذ إطاحة نظام حركة طالبان في نهاية العام 2001.

* قامت حكومة جديدة.

* تم إعلان أول رئيس منتخب شعبيا.

* أنشئ مجلسان لأعيان البلاد «لويا جيركا».

* بدأت عملية إعادة بناء الجيش الوطني الافغاني «ANA»، تحت اشراف البريطانيين بعد سنوات من الاقتتال بين صفوف المجاهدين الافغان وصراع «أمراء الحرب». لكن كل هذه التغيرات تبدو مهددة اليوم اذا استمرت وتيرة تصاعد عمليات حركة طالبان في ولايات الجنوب، وتنظيمها سلسلة من العمليات الانتحارية، تستهدف قوات الامن والمساعدة الدولية «إيساف»، التي وصلت أخيراً الى العاصمة كابل.

وتشهد قندهار إحدى اكبر المدن الافغانية، والتي كانت الحصن الحصين لزعيم طالبان الملا عمر، حركة تغييرات أخرى، تبدو فيها وكانها «تخلع عمامتها» القديمة وتستبدلها بأخرى جديدة، في اتجاه النمط العصري لمدن اليوم. فالمدينة التي قسمت العالم الى معسكرين واحد للايمان واخر للكفر، تشهد حركة نشطة، ومطارها لا يتوقف عن العمل ليل نهار، اقلاعا وهبوطا، وظهرت مطاعم «الفاست فود»، و«التيك اوى»، وامتلأت شوارعها بآلاف الاوروبيين من الجنود وغيرهم، وصارت لغة التخاطب في جانب منها هي «الانجليزية».

وصلت الى قندهار بعد متنصف الليل قبل اسبوعين، على متن طائرة عسكرية تابعة للخطوط الجوية الملكية البريطانية بعد رحلة مرهقة، بدأت من قاعدة برايز نورتون ودامت نحو 10 ساعات. حطت طائرة «الترايستار» في مطار قندهار الذي كان أشبه بثكنة عسكرية غربية، وكانت التعليمات تقضي قبل الهبوط بارتداء الخوذة والدرع الواقي من الرصاص وربطه باحكام حول الصدر، والذي يزن اكثر من 10 كيلوغرامات. لم يكن «الاستقبال» عادياً كان علي ارتداء سترة الرصاص والخوذة وانا في طريقي الى عنبر خاص لاستقبال الجنود الجدد على اطراف مطار قندهار، وكان في استقبالي المسؤول الاعلامي الملازم مارك، الذي نقلني مع صحافيين بريطانيين الى عنبر كبير للنوم يسع اكثر من 300 سرير بدورين، لقضاء الليلة قبل الانتقال بطائرة شينوك عسكرية في الصباح الباكر الى قاعدة باستين العسكرية وسط صحراء هلمند حيث يوجد الجزء الاكبر من طليعة القوات البريطانية.

وفي الطريق كان مارك لا يتوقف عن اعطاء الـ«بريفنغ» او الملاحظات التي يجب على الصحافيين الالتزام بها وعدم تخطيها، مثل الارتماء على الارض عند سماع طلقات الرصاص وارتداء الخوذة والصديرية الواقية داخل طائرات الهليكوبتر وعدم الحديث الى الاهل او الزملاء عبر الجوال وعدم اعطاء بيانات عن مكان تواجد الصحافيين خوفا من عمليات رصد من قبل طالبان. وسالته ان كانت طالبان لديها تكنولوجيا تتيح لها عمليات الرقابة والرصد لمكالمات الجوال فاجاب انهم على قناعة بان «لديهم تلك التقنيات».

وقندهار تحولت الى قلعة حصينة تحيط بها سواتر ترابية وحواجز من الاسمنت المسلح واسوار خراسانية لا تنتهي وهناك نحو 12 الف جندي يعيشون هنا هم جزء من القوة الدولية «آيساف» المكلفة حفظ الأمن في افغانستان، ومساعدة الحكومة المركزية على الوقوف على قدميها بعد عقود من حروب المجاهدين. على المدرج الرئيسي للمطار في الصباح الباكر قبل ان انتقل الى قاعدة باستين العسكرية بوسط صحراء هلمند على طائرة شينوك، شاهدت العشرات من الطائرات الحربية من كل نوع تحوم وتقلع وتهبط من طائرات النقل السريع طراز سي 130 وسي 17، وطائرات هليكوبتر من طراز شينوك للنقل ذات المروحتين، وأباتشي المزودة بالصواريخ، وطائرات هارير البريطانية، واف 15، و16 الاميركيتين، والهدف الرئيسي هو التخلص من بقايا حركة طالبان الاصولية، او المتمردين كما تطلق عليهم قيادة قوات التحالف. 6 سنوات مرت منذ سقوط الحركة الاصولية التي كانت تتخذ من قندهار مقرا لها، حيث كان يقيم الملا محمد عمر في ضواحي قندهار، واسامة بن لادن زعيم «القاعدة» أخطر المطلوبين ارهابيا على مقربة منه، والحال كما هو عليه في جانب كبير من قندهار، فما زال عنصر البشتون الموالي لطالبان هم مصدر القلاقل والاضطرابات والمتاعب لقوات التحالف، واذا سألت عناصر البشتون عن مترجمين وطباخين ومساعدين داخل معسكرات التحالف تجد ان قلوب اغلبهم، مع طالبان وعيونهم على المستقبل خوفا من تعرضهم للانتقام لأنهم يعملون مع العدو. وداخل العنابر السكنية للجنود البريطانيين في معسكرات باستين وقندهار ولشكرجاه الذين يخرجون الى الشوارع والاحياء السكنية في الجنوب الافغاني استمعت «الشرق الاوسط» الى اكثر من شهادة حية، على شجاعة عناصر حركة طالبان. وقال ضابط كبير رفض ان يكشف عن هويته: «ما ينقصهم هو التكتيك العسكري، لان خططهم بدائية، لكنهم يتميزون بشجاعة وإقدام وثبات عند المواجهة، ولا يريدون الفرار انهم يريدون الموت». ويقع مطار قندهار، أكبر مطارات أفغانستان، جنوب شرقي المدينة، على الطريق المؤدي الى بولدك، الذي يشكل جزءا من طريق طهران ـ نيودلهي الدولي، وقد اتخذته القوات الأميركية مقرا لها منذ سقوط حكومة طالبان. وكان المطار يشكل رمز قوة حكومة طالبان، وسمحت فيما سبق لتنظيم القاعدة أن يتخذه مركزا رئيسيا له بأفغانستان.

يقول القندهاريون إن أسامة بن لادن وعددا من كبار قادة التنظيم كانوا يسكنون فيه، وأنشأوا به مراكز للتربية الفكرية والعسكرية. لكن الآن لم يعد مسموحا لأحد من الأفغان أن يدخله حتى ولو كان من كبار موظفي الحكومة الانتقالية إلا بعد موافقة قيادة القوات الأميركية، وإجراء تفتيش دقيق على الزوار، واتخاذ إجراءات أمنية مشددة أثناء الزيارة. وعندما قابلت الصحافي الباكستاني حامد مير في العاصمة اسلام اباد قبل شهرين، وهو الصحافي الوحيد الذي التقى بن لادن بعد هجمات سبتمبر، ذكر لي ان الافغان العرب كانوا يستقبلون طائرات اباتشي المزودة بالصواريخ الهجومية بصدورهم داخل مطار قندهار طمعا في الشهادة ولقاء الحور العين». وما زالت واجهة مطار قندهار الدولي او «هوائي مللي قندهار» الذي غادرته قبل ستة شهور من هجمات سبتمبر، في يوم صيف حار الى مدينة بيشاور الحدودية، في طائرة الصليب الاحمر الدولي، كما هو مدهونا باللون الازرق. وكان المطار وقتها خاويا على عروشه، بالكاد ترى موظفا او موظفين، وبحثت طويلا يومها عن موظف الهجرة والجوازات الذي عينته حركة طالبان ليختم جواز سفري بتأشيرة خروج، ووجدته نائما في مسجد المطار، وهو شاب طالباني كان في العشرينات من العمر، قصير القامة، ذا لحية يبلغ طولها نحو اربع قبضات (16 سنتيميتر)، وعندما علم انني مسلم، ظهرت على وجهه ملامح الغضب واحمرت عيناه، لانني ساغادر بلاده على طائرة الكفار». قندهار كانت وقتها من مشرقها الى مغربها تلفها العمامات السود واللحى السوداء او التي خطها المشيب، وكان العالم مقسما عندهم الى معسكرين، واحد للايمان واخر للكفر، وعندما اصطحبت المترجم الطالباني الذي كان يجيد العربية الى مقر الصليب الاحمر لحجز مقعد لي على الطائرة المغادرة الى بيشاور رفض ان يدخل معي وبقي واقفا تحت الشمس خارج بوابة الصليب الاحمر الدولي، لانها على حد قوله «ارض الكفار».

وكانت التعليمات تصدر من مقر حكم الملا عمر بالطاعة العمياء في ما يتعلق باطلاق اللحى والالتزام بالتعاليم الاسلامية، ومخالفته تعني اقامة الحدود، اي السجن والتأديب، الذي دخلته ايضا ابحث عن المخالفين بتوصية خاصة من الملا محمد رحماني محافظ قندهار وهو من المقربين من الملا عمر، ومن قادة المجاهدين الافغان الاوائل، وكان يعرف باسم «صائد الدبابات»، لقدرته على استخدام «الآر بي جي» في مواجهة مدرعات الروس، وهو برجل واحدة واخرى خشبية. وفي السجن العمومي في قندهار او «دار الاصلاح والتهذيب» ايام الملا عمر شاهدت شبانا في عمر الزهور يقضون عقوبة الحبس لانهم ضبطوا بالجرم المشهود، أي حليقي الذقون، واخرون ضبطوا وهم يستمعون الى موسيقى افغانية وباكستانية عبر المذياع على الموجات القصيرة». اما اليوم فيلاحظ كبر حجم المطار بالتعديلات والتجديدات والإضافات التي طرأت عليه عما كان عليه في عهد طالبان، وكانت تهبط فيه وتقلع منه في كل ساعة طائرة عسكرية غربية تابعة لقوات التحالف، بعضها يأتي بالأسلحة أو المواد اللوجستية للقوات، أو ينقل ما تحتاجه القوات البريطانية او الاميركية في مناطق أخرى من أفغانستان من الأسلحة والذخائر والإمدادات، كما أن طائرة أو طائرتين تتواجدان باستمرار على مدرج المطار للحالات الطارئة. وفي عهد طالبان لم يكن يهبط في المطار بصورة منتظمة سوى طائرة ركاب صغيرة مرتين او ثلاث اسبوعيا تابعة للصليب الاحمر الدولي.

وعلى مدرج المطار اليوم هناك عشرات من المروحيات طراز «كوبرا» و«شينوك»، وكذلك الكثير من طائرات النقل الأميركية العملاقة، وكنا نشاهد المئات من الآليات العسكرية؛ عشرات الدبابات والمصفحات، وعشرات المدافع بدت في حالة التأهب الدائم تحت الخيام ذات اللون الترابي، وبشكل عام فإن المطار، أو بالأحرى القاعدة الأميركية، مكدسة بالأسلحة والمواد اللوجستية.

ولم تكن الهليكوبتر من طراز كوبرا في حالة سكون فقط فوق مرابضها، ولكن كان يحلق بعض منها فوق المطار وأطرافه كل نصف ساعة، كما أن دورية من الدبابات والمصفحات تدور حول المطار باستمرار. وداخل القاعدة العسكرية في قندهار هناك اليوم ممشى خشبي board walk مساحته تبلغ عدة افدنة وعلى جوانبه مطاعم للبرغر و«البيتزاهت» ومقاه تقدم الكابشينو والاكسبريسو والايس كاب، اي القهوة المثلجة ساعة العصاري. وداخل الممشى تلعب المجندات الكرة الخماسية وكرة اليد، وعلى طول الممشى تجد الحسناوات الغربيات بشورتات ساخنة، وتحت ابطهن تتدلى الطبنجات سلاحهن الشخصي. وداخل الممشى ايضا بائع افغاني يبيع السجاد والحلي والباشمينا والمفارش المطرزة باسعار غير متهاودة ولا يقبل النقاش او الفصال، حتى عندما قلت له اني مسلم وموحد بالله مثله. وداخل القاعدة العسكرية توجد ايضا مقاه للانترنت قليلة ومسجد وكنيسة وسوبر ماركت صغير يوفر ما يحتاجه الجنود من مسائل حياتية يومية مثل ادوات الحلاقة وفوط واوراق واقلام واقراص الكومبيوتر «دي في دي» الموسيقية وانواع الشراب غير الكحولية.

اليوم يعيش في القاعدة العسكرية في قندهار 12 الف جندي وضابط في عمر الزهور ايضا، وحركة الطائرات لا تتوقف ليل نهار، اقلاعا وهبوطا تنقل جنودا وجنديات من قندهار الى بيستون الى سنجار الى هلمند الى «سوتر كامب» في كابل الى معسكر القيادة البريطانية في لشكر جاه، بريطانيون وكنديون واميركيون ودنماركيون وسلوفاكيون واستونيون واردنيون والقيادة للاميركيين في قندهار ولغة التواصل اليومية المستخدمة هي الانجليزية. ومطاعم الجنود عامرة باطايب المأكولات الطازجة من جمبري واسماك ولحوم الابقار والضأن وخضروات بانواعها المختلفة، تجيء على طائرات النقل العسكرية العملاقة، من اوروبا الغربية. حتى الحلويات من الدونات والجاتويات وسلطة الفواكه والبطيخ والشمام وانواع الجبن كانت حاضرة على موائد العسكريين. وزودت عنابر النوم المكيفة في معسكرات باستين ولشكرجاه وقندهار باسرة بدورين، والحمامات وان كانت بعيدة قليلا عن عنابر النوم، الا انها مكيفة الهواء ايضا، والهدف هو توفير سبل الراحة للجنود لتأدية المهام القتالية التي جاءوا من اجلها ضمن استراتيجية قوات التحالف. بعض الجنود الذين التقتهم «الشرق الاوسط» في عنابر النوم او صالات الطعام في قندهار لم يخرج الى الشوارع منذ مجيئه قبل ثلاثة شهور، لان هناك خطورة من الخطف او العمليات الانتحارية التي تعتبر «بعبعا» لقوات التحالف في الجنوب الافغاني. ورغم وجود السيارات المدرعة العملاقة من طراز هاميست وفايكنج التي تستخدمها قوات «ايساف»، إلا ان الانتحاريين هم موطن خطر قاتل، لا يعرف احد مصدره، الا بعد وقوعه. وهناك تعليمات بلغة البشتو والداري تحذر من الاقتراب من سيارات التحالف، والابتعاد 100 متر عن قوافل القوات الدولية، بالاضافة الى اعلانات تبث عبر المذياع باللغات المحلية تدعو المواطنين الى الابتعاد بمسافة معقولة عن سيارات قوات التحالف الدولية.

ولا تنتهي الدوريات التي تقوم بها قوات التحالف انطلاقا من المطار، حيث تخرج يوميا دوريات عسكرية عبارة عن ثلاث سيارات مصفحة من طراز هامفيست او فايكنج ذات مدافع هاون ومزودة برشاشات ثقيلة، الى شوارع واحياء قندهار وسانجين وهلمند، وتكون على اتصال مباشر باللاسلكي بالقيادة العسكرية للابلاغ عن اي متاعب على الطريق.