صراع الثقافة

«زيجين تشينغ» أو المدينة المحرمة في الصين.. أغلقت أسوارها أمام تيار الحضارة الحديثة للحفاظ على تاريخها

زوار يجلسون امام مقهى ستاربكس الاميركي الذي تم اغلاقه في المدينة المحرمة بالصين (أ.ب)
TT

في الشهر الماضي أغلقت اكبر سلسلة مقاه في العالم محلاتها في المدينة المحرمة بالصين، تحت ضغط محلي من ان الماركة الأميركية تدوس على الثقافة الصينية. وكانت سلسلة المقاهي الأميركية «ستاربكس» تعمل منذ عام 2000 في المدينة المحرمة في الصين. وقد بدأ الأمر عندما طرح صحافي في عرض بتلفزيون تديره الدولة أسئلة حول كيفية تمكن «رمز ثقافة الطعام الأميركية الهابطة» من ان يجد طريقه الى مباني القصر الامبراطوري السابق. وقد اعقبت ذلك حملة مكثفة على شبكة الانترنت، واحتجاجات من جانب الصينيين الذين طالبوا بإغلاق المقهى. وأثارت القضية اهتماما بين الناس في مختلف انحاء العالم حول «المدينة المحرمة».

وهنا محاولة لفتح أبواب المدينة المحرمة بتاريخها البالغ 500 عام، ومسعى لتحليل سبب شعور الصينيين بان المقاهي الأميركية تؤثر سلبا على الثقافة الصينية. فتاريخ بكين الحديث يدور حول اسرار المدينة المحرمة في الصين والتي حصلت على اسمها وهو «زيجين تشينغ» بسبب أن الناس العاديين لم يكن يسمح لهم بالدخول اليها.

وكانت هذه المدينة، التي تعتبر واحدة من أهم الاثار التاريخية والثقافية المتبقية من الامبراطورية الصينية السابقة، مركز السلطة بالنسبة لأربعة وعشرين من الأباطرة خلال سلالات «منغ وكنغ» الوسطى والأخيرة. وكان آخر امبراطور يحكم الصين خوانتونغ، الذي ارغم على التخلي عن العرش عام 1911. وقد ارّخ لحياته فيلم برناردو برتولوتشي الحائز جائزة اكاديمية. وقد جرى تصوير فيلم (الامبراطور الأخير) داخل المدينة. وهذا المكان الذي أعيدت تسميته رسميا في الوقت الحالي ليكون «متحف القصر» هو القصر الأكبر في العالم. ويبلغ طوله 960 مترا من الشمال الى الجنوب و750 مترا في العرض من الشرق الى الغرب. وفيه 9900 غرفة تحت سقف تبلغ مساحته 150 ألف متر مربع. وهو محاط بنهر يحمي المدينة المحرمة وجدار من الآجر الأحمر يبلغ ارتفاعه 10 اقدام. وهناك أربعة مداخل الى المدينة وهي بوابة ميريديان الى الجنوب، وبوابة شينوو الى الشمال، وبوابة سينهوا الى الغرب، وبوابة دونهوا الى الشرق. وفي الواقع فان المدينة المحرمة مسجلة لدى اليونسكو باعتبارها التشكيلة الكبرى من البنى الخشبية القديمة في العالم، واعتبرت من المواقع التراثية في العالم عام 1987. ويجتذب معمارها الفريد في نوعه ما يقرب من 8 ملايين سائح من مختلف انحاء العالم. وفي عشية الألعاب الأولمبية التي تبدأ العام المقبل، تجري تجديدات كبيرة في المدينة المحرمة.

وقد بدأ مبنى المدينة المحرمة عام 1407. وهناك 230 ألف فنان ومليون عامل عملوا في البناء. وشحنت مواد البناء من أجزاء اخرى من الصين على بعد آلاف الأميال. وتلك المواد المميزة جعلت من الجدار قويا على نحو استثنائي، وقيل ان آبارا حفرت على امتداد الطريق من أجل توفير الماء للطريق في الشتاء من أجل نقل الصخور الكبيرة على الجليد الى المدينة. ويقال، في سياق كون القصر مليئا بالأسرار والكنوز والأشياء المثيرة للفضول، انه في أواخر القرن الثامن عشر كان هناك ما يقرب من 9 آلاف شخص عاشوا داخل المدينة المحرمة، وهم من العائلة المالكة والحراس والخدم والموظفين. وتشير الأسطورة الى أن بنية المدينة المحرمة نشأت في حلم لراهب حالم كان معلما ليونغلو. وتصور الراهب مدينة محصنة حيث الرب اقام في مكان منعزل ارجواني. ووفقا للكوزمولوجيا الصينية فان اللون الارجواني هو لون البهجة والسعادة، وكذلك لون نجم القطب وهو النجم الهادي. ولا يمكن لأحد غير الامبراطور ان يستخدم اللون الأرجواني، لون الجدران، ولون الحبر الذي يوقع به الامبراطور اسمه. وهناك قواعد وضوابط وضعت للمدينة. وقد نظمت الحياة القضائية على نحو صارم في بروتوكولات ومراسيم احتفالية، وهي قواعد تفصيلية. وبعض الممرات تقتصر على نخبة معينة من الناس، وهناك عقوبات قاسية لمن ينسى ذلك.

ومن أجل ضمان نقاوة دم الامبراطور يقضي التقليد بإخصاء الخدم، وهو ما بدأ منذ ما يزيد على الفي عام.

وباعتباره سيد التقويم السنوي كان الامبراطور مسؤولا عن تقرير مواعيد الزراعة والحصاد، المهمة جدا بالنسبة للصين، ولهذا فان تعاقب الأباطرة يعتمد على معرفة مجموعة من الباحثين الغربيين بالفلك، وهم باحثون لا يسمح لهم بممارسة الدين ولكنهم يتمتعون بالاحترام بسبب معارفهم. ومن بعض جوانب الحياة الغامضة لحياة الاباطرة انه كان من حقهم الزواج من عدة زوجات ومحظيات، وهن نساء متعلمات تم اختيارهن من افضل الاسر. وفي المساء يقرر الملك مَن مِن المحظيات ستزوره تلك الليلة. ويجرى عندئذ تحميمها قبل حملها الى غرفته. وعدد المرات التي يجري فيها اختيار المحظية يضمن وضعها الاجتماعي.

واعتمادا على وضعها، تتناول كل محظية طعامها من اطباق وأكواب ذات الوان معنية. ولا يحق إلا للامبراطور والأمبراطورة استخدام اطباق ذهبية او صفراء من البورسلين. وتوجد اكثر من 3 الاف قطعة من الذهب والفضة في مطابخ الامبراطور كينغ خلال القرن الثامن العشر. وعادة ما كان يحتفظ باسم خليفة الامبراطور سرا حتى وفاته، عندما كانت تعلن بالكشف عن وثيقة يحتفظ بها الامبراطور مع وثائق اخرى في صندوق مغلق. وكان على الوزراء والمسؤولين الركوع قبل ابلاغ الامبراطور بأي شيء.

ويقال ان الامبراطور كان يتناول طعامه وحيدا في الجزء الخاص به في القصر. ولضمان عدم تسمم طعام الامبراطور، كان خصي يتذوق من كل طبق ويتأكد من ان قطعة صغيرة من الفضة موجودة في كل طبق لم يتغير لونها. ولم يكن يسمح لأحد بتناول طعامه مع الامبراطور الا اذا وجهت اليه دعوة محددة، وكانت الامبراطورة والمحظيات يتناولن طعامهن في الاماكن الخاصة بهن. وكانت بقايا طعام الامبراطور تقدم الى المحظيات والى المسؤولين في البلاط.

وكان الامبراطور يقضي بعضا من وقته مع المحظية المختارة التي تستدعى الى غرفته. وبما انه لم يكن يسمح لها بقضاء الليلة كلها في سرير الامبراطور، ولا العودة الى شقتها الخاصة، كانت تقضي بقية الليلة في واحدة من الغرف الجانبية. وتواجه المدينة المحرمة، مثل معظم المباني الصينية الاخرى، الجنوب. ويوجد بها بلاطان، البلاط الداخلي والبلاط الخارجي، ويفصل بينهما الخط الوسط بين الجنوب والشمال. وكل جانب من جوانب المدينة المحرمة يحمل اسما، وتحمل كل قاعة رمزا قديما، وكل ركن وشق يحمل بعض المعاني السرية والاجراءات، يجب على الشخص اطاعتها طوال وجوده. وكانت القاعات الثلاث في القصر الامامي تستخدم في الاحتفالات المهمة مثل التتويج وعيد ميلاد الملك، واطلاق الحملات العسكرية. وهي تشمل قاعة التناغم الاعلى، وهي اضخم القاعات وتحمل افضل الديكورات، مخصصة للامبراطور ومحظياته واسرته. وكانت تزينها مخلوقات اسطورية على امل حمايتها للامبراطور من عوامل الشر. ثم قاعة الحفاظ على التناغم، فهي قاعة الاحتفالات حيث كان الاباطرة يستقبلون السفراء الاجانب والشخصيات العامة وكبار العلماء. وفي قاعة النقاء السماوي كان الامبراطور وكبار الموظفين يلتقون لمناقش امور الدولة.

وكان البلاط الداخلي منطقة الاقامة للامبراطور والاسرة الامبراطورية، بالاضافة الى كونه المكان الذي كان يتعامل فيه الامبراطور في امور الدولة الروتينية. وهناك العديد من البوابات تؤدي الى المدينة المحرمة. وكل شخص يدخل المدينة المحرمة عليه مراقبة اجراءات متشددة تتعلق بإستخدام تلك البوابات.

فمدخل خط المسمت الهائل الذي يعلو على كل المباني في المدينة المحرمة كان في غاية الاهمية، فقد كان الامبراطور يصدر النتيجة الشمسية منه وكان يستقبل الاسرى بعد الحروب. وكان يحكم على عديد من الاشخاص بالإعدام داخل حوائطه. او مدخل التناغم الاعلى الذي كان مدخل الامبراطور. وفي مناسبات نادرة كان الامبراطور او الفائز في الاختبارات الامبريالية يسمح له بالمرور عبر القاعة المركزية. او مدخل النقاء السماوي فهو يعتبر المكان المقدس والمرور عبره يجب ان يكون على الاقدام. والد الامبراطور فقط هو الذي كان يسمح بحمله عبر المدخل بسبب كبر سنه. ومن مدخل النقاء السماوي كانت تعلن العديد من البيانات. وفي الوقت التي كانت تبذل فيه العديد من الجهود لمنع تحويل المدينة المحرمة الى عمل تجاري مثل محلات الهدايا والصور، فإن تلك النشاطات التجارية تثير الجدل كما هو الامر في حالة «ستاربكس». كما لفتت الصحف الصينية الانتباه الى محلين للهدايا رفضا السماح بدخول المواطنين الصينيين في عام 2006.