«الإنتربول»: أزمة هوية

تشترك فيه 186 دولة وينسق عمليات التحقيق والاعتقال.. والدول الكبرى لا تثق به

TT

قبل ايام أصدرت الشرطة الدولية (الانتربول) مذكرة تحر ضد رغد ابنة الرئيس العراقي السابق صدام حسين المقيمة في الاردن، للتقصي في اتهامات الحكومة العراقية لها بدعم الارهاب، ولكن الاردن رد بأن تسليمها غير وارد حاليا.

وفي بداية هذا الشهر، اتهمت صحيفة «صنداي تلغراف» البريطانية «الانتربول» بأنه يعرقل اجراءات الحكومة البريطانية لمراقبة الاجانب عند دخولهم بريطانيا. وقالت ان «الانتربول» يجب ان يساعد في الحرب ضد الارهاب والارهابيين، لا ان يعرقلها. لم تقل الصحيفة ان «الانتربول» يساعد الارهابيين، لكن يبدو انها ارادت ان تقول ذلك، ليس اقتناعا، ولكن غضبا. وبين هذا وذاك، يبدو «الانتربول» وهو اكبر جهاز شرطة في العالم، كأنه عاجز عن القيام بواجبه او متقاعس، رغم محاولاته الدائمة في اثبات وجوده. والمشكلة التي يواجهها هي ان البعض يريد ان يسيس القضايا التي يتدخل فيها، لكن هذا الجهاز يتمسك بمهنيته فقط.

رونالد نوبل، امين عام «الانتربول»، قال، في مقابلة مع الصحيفة البريطانية نفسها، ان المسؤولين في قسم الجوازات في بريطانيا وأميركا، ودول غربية اخرى، لا يعتمدون على قوائم وضعها «الانتربول»، التي تحتوي على اسماء الذين تجب مراقبتهم، موضحا ان ذلك افضل من الشك في كل اجنبي وجمع معلومات عنه والتحقيق المكثف معه، لكن الصحيفة وضعت عناوين مثيرة للمقابلة التي أجريت معه، وكأن نوبل يؤيد الارهاب.  وفي اليوم التالي، ارسل نوبل خطابا غاضبا الى الصحيفة قال فيه: «والدي أجنبي مهاجر. ولهذا، اصبت بخيبة أمل بسبب هذه الهستيريا». واضاف: «بسبب عدد قليل من مهاجرين اجانب يعملون في مهن طبية، وشك المسؤولين في انهم ارهابيون، ظهر خوف من كل اجنبي مهاجر، ومن كل طبيب اجنبي». واضاف: «لا اريد صلة بين هذه الهستيريا وبين نفسي و«الانتربول». وكرر أن «الحرب ضد منظمة القاعدة، وكل من له صلة بها، وكل من يقلدها. وليست الحرب ضد الاطباء الاجانب».

و«الانتربول» وهو اختصار لعبارة: منظمة الشرطة الجنائية العالمية، تأسس عام 1923، وتشترك فيه 186 دولة، وينسق عمليات التحقيق والاعتقال وتبادل المجرمين، ومنع وقوع الجرائم، وله دستور يعتمد على إعلان حقوق الانسان الذي تبنته الامم المتحدة، ويمنع اي ميول سياسية وعسكرية ودينية وعرقية.   وتديره جمعية عمومية تمثل الدول الاعضاء، وتجتمع مرة كل سنة، ولجنة تنفيذية من 13 عضوا تنتخبهم الجمعية العمومية، وامين عام ومقره ومساعدوه ومستشاروه في ليون، في فرنسا.

وظل الاميركي رونالد نوبل، الذي يحمل دكتوراه في القانون من جامعة ستانفورد، أمينه العام منذ عام 2000، وقبل سنتين، جددت فترته لخمس سنوات اخرى، فهو ليس شرطيا بالمهنة، لكنه عمل في وزارة العدل، ثم مسؤولا عن الشرطة السرية في وزارة الخزانة، ثم استاذ قانون في جامعة نيويورك.

أساس المشكلة بين «الانتربول» والبريطانيين والاميركيين وغيرهم هو ان «الانتربول» بسبب دستوره يتجنب اي ميول سياسية وعسكرية ودينية وعرقية. ولهذا، يعتمد على عدد من الخطوات في الحرب ضد الارهاب: منها اولا: يعلن «داتابيس» (قائمة) لجوازات السفر المفقودة والمسروقة، ويقدمها لقسم الجوازات في كل دولة لاعتقال الذين يحملونها. ثانيا: يصدر «ريد نوتس» (بلاغا احمر) عن اشخاص تبحث عنهم شرطة دولة معينة، لاعتقالهم ومحاكمتهم. ثالثا: يصدر «بلو نوتس» (بلاغ ازرق) عن اشخاص تشك شرطة دولة معينة في انهم ربما خالفوا القانون، وتريد معلومات اضافية عنهم. رابعا: يصدر «اورنج نوتس» (بلاغا برتقاليا) عن اسلحة ومتفجرات وبضائع خطيرة لتحذير شرطة الدول الاخرى منها. خامسا، يصدر «غرين نوتس« (بلاغا اخضر) عن اشخاص ارتكبوا جرائم، وخرجوا من السجن وانتقلوا الى دولة اخرى، ويخشى ان يرتكبوا جرائم هناك ايضا.

ويوجد حسب قائمة «الانتربول»، اكثر من سبعة ملايين جواز سفر مفقود او مسروق، بالاضافة الى ثمانية ملايين وثيقة شخصية اخرى مفقودة. وبينما يعتقد «الانتربول» ان هذه «افضل من التحقيق مع كل طبيب اجنبي»، تعتقد الشرطة البريطانية والاميركية (وغيرهما) أنها ليست كافية. ولهذا، يعتمدون على قوائم ارهابيين خاصة بهم. هذا بالاضافة الى ان الشرطة في البلدين ترفض اطلاع «الانتربول» على هذه القوائم لسببين: اولا، لا يثقفون فيه، لأنه مكون من شرطة 186 دولة، يعتبرون بعضها «ارهابية». ثانيا: يختلفون معه في فلسفة ووسيلة الحرب ضد الارهاب. لهذا، حذر امين عام «الانتربول» الشرطة البريطانية من أن ثلاثين مليون اجنبي يزورون بريطانيا كل سنة، وان مقارنة جوازاتهم بقائمة «الانتربول» اسهل واقل تكلفة، من جمع معلومات عن كل واحد من هؤلاء. وقال «الانتربول» ان الاحصائيات اوضحت ان نسبة كبيرة من «الارهابيين» يحملون جوازات سفر مزورة او مفقودة.

يكرر «الانتربول» في كل بلاغ عن مطلوب الآتي: اولا: انه ليس شرطة دولية (ولكن مجموعة شرطة وطنية). ثانيا: طلبت شرطة وطنية الشخص عن طريقه. ثالثا: طلبت المحكمة الجنائية الدولية الشخص عن طريقه. رابعا: تكون الطلبات سرية احيانا. خامسا: «كل شخص بريء حتى تثبت ادانته». ويوجد، في آخر «بلاغ احمر» اصدره «الانتربول»، خمسة اشخاص: السوداني احمد محمد هارون بتهم التورط في الحرب الاهلية في دارفور. واربعة أوغنديون متهمون بالتورط في الحرب الاهلية مع حزب الرب، منهم جوزيف كوني، قائد الحزب.

ويوجد، في «بلاغ احمر» قديم، احد عشر شخصا: اسامة بن لادن، (لا جنسية له، وتريده شرطة اميركا واسبانيا وليبيا). ايمن الظواهري (جنسيته مصرية، وتريده شرطة مصر). سعيد باحاجي (مغربي ولد في المانيا، وتريده شرطة المغرب والمانيا). احمد محمد حمد علي (مصري وكيني ويمني، وتريده شرطة الدول الثلاث). داؤود كسكار (ولد في الهند وتريده شرطتها). مختار بلمختار (جزائري وتريده شرطة وطنه). محمد فضل عبد الله (من جزر القمر، وتريده شرطة اميركا). مأمون داركانزالي (ولد في سورية، ويحمل جنسية المانية، وتريده شرطة اسبانيا). فهد محمد علي مسلم، واحمد سالم شيخ سويدان (ولدا في كينيا، وتريدهما شرطة اميركا).

واحد من اسباب الخلاف بين «الانتربول» واميركا وبريطانيا وغيرهما هو تعاونه مع شرطة دول تعتبرها الدولتان «ارهابية». وينطبق ذلك على السودان الموجود على قائمة الارهاب الاميركية، لكن لم يمنع ذلك «الانتربول» من التعاون مع حكومة السودان بوضع اسماء اشخاص تريدهم الشرطة السودانية لصلتهم بالحرب في دارفور، منها اسماء مشهورة، مثل: احمد ابراهيم دريج (سياسي ووزير سابق)، وخليل ابراهيم (سياسي ومحارب)، وشريف عبد الله حرير (سياسي واكاديمي).  ومنها اسماء اخرى، مثل: آدم بخيت عبد الرحمن (لم تحدد جريمته)،  وابو سفيان السلمابي عبد الرازق (ولد في الباوقة، ويحمل جوازا كنديا).  ومنها اسماء لا صلة لها بالسياسة او الحرب، مثل: عز الدين محمد زروق (مطلوب في قضية فساد وتزوير).

ولكن هل يقدر «الانتربول» على رفض طلب لشرطة السودان، او اي دولة اخرى؟ والاجابة تقول انه لا يقدر على ان يقول ان السودان «ارهابي»، لأن هذه سياسة. ولا يقدر على ان يقول ان هناك حربا بين العرب والافارقة، لأن هذه عنصرية. ولا يقدر على ان يقول ان هناك حربا بين المسلمين والمسيحيين، لأن هذه مسألة دينية.

لهذه الاسباب، ولغيرها، يجد «الانتربول» نفسه في حالة لا يحسد عليها. واكد ذلك كتاب صدر أخيرا: وهو «الارهاب: ابحاث وقراءات وحقائق» اصدره ماثيو دفليم، ولندسي ميبين، استاذان في جامعة ساوث كارولينا.  قال الكتاب: ان «مشكلة الانتربول هي مشكلة تعريف الارهاب وحرب الارهاب. يريد الانتربول تعريفا لا تختلف حوله شرطة الدول الاعضاء». وانتقد الكتاب «الانتربول» لانه، وهو المنظمة الغربية الاصل والادارة والفلسفة والمكان، ليس محايدا حيادا حقيقيا. واشار الكتاب الى ان اللغة العربية على رأس لغات الموقع، وتساءل: «لماذا اللغة العربية اول اللغات؟ لماذا قبل الانجليزية والفرنسية والاسبانية؟ ألأن حرب الارهاب لها صلة بالعرب؟ ألأنه يركز على المواطنين من الدول العربية اكثر من مواطني اي دولة اخرى»؟

وانتقد الكتاب: اولا: ضغوط اميركا ودول غربية اخرى على «الانتربول». ثانيا: تركيزه على اجانب عرب ومسلمين دون غيرهم من الاجانب. ثالثا: عكسه لخوف اميركي واوروبي عام من العرب والمسلمين. حتى نوبل، الامين العام (اميركي اسود، فاتح اللون)، اشتكى: «فتشوني، اكثر من مرة، في مطارات بعض الدول ظانين انني عربي».  وكأن مشكلة هوية «الانتربول» لا تحتاج الى مزيد، عندما دخل مجلس الامن على الخط، واعتبر «الانتربول» وكأنه جناح غير رسمي له، يحقق مع اسماء في «قائمة بلاغات مجلس الامن الارهابية»، اعتمادا على قرار مجلس الامن رقم 1617 (سنة 2005)، الذي اسس «لجنة القاعدة وطالبان» التي تقوم، بجمع معلومات عن اعضاء المنظمتين واعوانهم ومؤيديهم. وتطلب من شرطة الدول فرض مقاطعة عليهم، ومصادرة اموالهم، ومنع سفرهم، لكن حرص «الانتربول»، حتى لا ينتقد، على التأكيد أنه «يمنع المساس بالحقوق الاساسية للافراد (ليكونوا احرارا فيما يفعلون)، وللمنظمات (لتمارس نشاطها كما تريد)». بالاضافة الى الارهاب، ينسق «الانتربول» مع مجلس الامن في مناطق اخرى، مثل: رواندا والبوسنة وكوسوفو.

ربما لأن «الانتربول» ليست عنده سلطة التحقيق والاعتقال، وربما لانه يريد التهرب من الضغوط الاميركية، او ليرضي الضغوط الاميركية، بدأ، قبل سنوات، مشروع «فيوشن» (جمع معلومات عن ارهابيين، او اشباههم او مؤيدونهم او متعاطفين معهم).

قسم «فيوشن» العالم الى اربعة اقسام: جنوب شرق آسيا، ووسط آسيا، واميركا الجنوبية وافريقيا. وقال انها «مناطق فيها نشاطات ارهابية».  واسس فرقتين: الاولى: «تنت» (الخيمة): لجمع معلومات عن مناطق تدريب الارهابيين. والثانية: «باسدج» (الطريق): لجمع معلومات عن نقل الارهابيين الى الدول الغربية.

لم يقل «الانتربول» ان الهدف من المشروع هو حماية الاوروبيين من الارهابيين، ولكنه لا يحتاج ليقول ذلك. (جمع المشروع اكثر من سبعة آلاف اسم، واكثر من ثلاثمائة صورة «ارهابي» و«شبه ارهابي». لكنه رفض توزيعها علنا. ورفض ان يؤكد ان اغلبيتها اسماء عرب او مسلمين).              يخلص «الانتربول» في اداء عمله، لكنه للاسباب السياسية والاستراتيجية المعقدة السابقة، لا يقدر على تحديد هويته. ولا يجد الاحترام اللائق به. يجد الاحترام ليس في الواقع، ولكن في الخيال: في قصص وافلام ومسلسلات تلفزيونية ومقررات مدرسية وقصص ولعب اطفال: عن البطولات والتضحيات والمراوغات والنشاطات حول العالم.

في «غادجيت» (مسلسل كرتون اطفال)، يقود ضابط بنفس الاسم يعمل مع «الانتربول» عمليات بطولية ناجحة. وفي فيلم «اكس من»، يقوم جون بانشي بالبطولة، وكان ضابط في «الانتربول». وفي فيلم «ميشن امبوسيبول» (مهمة مستحيلة)، علم البطل، توم كروز، انه مطلوب في قائمة «الانتربول». وفي كتاب «دافنشي كود»، الذي تحول الى فيلم، توجد اشارات كثيرة الى قسم المعلومات في «الانتربول»، الذي فيه اسماء متهمين ومشكوك فيهم. وفي فيلم «ما بعد باتمان» عن باتمان بعد خمسين سنة، توجد اشارات الى نفس قسم جمع المعلومات التابع لشرطة «الانتربول».

وفي فيلم «لورد الحرب»، يقوم البطل جاك فالنتي بدور ضابط في «الانتربول». وفي فيلم «جوني انغلش»، تقوم الممثلة لورنا كامبل، ضابطة في شرطة «الانترنت»، بالتجسس على عشيقها باسكال سافدج. وطبعا، تتجاهل كل هذه الافلام والمسلسلات ان دستور «الانتربول» يمنعه من التحقيق والاعتقال، ناهيك من التجسس وناهيك من القتل.