البصرة.. فوهة بركان

تستعد مافيا العائلات المسلحة لجولة من الصراعات بعد انسحاب القوات البريطانية.. وإيران متهمة بإدارة اللعبة

مقاتل يحمل سلاحه خلال اشتباكات وقعت في البصرة في يوليو الماضي (رويترز)
TT

الجدران الخرسانية التي تحيط بمجمع حزب الفضيلة شمال مدينة البصرة، تذكر بالحواجز نفسها التي تحيط بالمنطقة الخضراء المحصنة في بغداد التي تحوي مقرات الحكومة والبرلمان والسفارة الاميركية ونظيراتها الغربية، التي لم تسلم رغم الموانع من وصول الصواريخ الى عمقها. وخلال الاسابيع الماضية، اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات تابعة لحزب الفضيلة وجيش المهدي الذي يتبع لرجل الدين مقتدى الصدر، ادت الى مقتل عدة اشخاص وتدمير مكاتب ومبانٍ تابعة للطرفين. وسبب المعركة كان بسيطا جدا، وهو قيام حاكم البصرة الذي ينتمي الى حزب الفضيلة، بتغيير رئيس هيئة الكهرباء المحلية، الذي ينتمي الى أنصار الصدر. وهب العقلاء من العشائر والوسطاء من الاحزاب السياسية الاخرى لتفادي كارثة، كان يمكن ان يتوسع نطاقها ونجحوا بعد جهد جهيد في انهاء القتال.. ولكن ابو علي الصعيدي الباج، وهو من القيادات من المستوى المتوسط، في جيش المهدي قالها بصراحة شديدة ان «التوتر.. لا يمكن ان يدفن نهائيا». فوراء واجهة المؤسسات الديمقراطية مثل المجالس وقوات الشرطة، سقطت البصرة وهي ثاني اكبر مدينة بنحو 2.6 مليون نسمة في قبضة مافيا ميليشيات العائلات المتنافسة. فالنفط والثروة، والمناصب، والسطوة العسكرية والنفوذ هي دائرة التنافس الحالية، تلك المحافظة الملتهبة في غياب الدولة والحكومة. وقد كان انسحاب القوات البريطانية، الاسبوع الماضي، من مقر التنسيق المشترك في وسط البصرة وما اعقبه من قيام مسلحين بالاستيلاء عليه ونهب محتوياته، ما هو الا بروفة صغرى لما يمكن ان يكون عليه الحال بعد الانسحاب الكامل لتلك القوات، اذا لم يتمكن عقلاء العشائر من احتواء الامر او يقوم الجيش العراقي بحسم الامر كما فعل في مقر التنسيق وأعاد الامور الى نصابها. ويخشى سكان البصرة من الهدوء الذي يسود المحافظة منذ ايام والذي وصفه بعضهم بأنه فترة إكمال التحضير لمعارك عنيفة قادمة بعد أن حول صراع الكتل السياسية المدينة الى حقول ألغام لا تنقصها غير شرارة الاشتعال. ومن أبرز هذه الاستعدادات ما يقوم به التيار الصدري لفرض سطوته على المحافظة بعد انسحاب القوات البريطانية. ومنها ايضا عدم امتثال المحافظ لقرار الحكومة بإقالته، وسعي المجلس الإسلامي الأعلى لضم حكومة البصرة إلى حظيرته، وظهور بؤر جديدة لتنظيم «جند السماء» واحتقان الأزمة بين اتحاد نقابات عمال النفط والوزارة وسعي إيران إلى تشكيل نواة لقوات القدس من الشبان الشيعة في جنوب العراق بعد أن انكفأت القوات البريطانية تحت وطأة الهجمات ضدها إلى وراء قواعد محصّنة بعيدة عن شوارع المدينة في خطوة يراها سكان البصرة وميليشياتها هزيمة وليس انسحاباً منظماً. وقال احد من سكان المدينة لـ«الشرق الأوسط» ان «ما يميز التيار الصدري في الأشهر القليلة الماضية هو ابتعاده عن دائرة الصراع على السلطة الدائرة حاليا بين الكتل الشيعية الأخرى بالرغم من قدرته على فرض سيطرته على كل مرافق الدولة خلال ساعات قليلة كما ثبتت أحداث العام الماضي». وقال آخر «إن كل فعاليات جيش المهدي تركزت على مطاردة القوات البريطانية وإنزال الخسائر بجنودها سواء عن طريق زرع العبوات القاتلة أو إطلاق النيران غير المباشرة على مقراتها وهو الذي اجبرها على الانسحاب الذي أعده رجل الدين الشاب مقتدى الصدر انتصارا لتياره».

ويرى مقربون من قادة الأحزاب الشيعية الأخرى بالمحافظة في هذا «الانتصار» تهديدا قويا لمصالحهم السلطوية، إذ سيتفرغ جيش المهدي الذي يضم أعدادا كبيرة من الشبان الذين يمتلكون الروح الاقتحامية وإرادة القتال على فرض إرادتهم على الساحة المحلية، وخاصة ان انتخابات مجالس المحافظات على الأبواب.  وفي هذا الإطار وصفت المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات، الميليشيات في البصرة بأنها تبدو أقوى من ذي قبل. وأشارت في تقرير لها صدر أخيرا الى فشل كبير في إقامة مؤسسات شرعية وفعالة قادرة على توزيع مصادر الثروة، وفرض احترام القانون، وضمان عملية انتقالية بسلام على المستوى المحلي. وقالت ان الساحة السياسية في البصرة تبقى في أيدي لاعبين متورطين في منافسة دموية على مصادر الثروة، الأمر الذي يُضعف ما تبقى من مؤسسات حكومية. وقال ستيفن بيدل، وهو مستشار للرئيس الاميركي جورج بوش وأحد الأكاديميين الأميركيين المرموقين لصحيفة «صنداي تايمز» البريطانية اخيرا عن الميليشيات في البصرة «إنهم يريدون مشهد اندحار للقوات البريطانية ـ وسيكون انسحابها مربكا وقاسيا».

من جهته، اتهم الشيخ أوس الخفاجي المساعد البارز لقائد التيار الصدري إيران بتورط استخباراتها في أعمال تخريب في الجنوب العراقي. وقال في تصريح صحافي اشارة الى الصاق هذه الاعمال بالتيار «ان معلومات وردت الى مكتب الصدر، مفادها أن الاستخبارات الإيرانية (اطلاعات) شكلت غرفة عمليات بقيادة ضابط يعرف باسم محمد تقوي، مهمتها التخطيط لعمليات مسلحة بهدف زعزعة الاستقرار في جنوب العراق وتقويض حال الاستقرار النسبية التي يتمتع بها». وأكد «أن هذا الجهاز المصغر «استقطب عدداً كبيراً من قادة الأجهزة الأمنية في المنطقة، وتحديداً أولئك الذين انخرطوا في قوات الجيش والشرطة في إطار دمج الميليشيات، وآخرون استولوا على مناصب من خلال المحاصصة الحزبية». ويرى مراقبون أن تصريح الخفاجي يكشف مخاوف إيران من استفراد التيار الصدري بالساحة السياسية في البصرة بعد الانسحاب البريطاني وتعرض الفصائل الشيعية الأكثر ولاء لها الى المخاطر.

وبين أستاذ جامعي طلب عدم ذكر اسمه لـ«الشرق الأوسط» ان تداعيات الأحداث في البصرة؛ ومنها اعتقال المدعو علي موسى دقدوق القيادي في حزب الله اللبناني في احد الأحياء السكنية في مارس (آذار) الماضي يؤكد عدم اكتفاء إيران بالمليشيات والتيارات الدينية التقليدية الموالية لها بل تسعى الى إيجاد تنظيمات مسلحة أخرى شبيهة بما يسمى قوة القدس احد فصائل الحرس الثوري في إيران».

وفي هذا السياق، نقلت وكالة «أسوشييتد برس» عن الناطق باسم الجيش الأميركي الجنرال كيفين بيرغنر، إن «قوة القدس» نخبة الحرس الثوري الإيراني، وفي إطار مساعيها لتشكيل نسخة عراقية من «حزب الله» لمواجهة القوات الأميركية والعراقية، جاءت بعناصر من الحركة للمساعدة في تدريب وتنظيم المليشيات في العراق. وأوضح بيرغنر «استخباراتنا كشفت أن كبار القيادات الإيرانية على علم بهذه الأنشطة.. من الصعب تخيل أن المرشد الإيراني علي خامئني على جهل بها». وقال إن برنامج «قوة القدس» الواسع انكشف لدى استجواب قيادي حزب الله البارز، علي موسى دقدوق، والعراقي قيس الخزعلي اللذين اعتقلا خلال حملة دهم أمنية في مدينة البصرة في مارس، والمستندات التي صودرت بحوزتهما. وأوضح أن القوة تزود المليشيات العراقية بثلاثة ملايين دولار شهرياً وتدربهم على كيفية صناعة المتفجرات وشن الغارات والاختطافات في ثلاثة معسكرات خارج العاصمة الإيرانية طهران. والمثير في اعترافات دقدوق، حسب مصدر رفيع في وزارة الداخلية العراقية، هو اعترافه بان إيران أوعزت للمجموعات الخاصة في الميليشيات بتفجير التجمعات الشيعية والأماكن الشيعية المقدسة لإثارة الفتنة الطائفية وإبقاء العراق في فوضى رهيبة، واستخدام الأطفال في العمليات الإرهابية وتجنيدهم لاغراض سياسية.

وتشعر الاطراف العراقية المختلفة بصعوبة الموقف، الامر الذي يحتم عليها التحرك بسرعة من اجل السيطرة على الاوضاع المتدهورة. ويقول هنا رئيس كتلة الفضيلة في البرلمان العراقي النائب حسن الشمري «ان الصراعات السياسية موجودة وبدأت تاخذ شكل ومظهر العنف المتبادل بين القوى السياسية في البصرة وفي عموم المحافظات الجنوبية». واوضح الشمري لـ«الشرق الاوسط» بان غياب القوات البريطانية عن الساحة في جنوب العراق سيؤدي الى تصاعد حالات الصراع ما بين القوى السياسية، وقد ياخذ الصراع شكل الصراع الطائفي بين مكونات القوى الرئيسية هناك، مؤكدا بان الحل يكمن في تأجيل انسحاب القوات البريطانية مع القناعة بوضع جدولة لانسحابها بالتزامن مع بناء حقيقي لقوات الامن العراقية.

ويعتبر النائب العراقي الذي انسحب حزبه من كتلة الائتلاف العراقي الموحد بسبب خلافات وصفها الحزب بالطائفية «ان وجود هذه القوات كان يساعد في حفظ هيبة القانون وسلطة الدولة نوعا ما، كما ساعد على حفظ الامن والاستقرار ولو بشكل نسبي. ومع انسحاب هذه القوات، فان امكانية نشوب الصراع محتمل وكبير جدا، في ظل تناحر القوى السياسية المختلفة ومحاولة بسط نفوذها في تلك المدن والمحافظات».

واكد الشمري ان سبب الصراع هو السيطرة على السلطة وبسط النفوذ على مراكز صنع القرار المحلي، باعتبار ان الوضع السياسي في العراق حديث عهد.. وقابل لان يتشكل من خلال القوى التي تسيطر على المسرح السياسي.

وحول امكانية استخدام اسلوب الحوار والنقاش لحل الازمات التي تحصل بين القوى المتصارعة لاسيما وانها تنتمي لطائفة واحدة ومنضوية في كتلة كبيرة داخل البرلمان، قال الشمري ان «اسلوب الحوار موجود ومتبع بين مختلف القوى السياسية، الا ان الامر قد يصل الى طريق مسدود وبالتالي ينفلت الامر من يد السياسيين وتحصل صدامات في الشارع. كما ان بعض القوى السياسية لا تتمتع بمستوى من التنظيم يتيح لها السيطرة على قواعدها مما يجعل القواعد تتصرف بشكل ارتجالي. والدليل على ذلك فان كثيرا من القيادات السياسية والمرجعيات تبرأت من التصرفات التي تقوم بها بعض الشخصيات التابعة لها ومن الاحداث التي تتسبب بوقوعها». وقيام مقتدى الصدر بتجميد نشاط جيش المهدي بعد احداث كربلاء شاهد آخر.

واكد نواب مستقلون في البرلمان العراقي لـ«الشرق الاوسط» طلبوا عدم نشر اسمائهم، ان هناك منافسة شديدة بين القوى الرئيسية الموجودة على الساحة في تلك المدن والتي تتمثل في المجلس الاعلى الاسلامي والتيار الصدري وحزب الفضيلة وهم من الفصائل الرئيسية لكتلة الائتلاف العراقي الموحد، من اجل تقوية قواعدهم الشعبية قبل الانتخابات المحلية المتوقعة العام القادم.

ودائما ما تحصل اشتباكات بين مسلحين موالين لتلك الاحزاب لتتحول في بعض الاحيان الى معارك واسعة النطاق في الشوارع فيما بينهم، ولا تنتهي إلا بعد اتفاق يتم بين تلك الاطراف على وقف لإطلاق النار أو تتدخل القوات الاميركية لفك تلك الاشتباكات التي غالبا ما تتجدد في كل مناسبة او من دونها. وباستهداف محافظ السماوة محمد علي الحساني وهو ثاني هجوم يستهدف مسؤولا محليا كبيرا خلال فترة اقل من اسبوعين، تتضح المسألة جليا للجميع من خلال الصراع بين القوى الرئيسية في تلك المحافظات من اجل الوصول الى السلطة.

وكانت محافظة الديوانية الجنوبية التي تقع على مسافة 180 كيلومترا الى الجنوب الشرقي لبغداد قد شهدت في 11 من الشهر الجاري مقتل خليل جليل حمزة محافظ الديوانية مع قائد الشرطة في المحافظة اللواء خالد حسن، اللذين قتلا جراء انفجار عبوة ناسفة استهدفت موكبهما عندما كانا عائدين الى المحافظة بعد ان حضرا جنازة لاحد شيوخ العشائر في احدى مناطق المحافظة، وهو نفس الامر الذي حصل لمحافظ السماوة، والمحافظان هما من قيادات المجلس الاعلى الاسلامي الذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم.

ويتركز الصراع بين منظمة بدر، وهي الجناح العسكري للمجلس الاعلى الاسلامي، وجيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، واتباع حزب الفضيلة الاسلامي بزعامة المرشد الروحي للحزب الشيخ محمد اليعقوبي. وتدعو بعض القوى والقيادات الشيعية الى اقليم فيدرالي في الجنوب يتكون من المحافظات الثلاث الكبرى (البصرة، الناصرية، العمارة)، الامر الذي تدعمه الولايات المتحدة من خلال تصريحات لسياسين ومسؤولين كبار في واشنطن، يكون على غرار اقليم كردستان في شمال البلاد الذي يسطر عليه الاكراد منذ اكثر من 15 عاما، في حين تعارضه قيادات وقوى اخرى كالتيار الصدري وحزب الفضيلة والقوى السنية الاخرى.

وفي الوقت الذي تدعو فيه الحكومة العراقية الى ضبط النفس وعدم الانجرار وراء ما تخلفه مثل هذه الاعمال والتصدي بكل قوة وصلابة لكل من يحاول العبث باستقرار البلاد، فانها تؤكد على ان من يقف وراء هذا الاستهداف «يريد اغراق تلك المحافظات في الفوضى وانعدام الامن تنفيذاً لاجندة مقيتة لا تريد خيرا لأبناء الشعب العراقي». ويرى المتحدث باسم السفارة الاميركية في بغداد ان الصراعات التي تحدث في محافظات جنوب العراق، وخصوصا في مدينة البصرة ليست صراعات على السلطة فقط وانما هناك صراعات اجتماعية وسياسية. وقال لـ«الشرق الاوسط» «ان الحكومة العراقية قامت ببعض الاجراءات المهمة من اجل التصدي والوقوف بوجه القوى والاطراف التي تحاول زعزعة الامن والنظام في البصرة خصوصا، والمحافظات الاخرى عموما، من خلال ارسالها لمسؤول امني جديد لقيادة قوات الامن هناك، ومحاولة مناقشة وحل المسائل العالقة سياسيا عن طريق الحوارات مع كافة الاطراف ذات العلاقة ومنهم المحافظ ومجلس المحافظة». واوضح الدبلوماسي الاميركي بان البريطانيين ما زالوا يتواصلون وبشكل مباشر مع مسؤولين حكوميين في البصرة، مؤكدا ان البريطانيين سيبقون حتى تحين الظروف الملائمة للانسحاب. واكد محمد العسكري المتحدث الرسمي لوزارة الدفاع العراقية، بان قوات الجيش الشرطة الوطنية التي ستحل محل القوات البريطانية ستكون قادرة على التصدي لاي تمرد او صراع يحدث في البصرة، وفرض سلطة القانون في المدينة من خلال الاجراءات السريعة التي ستقوم بها وزارته بالتنسيق مع الجانب البريطاني لسد الفراغ الذي ستخلفه قواته العسكرية بعد انسحابها من المحافظة عن طريق تشكيل قيادة عمليات، وبناء فرقة عسكرية جديدة، لاعادة هيبة الدولة في المدينة.

واوضح العسكري ان وزارته تمتلك قوة عسكرية تكفي لسد الفراغ الذي ستخلفه القوات البريطانية، وان تلك القوة العسكرية ستكون مجهزة باحدث وافضل المعدات العسكرية وان تلك القطعات ستوازي ما كان موجودا من قوات اجنبية في المحافظة، مشيرا الى ان قوات وزارته وصلت الى مرحلة متقدمة من الجاهزية والكفاءة لتنفيذ الواجب المطلوب منها.

وقال المسؤول العراقي «ان المخاوف التي تبديها بعض الاطراف حول بروز الفوضى في محافظات الجنوب بعد انسحاب القوات الصديقة، محسوبة جيدا من قبلنا، وقد وضعنا لها العلاجات المطلوبة»، مضيفا «في حال نشوب اي صراع في تلك المدن فان قواتنا ستكون جاهزة للقضاء عليه وفق اجراءات عملنا عليها خلال الفترة الماضية ونحن مستمرون بها». وتبقى المخاوف في محلها رغم تطمينات الحكوميين ومسؤولي الامن، فالشيطان كما يقال يكمن في التفاصيل.. وتبقى البصرة المدينة الوادعة فوق فوهة بركان، من الطامعين في السلطة والنفوذ.. ومن يدفع الثمن هم الملايين من الابرياء من سكانها.. واطفالها الذين يحلمون بغد افضل.