مال عربي.. جدار أوروبي

حملة غربية شعواء ضد الاستثمارات الخليجية

مشهد لميناء ميامي بالولايات المتحدة، الذي حاولت شركة موانئ دبي شراءه وقوبلت الصفقة بالرفض (أ.ف.ب)
TT

كل دول العالم تبحث وتسعى، وبكل قوة، لجذب الاستثمارات الخارجية، هذه حقيقة ربما لا يختلف عليها اثنان. ولكن مع الاستثمارات الخليجية في اوروبا والغرب عموما فالأمر مختلف. الدول تطوع أنظمتها، وتغير قوانينها، وتتنافس مع بعضها بعضا على الفوز بأكبر حصة من كعكة تلك الاستثمارات. هذه النظرية الاقتصادية التي ظلت صامدة لعقود طويلة، دخلتها أخيرا بعض من التطورات الاقتصادية، وكثير من التدخلات السياسية، وبدلا من تطويع القوانين والبحث عن الاستثمارات، انعكست الأمور وأصبحت القوانين تتغير، ليس من أجل جذب الاستثمارات، بل من أجل إيقافها، أو في الأقل التخفيف من حدتها ومنعها من مواصلة دورة الاقتصاد العالمية.

ومنذ تزايد الوفرات النفطية في دول الخليج، كان من الطبيعي أن يتجه جزء من هذا الدخل النفطي الضخم، سواء عبر الاستثمارات الحكومية أو استثمارات القطاع الخاص، للبحث عن فرص استثمارية مربحة حول العالم. وكانت دول أوروبا وأميركا محط أنظار هذه الاستثمارات الخليجية. إلا أن الرد الغربي، تحول من إبداء الضيق شيئا فشيئا، ليصبح في صورة تصريحات رسمية تارة، و في صورة عوائق أمام هذه الاستثمارات تارة أخرى.

وبالعودة إلى حقبة السبعينات من القرن الماضي، وعلى وجه التحديد، كانت بريطانيا هدفا رئيسيا لحملة الاستثمارات الخليجية، واشترت هيئة الاستثمار الكويتية آنذاك حصصا في مجموعات غربية كبرى، مثل «بريتش بتروليوم» BP. لكن الموجة الجديدة، والمدعومة بطفرة نفطية وصلت معها أسعار النفط إلى أرقام قياسية، كان من الضروري استثمار جزء رئيسي منها داخل الوطن، وجزء آخر خارج الخليج، باعتبار أن المنطقة الخليجية غير قادرة، ولاسباب اقتصادية بحتة، من امتصاص معظم هذه الأموال.

وبالرغم من أن الطفرة النفطية كانت سببا رئيسيا في هذه الاستثمارات الخليجية، إلا أن الواقع يقول إن الموجة الجديدة سبقت، بقليل، فورة النفط هذه، عندما استثمر الأمير الوليد بن طلال في «سيتي جروب» و«يورو ديزني»، قبل أن تثير دبي موجة من السخط الأميركي عام 2005 عندما اشترت الامارة شركة تشغيل الموانئ P&O. ووصلت الاستثمارات الخليجية الى درجة الاستحواذ على أشهر الشركات الكبرى في الغرب، ولعل آخرها ما قام به رجل الأعمال السعودي معن الصانع الذي استحوذ على نسبة كبيرة من أسهم بنك HSBC بمبلغ يفوق 6.6 مليار دولار أميركي.

ومطلع هذا الشهر، تحولت حملة الاتنقادات الغربية، إلى حملة انتقادات رسمية، وقادت ألمانيا ما اسمته «جهودا لتحصين الشركات الأوروبية ضد الاستحواذات الخارجية». وطالبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الاتحاد الأوروبي بوضع خطة شاملة هدفها «حماية الشركات الأوروبية من استحواذات أجنبية غير مرغوب فيها»، عاكسة بذلك مبادرة تشريعية يجري العمل عليها في ألمانيا. وقبل ذلك، كان موقف السلطات الأميركية الشهير، في رفض صفقة موانئ دبي للاستحواذ على تشغيل ستة من أكبر الموانئ الأميركية، عندما تذرع المشرعون الأميركيون بأنها تعرض مصالح الأمن القومي الأميركي للخطر.

وبعيدا عن العوائق التي تعرضت لها الاستثمارات الخليجية في أوروبا والولايات المتحدة، فإن أهل الاقتصاد يرون أنه من ناحية المبدأ، لا يمكن وضع عوائق أمام السوق المفتوحة والمنافسة، والتي تشكل عصبا رئيسيا في الاقتصاد الحر. وفيما يؤكد المنتقدون لهذه الاستحواذات على ضرورة اتخاذ مبدأ الوطنية الاقتصادية، يرد المؤيدون بأن الوطنية الاقتصادية هي الحمائية ولا يوجد لها اسم آخر، وهي مرفوضة اقتصاديا في كل أنحاء العالم، وخصوصا لدى الدول الغربية.

هنا يجد الخليجيون، مستثمرين ومواطنين، أنفسهم أمام تناقض غير مسبوق. ففيما قادت الولايات المتحدة وأوروبا حملة دولية لترسيخ مفهوم الاقتصاد الحر وفتح الأسواق وإزالة الحواجز الجمركية، عبر انضمام دول العالم لمنظمة التجارة العالمية. تتغير الأمور بسرعة، وخلافا لما تقضي به قوانين المنظمة الدولية، تصر الدول الغربية على تطويع قوانين منظمة التجارة العالمية من أجل مصالحهم، التي أصبحت تقتضي منع صفقات تجارية خالصة، وترسيخ مبدأ الحماية، الذي يتعارض كليا مع مبادئ الاقتصاد الحر.

ويعتقد الدكتور عبد الخالق عبد الله، استاذ العلوم السياسية بجامعة الامارات، أن المشاعر الغربية الرسمية والشعبية تجاه الاستثمارات العربية متفاوتة اشد التفاوت بين اكثر ترحيبا كالحالة البريطانية، الى اقلها انفتاحا وايجابية كالحالة الاميركية، «التي عادة ما تسيس الاستثمارت الاجنبية عموما بما في ذلك العربية وغير العربية (الصينية واليابانية)». ويضيف «اميركا رغم كل انفتاحها عصية على بعض الاستثمارات، بخلاف بريطانيا التي هي تقليديا منفتحة على كافة القطاعات والاستثمارات باقل قدر من التحفظ. لذلك فإن القاعدة الذهبية الاولى لا ينبغي التعميم». ولا يشك عبد الخالق في انه مع تدفق الفائض النفطي ستزداد الاستثمارات العربية/ الخليجية في الغرب، «الامر الذي سيولد مشاعر مناهضة تقليدية، واصواتا مضادة لهذه الاستثمارت خاصة تلك التي تتوجه لقطاعات استراتيجية. لذلك من المهم فهم التعقيدات السياسية المصاحبة للاستثمار في الغرب عموما والولايات المتحدة تحديدا». ويضيف «تحول العرب الى لاعب استثماري عالمي له تبعات سياسية والتزمات تشريعية، الامر الذي يحتم فهم اللعبة السياسية بقدر فهم اللعبة الاستثمارية. عالم الغرب عالم مسيس بشكل شديد رغم كل الادعاء بخلاف ذلك. لا يخلو الامر من ردود فعل شعبية وتشريعية وقضائية ومن المهم فهم ان الاستثمار العربي مراقب اكثر من غيره». ويستغرب عبد الخالق ان تتعامل اميركا مع الاستثمارات العربية «الصديقة» بهذا القدر من العداء والخوف من العرب والمسلمين. ويضيف ان «هذا الامر لا يبعث برسالة مطمئنة للمستثمر العربي الذي يمكنه تجنب الولايات المتحدة والاتجاه الى الشرق بدلا من الغرب كرد على تسييس الاستثمار في الولايات المتحدة. الشرق الآسيوي بيئة استثمارية واعدة ومرحبة وغير مسيسة كما هو الحال في الغرب». وهناك جزء كبير من الاقتصاديين والساسة العرب، يرون أن الحملة الغربية ضد فورة الاستثمارات الخليجية التي تزايدت في الآونة الأخيرة في أوروبا وأميركا، وأيضا الشرق الآسيوي، لا توجد خلفها أجندة خفية أو مبررات تستحق أن تضع الدول الغربية من العوائق ما هو غير منصف، فهذه الاستثمارات والاستحواذات يبررها أن فوائض عائدات النفط الخليجية لم تعد كما كانت في السابق مدخرات في بنوك الدول الغربية تستثمرها هذه الدول في ما يخدم مصالحها الخاصة، دون أن تستفيد الدول نفسها فعليا من إيداع تلك الأموال بالصورة التي تتناسب وحجمها.

أما الدكتور جاسم حسين، عضو اللجنة المالية في مجلس النواب البحريني، فيقول إن الشيء اللافت في الاستثمارات الخليجية ارتباط بعضها بالحكومات «الأمر الذي يثير الشكوك حول النوايا». ويوضح أن حكومات دول الخليج تمتلك جانبا من أسهم بعض الشركات والبنوك التي تقوم بعمليات الاستحواذ، مضيفا أنه لا يمكن حصر الهجمة على دول مجلس التعاون لأنها تشمل الصين في الوقت الحاضر، «كما تعرضت اليابان لهجمة شرسة في الثمانينات على خلفية شراء مستثمرين يابانيين لمعالم بارزة في الولايات المتحدة». ولا ينظر الدكتور جاسم حسين للانتقادات الغربية بأنها مسيسة إجمالا، ويدلل على رأيه بأن بعض الاستحواذات كانت «غير طبيعية»، مضيفا «ربما ساهمت في ردود الفعل، والإشارة هنا إلى شراء مجموعة (دبي العالمية) المملوكة لحكومة دبي أصولا في ستة موانئ كبرى في الولايات المتحدة، طبعا استغل أعداء الأمة العربية فضلا عن جماعات الضغط المتعاطفة مع إسرائيل المسألة بالخطورة وتذكير المشرعين الأميركيين بجريمة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001». ويشرح الدكتور حسين سبب هذه الانتقادات الغربية، بأنه على الرغم من أن دول العالم تبحث عن جذب الاستثمارات، «فالمشكلة تكمن في أن الساسة هم من يتخذون القرارات، وكثير منهم يفكرون في أمور مثل إعادة الانتخابات والمصلحة الضيقة لدوائرهم الانتخابية». ويعتقد الخبير الاقتصادي حسين أنه بمقدور السياسيين تعطيل، وبالعكس تعجيل، تنفيذ الصفقات، «وهذا ما حدث مع صفقة (دبي العالمية) حين أشار بعض الساسة الأميركيين إلى احتمال تسلل الإرهابيين إلى المواني الأميركية ومن ثم ارتكاب جرائم جديدة، ومن عادة السياسيين التحدث بصوت مرتفع حتى يسمعهم الآخرون. بالمقابل وفي الجانب الايجابي، يقوم برلماني ألماني بالضغط على حكومة المستشارة أنجيلا ميركل لتوقيع اتفاقية للسماء المفتوحة مع الإمارات لتعزيز الروابط الاقتصادية بين البلدين. من جملة الأمور يرغب هذا السياسي في رؤية طيران الإمارات تسير رحلات منتظمة إلى المطارات الألمانية». ولا يمكن عند طرح مثل هذه الانتقادات الغربية، إغفال أن الاستثمارات الحكومية هي أكثر ما تقلق دول الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، وبحسب البيانات التي أوردتها مؤسسة «مورغان ستانلي» العالمية، فقد بلغ حجم الأصول المالية التي تملكها الصناديق الاستثمارية الحكومية، مع نهاية الربع الأول من العام الجاري، نحو 2.6 تريليون دولار. وتتصدر أصول هيئة الاستثمار في ابوظبي هذه الصناديق حول العالم، باعتبارها الأكبر على الإطلاق في العالم، بعد أن وصل حجمها إلى 875 مليار دولار، يليها في الترتيب صندوق سنغافورة (GIC)، في حين تبلغ الاستثمارات في عدة صناديق سعودية نحو 300 مليار دولار. دول الغرب من جهة أخرى، توضح أن الأموال الخليجية في الخارج لا يمكن لها أن تحمل معها أي أجندة سياسية أو تهديدات أمنية لأي دولة، حيث تسيرها في الدرجة الأولى دوافع ومتغيرات اقتصادية بحتة. ومن الطبيعي والمنطقي ألا يكون من مصلحة الدول الغربية، التي تنادي بحرية حركة رأس المال العالمي والاقتصاد الحر، فرض أي نوع من القيود على تحركات الاستثمارات الخليجية التي ربما توفر فرصا أكثر لتنمية الدول الغربية نفسها.

وحتى تبدو الأمور واضحة بصورة جلية، يجب الإشارة أيضا إلى أن هجمة الاستثمارات الخليجية فاجأت دول الغرب، بل أنها باغتتهم على حين غرة. صحيح، كما ذكرنا، أن الاستثمارات الخليجية مارست هذه السياسة الاقتصادية التوسعية منذ السبعينات، لكن أيضا العقود السابقة لم تحمل معها هذا الزخم المتزايد من الاستثمارات والاستحواذات المتتالية، والتي أذهلت العالم بأكمله من سرعة وصول المال الخليجي إلى قلب المؤسسات المالية الغربية الكبرى، وهو ما أفرزته الطفرة النفطية الحالية. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من مشاكل تعرضت لها رؤوس الأموال الخليجية، في الولايات المتحدة تحديدا، انتقلت الأموال الخليجية إلى خارج أميركا والدول الأوروبية، وعاد جزء كبير منها إلى موطنها الأصلي، لكن الطفرة النفطية ووصول سعر برميل النفط لأسعار غير مسبوقة، فاجأ دول الخليج أيضا، التي بدورها أتبعت النظريات الاقتصادية، التي تنادي بها كبريات المنظمات الاقتصادية في العالم، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بتنويع مصادر الدخل بدلا من الاعتماد بصورة كبيرة على الدخل النفطي.

وتشير تقارير اقتصادية إلى أن الولايات المتحدة اجتذبت ما يزيد على نصف رؤوس الأموال من دول مجلس التعاون الخليجي المصدرة للنفط في السنوات الخمس الماضية. وقدر معهد التمويل الدولي إجمالي إيرادات صادرات دول مجلس التعاون الخليجي الست وهي: البحرين، الكويت، عمان، قطر، السعودية، والإمارات بما يزيد على 1.5 تريليون دولار في الفترة من 2002 إلى 2006. وقدر التقرير أن نحو 300 مليار دولار ذهبت إلى الولايات المتحدة بينما ذهب 100 مليار دولار إلى أوروبا ونحو 60 مليارا إلى آسيا. وأضاف التقرير «نحو تريليون دولار منها ذهب إلى الواردات، والباقي وهو نحو 542 مليار دولار يمثل أموالا فائضة دخلت أسواق رأس المال العالمية وأسهمت في زيادة ما في حوزة دول المجلس من أصول أجنبية». ولعل الأرقام هذه توضح أن الأموال الخليجية المهاجرة، لم تتجه إلى الغرب فقط، بل أن الدول الآسيوية ودول القارة الأفريقية كان لها نصيب كذلك. ولعل هذا ما يثير التساؤلات حول مغزى الانتقادات الغربية حيث لم تخرج أي انتقادات للاستثمارات الخليجية في الصين أو الهند أو أي دولة آسيوية أخرى مثلا، بل أن هذه الدول تغري المستثمرين الخليجيين لتوجيه بوصلتهم إليها.

* متى تعود الأموال المهاجرة؟

* لأن ليس كل ما يلمع ذهبا، فإن توجه الأموال الخليجية للاستثمار في دول الغرب، لا يجد ترحيبا كثيرا من قبل بعض المنظمات الاقتصادية العربية، حيث تأخذ هذه المنظمات في اعتبارها ما تعرضت له هذه الأموال سابقا من مخاطر، وما يمكن أن تتعرض له مجددا في حال تغير الظروف الحالية، وهو أمر ممكن حدوثه بطبيعة الحال. بالإضافة إلى حاجة المنطقة العربية لدخول مثل هذه الأموال واستثمارها في الداخل بدلا من الخارج.

المؤسسة العربية لضمان الاستثمار حذرت في تقرير حديث، حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه، من مغبة الانسياق خلف قذف الاستثمارات العربية، والخليجية خصوصا، نحو المؤسسات الغربية، وطالبت بعودة رؤوس الأموال العربية المهاجرة، والتي قدرتها المؤسسة بـ1.4 تريليون دولار، إلى مواطنها الأصلية. ويبرر التقرير هذه التحذيرات بعودة الأموال المهاجرة بسبب عدم توفر الضمانات لاستردادها في حالة حدوث طارئ دولي. ويشير التقرير إلى تعرض الاستثمارات العربية في الخارج إلى مخاطر بالجملة، منها التجميد والمصادرة، والتي ترتب عليها خسائر تم تقديرها، وفقا للتقارير الدولية، بما لا يقل عن المليارات من الدولارات في السوق الأميركية فقط.

إذن هناك من يطالب بعودة هذه الاستثمارات إلى البلاد العربية، بدلا من بقائها بدرجة خطرة في دول الغرب. لكن أيضا بالمقابل لا يمكن إغفال وجود أزمة ثقة من جانب المستثمرين العرب بجدوى الاستثمار في الوطن العربي، إما لعدم وجود بيانات دقيقة عن فرص الاستثمار المتوفرة لديهم، وإما بسبب أن النظم العربية، في مجملها، لا تقوم على نظام مؤسسي كما هو الحال في الدول الغربية، وهو ما لا يعطي المستثمرين اطمئنانا كاملا، ويجعل الفرص خاملة لما يمكن تسميته بتغير الأنظمة بصورة فجائية، وهذا ما حدث غير مرة في استثمارات عربية ضخمة في العالم العربي.