المغرب : رهان الصندوق

ثالوث «النزاهة والمشاركة والأمن» سيحدد مدى نجاح الدولة.. في اجتياز امتحان ثاني انتخابات في «العهد الجديد»

شباب مغاربة يتجمعون أمام مقر حزب العمال في الدار البيضاء (ا. ف.ب)
TT

شاء القدر أن تكون وفاة إدريس بصري، وزير الداخلية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني ومهندس الانتخابات المغربية طيلة عقود، في ذروة الحملة الانتخابية الحالية، مما احدث شبه هزة أرضية خفيفة، دفعت العديدين إلى تذكر الأيام الخوالي التي كانت تصنع فيها الخرائط السياسية والحزبية طيلة عقود تحت أقبية وزارة الداخلية، في مصادرة تامة لإرادة المغاربة في اختيار من يمثلهم.

فالبصري أعطى لمساته الخاصة للحملات الانتخابية التي لم تكن تعني شيئا آخر غير إطعام كل مرشح لستين ناخبا أو أكثر، حتى يحظى بالرضا وتطأ قدماه القبة البرلمانية. إنه الرجل الذي صنع بذكائه الثاقب، أحزابا وأجلسها على غالبية مقاعد البرلمان بين عشية وضحاها، بينما أعلن حربا مفتوحة على أخرى، واستقطب منها من استقطب ونزع الجنسية من آخرين، لكنه مات في نهاية المطاف فوق سرير المنفى. والمغرب ينظم ثاني انتخابات بدونه، فالكثير من الخيول القديمة غادرت سباق الخيل المغربي، بعدما أعدمت سياسيا أو دخلت إسطبل النسيان. لا يجادل كثيرون في أن المغرب بات يعيش على إيقاع متغيرات كثيرة، بعدما جرت مياه تحت جسره السياسي طيلة الثماني السنوات الماضية، فالعديد من الملاحظين السياسيين باتوا واثقين من أن أسلوب العاهل المغربي الملك محمد السادس يختلف عن أسلوب والده في تدبير انتخابات تضع عربة السياسة المغربية مجددا أمام مفترق الطرق. ثالوث النزاهة والمشاركة والأمن، انه الثالوث الصعب الذي يفترض أن تنجح الدولة المغربية في تحقيق معدلات جيدة فيه حتى تجتاز امتحان ثاني انتخابات تخوضها في ظل ما يعرف في الأدبيات السياسية المغربية بـ«العهد الجديد». فالعاهل المغربي الملك محمد السادس نجح خلال انتخابات 2002 في تحقيق إجماع سائر الأحزاب السياسية على نزاهتها لأول مرة في تاريخ المغرب الانتخابي، منذ حصوله على الاستقلال، عام 1956. أما التحدي الحالي الذي تواجهه البلاد فيكمن في تحصين مكتسبات الانتخابات السابقة وتحقيق مزيد من النزاهة والشفافية بتوفير الوسائل لذلك، والضرب بقوة على أيدي المتلاعبين.

بدا شكيب بن موسى، وزير الداخلية المغربي، نحيفا ومتعبا خلال المؤتمر الصحافي، الذي عقده الأسبوع الماضي ساعات قبل انطلاق الحملة الانتخابية. فقد الوزير المغربي بعض وزنه، فالمهمة الموكلة إليه ليست سهلة، فهو يشرف على انتخابات تظهر فيها كل يوم مفاجآت لا تنتهي. ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي بن موسى عندما سأله أحد الصحافيين ما إذا كان سيصبح رئيسا للوزراء بعد إنجاح الانتخابات النيابية ليكرر تجربة خلفه إدريس جطو، وقال: «إن مهمتي الآن هي انجاح الانتخابات التي كلفت بالإشراف عليها بحياد تام».

ورغم أن بن موسى لم يخف تفاؤله بشأن مستوى مشاركة المغاربة في الانتخابات، مستدلا بسحب 75 في المائة من الناخبين لبطاقاتهم الانتخابية، بيد أن المشاركة تبقى الرهان الحقيقي الذي لا تتحكم فيه وزارة الداخلية كثيرا. فالتحدي الحقيقي الذي يؤرق كثيرا المشرفين على الانتخابات هو دفع المغاربة إلى الإيمان بنجاعة صناديق الاقتراع بعدما اهتزت ثقتهم في الحياة السياسية برمتها، إثر عقود من صناعة الخرائط السياسية المفبركة، وهو ما جعل العاهل المغربي الملك محمد السادس يخصص خطابه بمناسبة عيد ثورة الملك والشعب في 20 أغسطس (آب) بكامله للتأكيد على ضرورة توفر شروط النزاهة وتحفيز المغاربة على المشاركة، قائلا إن «غايته المثلى هي توسيع المشاركة الشعبية في التنمية. فمن لا يمارس السياسة الفاضلة بالمواطنة الملتزمة، فإن السياسة الرذيلة تستغله بالأساليب التضليلية لأغراض مقيتة: انتهازية أو عدمية مرفوضة، متطرفة أو إرهابية محرمة»، مضيفا ومخاطبا المغاربة: «إنكم بالإدلاء بأصواتكم، لا تختارون من يمثلكم للسنوات الخمس المقبلة فقط، وإنما تحددون أيضا مستقبلكم ومستقبل أبنائكم وبلدكم. فعليكم ألا ترهنوا مصيركم ببيع أصواتكم وضمائركم لمن لا ضمير ولا أمانة له، ففي ذلك تنازل منبوذ عن حقكم الدستوري في الانتخاب الحر، وتفريط غير مقبول في شرف مواطنتكم وكرامتكم».

واعتبر العاهل المغربي، في الخطاب الذي بث عبر شاشة التلفزيون والإذاعة، الانتخاب من مقومات المواطنة المسؤولة، مشيرا إلى انه «لإعطاء عملية الاقتراع شحنة قوية ودائمة يتعين دعمها بالمشاركة الديمقراطية، مشاركة لا تنحصر في يوم الاقتراع، بل تتطلب الانخراط الدائم في ورش التنمية والمواطنة». كان واضحا للجميع أن العاهل المغربي بات جادا في اختياراته التي رسمها منذ توليه الحكم صيف عام 1999، وشرع فعلا في الضرب على الأيادي التي اعتادت التلاعب بإرادة الناخبين وإطلاق حملات انتخابية سابقة لأوانها، فاللجنة المشتركة بين وزارتي العدل والداخلية رصدت قبل أسبوع 504 خروقات انتخابية أحيل مرتكبوها الى النيابة العامة للتحقيق معهم. ويبقى التحدي الأخير، الذي يكتمل به الثالوث، والذي لا يتحدث عنه المسؤولون المغاربة مباشرة في علاقة بالانتخابات متمثلا في توفير الأمن لتمر العملية الانتخابية بسلام، خصوصا أن البلاد تعيش منذ شهور على إيقاع استنفار أمني، بعد سلسلة الأحداث الإرهابية التي هزتها في شهر ابريل (نيسان) الماضي، ومحاولة المهندس هشام الدكالي تفجير نفسه قرب حافلة للسياح بمكناس (وسط) بداية شهر أغسطس (آب) الجاري.

ويبدو الحقل الحزبي المغربي، عشية الانتخابات، أشبه بجسد يعاني سمنة مرضية ويحتاج إلى عملية شفط دهون في أقرب حمام تايلندي. فالبلاد تخوض الاستحقاقات بـ33 حزبا سياسيا غالبيتها لا يعدو كونه دكاكين صغيرة لا تمثل غير أصحابها، فبالأحرى أن تعبر عن تيار سياسي في البلاد، إذ أن المغرب يعرف تعددية حزبية تفوق بكثير تعدديته السياسية، ووسط هذا الأرخبيل السياسي، حاولت بعض الأحزاب لملمة شتاتها وتحقيق تحالفات في ما بينها، كل وفق ما تمليه عليه منعرجات تاريخه السياسي وتموقعاته على الخريطة الحالية.

نفضت أحزاب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاستقلال والتقدم والاشتراكية، التي شكلت العمود الفقري للغالبية الحكومية خلال الخمس سنوات الماضية، الكثير من الغبار عن تحالف الكتلة الديمقراطية، الذي شكلته في حقبة التحضير للتناوب التوافقي، وأعلنت التنسيق في ما بينها خلال الانتخابات، في ما يشبه توجيهها لرسالة بعدم رغبتها في تكرار سيناريو ما بعد انتخابات 2002، الذي ضيع عليها حقيبة رئاسة الوزراء، فيما قرر حزب العدالة والتنمية الأصولي المعارض الاكتفاء بإمساك يد حزب القوات المواطنة بقيادة رجل الأعمال عبد الرحيم الحجوجي، بينما اعدت الحركات الشعبية تحالفاتها على نار هادئة باندماج مكوناتها قبل أزيد من سنة ونصف السنة في الحزب الأم، فالعديد من الأحزاب بدأ يذوب في بعضه، بعدما لم تعرف غير الانشقاق باعتباره وسيلة لتدبير الاختلافات السياسية والايديولوجية لعقود طويلة، وهو أيضا حال الأحزاب اليسارية الصغيرة التي بدأت تبحث عن دفء سياسي وشد أزر بعضها بعضا لمقاومة رياح الانتخابات العاتية التي قد تصيب سفنها بالجنوح.

ورغم أن الحملة الانتخابية انطلقت شبه باردة، بيد أنه سرعان ما دقت النواقيس معلنة انطلاق مباراة الملاكمة بين اليسار والأصوليين، خصوصا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والعدالة والتنمية. فالزعيم الاتحادي محمد اليازغي لم يتوان عن إطلاق الرصاص على رفاق سعد الدين العثماني، الأمين العام للعدالة والتنمية، ساعات قبل انطلاق الحملة الانتخابية متهما حزب هذا الأخير بالترويج لأفكار سوداء وبث اليأس في صفوف المغاربة. ولم يتأخر العثماني بدوره كثيرا عن الرد على خصومه قائلا في تجمع خطابي له بالدار البيضاء نهاية الأسبوع الماضي أمام المئات من أنصاره: «أنتم تعرفون أن جهات كثيرة طالبت في مرات سابقة بحل العدالة والتنمية، وسيسجل لهم التاريخ أنه عشية الضربات الإرهابية قاموا بتصفية الحسابات الضيقة بأساليب منحطة»، مضيفا بنبرة حادة «إنه في الوقت الذي كان فيه المغرب في حاجة إلى تجاوز الحساسيات السياسية أراد بعض الخصوم تصفية الحزب»، مضيفا: «رغم أنهم يتشدقون بالديمقراطية فهم يحملون في جعبتهم الفكرية بذور الديكتاتورية والإقصاء»، على حد قوله.

وقال العثماني، إن «العدالة والتنمية سيبقى وفيا للشرعية الإسلامية والديمقراطية»، مبرزا أن «الديمقراطية ليست انتهازية، بل هي قناعة بأن الاختلاف يجب أن يدبر على أسس ديمقراطية، فالعدالة والتنمية يؤمن بالتعاون ويبقي يده مفتوحة للقوى السياسية التي تريد التعاون معه».

وهتف العثماني أمام أنصاره بقوة: «العدالة والتنمية لن يكون الحزب الأول أو الثاني في الانتخابات، بل سيكون الأول»، فصمت قوة التصفيقات الآذان. لكن الملاحظ أن هذه التصفيقات بقيت في بعض الأحيان حبيسة التجمعات الحزبية، فالشارع المغربي بدا لامباليا في الأيام الأولى للحملات الانتخابية، فقد اختفت تلك الكرنفالات التي كانت ترافق الانتخابات السابقة وأولئك الشبان الذين كان صياحهم يملأ مختلف الأرجاء، عوضهم آخرون يوزعون مناشير حزبية بهدوء، فالاجراءات الصارمة التي اتخذتها الدولة جعلت المرشحين يقودون حملاتهم بحذر شديد وخوف من أن يروحوا ضحية لكلمة أو تصرف يخرق القوانين. وسرقت بلدة ابن جرير، الأضواء خلال الانتخابات بعدما لم تكن أكثر من محطة ينزل عندها المسافرون إلى مدينة مراكش (جنوب)، يركبون حافلات منهكة، لتناول وجبة الشواء. فالمدينة التي يتمشى غالبية أطفالها حفاة وبملابس متسخة، صارت قبلة للصحافيين المغاربة والأجانب الذين حجوا إليها لمتابعة حملة فؤاد عالي الهمة، أحد المقربين من العاهل المغربي الملك محمد السادس طيلة السنوات الثماني لحكمه، إلى درجة شبهه الكثيرون بالرجل القوي للعهد الجديد.

لقد نزل خبر قبول العاهل المغربي التماس زميله في الدراسة عالي الهمة، الاستقالة من منصبه باعتباره وزيرا منتدبا في الداخلية ـ للترشح للانتخابات النيابية مثل الصاعقة، فلا أحد كان يتوقع هذا الخبر أسابيع فقط قبل الانتخابات. لكن مع مضي الأيام، استأنس الجميع بهذا التغيير المفاجئ في البوصلة، وباتوا يراقبون عن كثب الحملة الانتخابية للهمة الذي ترشح ضمن لائحة مستقلة واختار «الجرار» رمزا للائحته. إنه الجرار الذي أعاد حرث مجموعة من الحسابات السياسية وفتح الباب أمام كثير من التساؤلات عما جرى داخل دواليب السلطة أو ما يدور في ذهن عالي الهمة، ابن المدينة، العائد بعد سنوات من التموقع بين صقور السلطة التي تتعارك بشراسة. قرأ البعض ترشح الهمة في الانتخابات منذ البداية على أساس أنه تمهيد لظفره بحقيبة رئاسة الوزراء، بيد أنهم سرعان ما فهموا أن هناك سيناريوهات أخرى ما زالت لم تتوضح معالمها بعد، وهو ما لمح إليه سعد الدين العثماني، زعيم العدالة والتنمية في الدار البيضاء نهاية الأسبوع الماضي، عند حديثه عن الهمة بجفاء ظاهر قائلا: «ليس مهما أن يكون قد أقيل أو استقال»، مضيفا «لا أظن أنه سيكون الوزير الأول (رئيس الوزراء) المقبل، لأنه وعد بعدم تولي أية مسؤولية خلال خمس سنوات مقبلة»، مبرزا «حتى إذا ترشح وأصبح برلمانيا، فهذا لا يعني انه سيصبح سياسيا، فرئيس الوزراء يجب أن يكون قائدا سياسيا، وبالتالي فيجب على الهمة أن يقضي ما بين 5 و10 سنوات في أحد الأحزاب السياسية حتى يحتك، وبعد ذلك نرى».

عيون أجنبية لـ50 مراقبا ستلاحظ إلى جانب الجمعيات المغربية والمجلس الاستشاري المغربي لحقوق الإنسان الانتخابات من أجل الاطلاع على الطريقة التي يدير بها المغاربة شؤونهم السياسية. إنهم الملاحظون الأجانب الذين حدد المعهد الوطني الديمقراطي الأميركي (مقره بواشنطن)، أسماء غالبية أعضاء البعثة الأجنبية لملاحظة الانتخابات النيابية التي ستجرى في المغرب يوم 7 سبتمبر (أيلول) المقبل، إذ تضم البعثة ممثلين عن 13 بلدا، ضمنها الولايات المتحدة وكندا ومصر وإندونيسيا وسلوفينيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا.

وتضم البعثة الدولية للمراقبين خبراء وشخصيات رفيعة المستوى أبرزها لوزويز فان دير لان، رئيس الفريق النيابي السابق للديمقراطيين الاجتماعيين الأحرار في هولندا، وجيفارينا دجوهان الأمين العام المساعد لحزب اليقظة الوطني بإندونيسيا، ومنى مكرم عبيد ناشطة حقوقية، وبادي ترونسي الأمين العام المساعد لرئيس المعارضة الكندية.

وسيحل وفد المراقبين الأجانب بالمغرب يوم 3 سبتمبر المقبل من أجل الشروع في ملاحظة الحملة الانتخابية التي تقوم بها مختلف الأحزاب السياسية، وسيمكثون به مدة 10 أيام، من دون أن يعرف حتى الساعة اسم الشخصية الدولية المرموقة التي سترأس وفد الملاحظين الأجانب.

فيما زار وفد أولي المغرب ما بين 9 و16 أغسطس (آب) الجاري، من أجل عقد لقاءات مع ممثلي المجلس الاستشاري المغربي لحقوق الإنسان ووزارة الداخلية والأحزاب السياسية، إذ أعد الوفد تقريرا تركيبيا دعا فيه السلطات المغربية إلى تطبيق كل القواعد الخاصة بالحملات، مثل منع شراء الأصوات واستعمال الموارد العمومية أو موارد المؤسسات الدينية في الحملات الانتخابية بشكل متساو ومحايد، وكذا السماح بأكبر درجة من الانفتاح فيما يخص تنظيم الحملة وتبادل الأفكار مع الإعلان عن نتائج التصويت في أسرع وقت ممكن.

وأثير الكثير من النقاش حول المراقبة الأجنبية، خصوصا داخل الجمعيات الحقوقية المغربية التي اعتبر بعضها أن المعهد الوطني الديمقراطي الأميركي لا يتمتع بالاستقلالية الكافية للتنسيق بين السلطات المغربية والملاحظين الأجانب، كما أنه لن يكون أكثر من عين لأميركا على المغرب. ويعتبر الكثير من المتتبعين للانتخابات بالمغرب أنه لن تحدث أية مفاجأة، بل سيتم الحفاظ على الغالبية الحكومية الحالية نفسها مع بعض التعديلات، لكن السؤال الذي يردده الجميع بكثير من الحذر: «من هو رئيس الوزراء المقبل»، إنه السؤال الصعب في مسابقة «من سيربح المنصب؟».