الحلم أصبح حقيقة

مرور 60 عاما على تحطيم جدار الصوت واختزال المسافات.. و«بساط الرياح» بات أقرب إلى الواقع

طائرة كونكورد «سوبرسونك» فرنسية في مطار بادين جنوب المانيا (أ.ب)
TT

صادفت قبل يومين الذكرى الستينية لقيام الانسان باختراق جدار الصوت، ذلك الحاجز الكبير الذي كان حتى قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بقليل يعتبر من الامور المستحيلة. والسبب هو ان بعض العلماء كانوا يعتقدون ان مثل هذا الامر هو مخالفة صريحة لقوانين الفيزياء والاعراف العلمية المعمول بها في ذلك الوقت.

وعزز من قناعة هؤلاء ما كان يفعله الطيارون المقاتلون في معاركهم الجوية فوق اوروبا والمسرح الباسفيكي إبان الحرب العالمية الثانية، عندما كانوا ينقضون وراء مقاتلات وقاذفات الاعداء من الاعالي، ليطلقوا عليها النيران ويسقطوها، وكانوا في محاولاتهم هذه يطلقون العنان لمحركاتهم لتدور في اقصى سرعتها، مستفيدين ايضا من جاذبية الارض اثناء انقضاضهم الحاد ليقتربوا من سرعة الصوت. لكن ما ان كانت تبلغ طائراتهم سرعة معينة تقل قليلا عن سرعة الصوت حتى كانوا يفقدون السيطرة تماما على طائراتهم التي كانت ترفض الاستجابة لاصول القيادة كما كانت تفعل سابقا. وأدى ذلك الى فقدان ارواح الكثير من الطيارين المقاتلين الذين كانوا يستمرون في انقضاضهم السريع هذا حتى يرتطموا بالارض، من دون ان يتمكنوا من رد طائراتهم الى وجهتها السليمة واستعادة السيطرة عليها. وكانت طائراتهم احيانا تنفجر في الجو، او ينفصل احد اجزائها الرئيسية عنها بفعل السرعة الكبيرة وضغط الهواء مما يؤدي الى سقوطها. وكان احد الذين اختبروا هذه التجربة البريغادير جنرال تشارلز (تشك) ياغر الذي كان يقاتل على الجبهة الاوروبية في عام 1943. وكان انذاك برتبة ملازم ثان. لكن تشك نجا بفضل مهارته في احدى المرات عندما شعر بأنه بدأ يفقد السيطرة على طائرته «موستانغ بي 51» وهو منقض باتجاه الارض مطاردا مقاتلة المانية من طراز 109. وقد دفع هذا اللغز الى قيام ثلاثة مراكز ابحاث في وقت واحد في كل من المانيا وبريطانيا والولايات المتحدة ابتداء من عام 1943، لمعرفة اسباب هذه الحالة الجديدة التي يمر بها الطيارون لدى اقترابهم من سرعة الصوت. وقد احيطت الاختبارات البريطانية والالمانية بستار كثيف من السرية، في سباق جدي لتطوير طائرات مقاتلة اسرع من الصوت، لتحقيق النصر في الحرب.

ورغم ان نهايات الحرب الكونية شهدت ظهور النماذج الاولى من الطائرات النفاثة السريعة، لكن لم تكن سرعتها تتجاوز سرعة الصوت بأي حال. وكان الالمان السباقون في هذا المجال، لكن اقتراب الحرب العالمية من نهايتها لم تترك لهم الفرصة في التمتع بهذا الانتصار العلمي، ولم يتمكنوا طبعا، بعدما وضعت الحرب أوزارها وخسارتهم لها، من متابعة ابحاثهم في هذا المجال. اما البريطانيون فقد طوروا بعد الحرب مقاتلتهم النفاثة الاولى من طراز «ميستير» التي كانت تصل سرعتها الى 800 كيلومتر في الساعة، لكنها كانت بعيدة جدا عن سرعة الصوت، ولم يتمكنوا من احراز اي تقدم جديد بسبب تخلي وزارة الدفاع البريطانية عن حماسها السابق في هذا المجال بعد انتصار الحلفاء في الحرب. في هذا الوقت استطاع البريطانيون والاميركيون معرفة سر الحالة التي يمر بها الطيارون لدى الاقتراب من سرعة «ماك» (سرعة الصوت) لكنهم لم يتمكنوا من وضع يدهم على الحل. وكانت المشكلة كما اثبتتها لاحقا التجارب البريطانية وطائرة الاختبار الصاروخية «إكس 1» الاميركية، انه لدى اقتراب الطائرة من سرعة الصوت تبدأ كتلة هوائية ذات ضغط عال في التجمع امام مقدمة الطائرة محدثة موجات من الصدمات الكبيرة والدوي العالي. لكنها لدى اختراقها جدار الصوت، كما تبين لاحقا، فانها تخلف هذه الموجات الصدمية وراءها اشبه بالمخروط الذي يكون ذنب الطائرة هو مقدمته. وهو الذي يحدث هذا الدوي الهائل الذي يصاحب عادة قيام الطائرات باختراق حاجز الصوت. وتمكن البريطانيون أولا من اكتشاف الحل عندما رفع بعض طياري الاختبار من العسكريين ومهندسي التجارب تقريرا الى وزارتي الدفاع والطيران يقولون فيه ان الحل هو في جعل جناحي الطائرة تميل قليلا الى الوراء في زاوية تزداد طرديا تقريبا مع ازدياد السرعة ما فوق الصوتية. وقد أدى هذا الأمر، في ما بعد، الى تطوير الاجنحة المثلثة (دلتا) كما في طائرة الكونكورد المدنية مثلا، التي تصل سرعتها الى ضعفي سرعة الصوت (ماك 2)، والمقاتلة «إف-15»، او الاجنحة المتحركة الى الوراء او الامام في الطائرات العسكرية، كالمقاتلة «إف-14 تومكات» البحرية العاملة على ظهر حاملات الطائرات، او القاذفة الاستراتيجية «بي-1 بي»، التي تقارب سرعتها ماك ونصف، او اكثر بقليل.

المهم ان الاميركيين كانوا السباقين الى اختراق حاجز الصوت عندما قام الجنرال تشك ياغر صبيحة الرابع عشر من اكتوبر (تشرين الاول) 1947 باعتلاء مقعد القيادة في الطائرة الصاروخية «إكس 1»، وهي طائرة مخصصة للابحاث، ليصل فيها الى ارتفاع لم تبلغه طائرة قط من قبل ومحققا سرعة بلغت 1541 كيلومترا في الساعة. لكن لهذا الحدث الذي هز العالم انذاك وفاق في تأثيره نزول الانسان لاول مرة على سطح القمر عام 1969 قصة تروى.

فقد كلفت اللجنة الاستشارية القومية للطيران والفضاء NACA، التي سبقت تشكيل وكالة الفضاء والطيران الاميركية «ناسا» (NASA)، شركة «بيل» الاميركية للصناعات الجوية والفضائية، التي اشتهرت بصناعة طائرات الهليوكوبتر، تشييد طائرة اختبارية للابحاث لمحاولة تحطيم سرعة الصوت. وارتأى ان يكون محركها صاروخيا لكي يوفر الدفع الكافي لهذه السرعة الكبيرة. وفعلا ولدت الطائرة «اكس 1» التي كانت باكورة اسطول كامل من طائرات «إكس» الحرف الذي يرمز الى التجارب. وكان آخر العنقود الطائرة «إكس 15» التي بلغت سرعتها سبعة اضعاف سرعة الصوت، ووصلت الى حافة الفضاء الخارجي. وكان من اهم من اختبرها وحلق فيها نيل ارمسترونغ اول من حط قدما على سطح القمر، الذي كان يعمل آنذاك طيارا اختباريا قبل اختياره في سلك رواد الفضاء. وكانت الطائرة «إكس 1» بدائية جدا على صعيد التجهيزات، وان كانت تمثل قفزة مهمة الى عالم المستقبل. فقد كانت هذه الطائرة الصغيرة المصنوعة من الفولاذ المقسى والالمنيوم تتسع لرجل واحد هو قائدها يضعونه في مقصورة ضيقة يحكم قفلها، او مزلاجها من الخارج. وكانت مساحة الاجنحة لا تتعدى الـ12 مترا مربعا، ووزنها الفارغ 3175 كيلوغراما ووزنها الكامل مع الحمولة والوقود 5545 كيلوغراما. ولا يعمل محركها الصاروخي من طراز «إكس إل آر-11- آر إم3» اكثر من 5 دقائق متواصلة، لكنه يكفي لبلوغ هذه السرعة الكبيرة والارتفاع العالي، بعدما تسقطها الطائرة الام في الجو، نظرا لان خزانها من الوقود السائل المركب من الاوكسجين، وخمسة اجزاء اخرى من الكحول وجزء واحد من الماء، لا يتسع اكثر من هذه الكمية التي تكفي لهذه المدة القصيرة، لكنها كافية لبلوغ السرعة المنشودة وتسجيل القياسات الضرورية لتحط بعد ذلك شراعيا على الارض من دون دفع المحرك. والطائرة هذه ليست مجهزة بمظلة او مقعد منقذف، مما يعني مقتل قائدها حتما في اي خطأ اوعطب يصيبها. وقد جرى تشييد ثلاث طائرات من هذا النوع قامت في ما بينها بـ82 طلعة جوية تعاقب عليها 10 من خيرة طياري التجارب قبل ان تتقاعد من الخدمة عام 1950 لتعقبها بعد ذلك طرازات متطورة من هذه الطائرة اهمها «إكس- 15» المذكورة سلفا. وكان اول من اختير لقيادة هذه الطائرة كطيار اختبار تشك ياغر الذي كان برتبة مقدم في سلاح الجو الاميركي، الذي يمتلك سجلا حافلا في البطولات الحربية في الساحة الاوروبية، بعدما تمكن من اسقاط عشرات الطائرات الألمانية في المعارك الجوية. وفي احدى المعارك المحتدمة عام 1944 عصر يوم الخامس من مارس (اذار) تمكن الالمان من اسقاط طائرته ليقع اسيرا في ايديهم. لكنه استطاع الهرب بعد شهرين ونصف الشهر تقريبا ليعود في مايو (ايار) الى بريطانيا ويستأنف حربه على المانيا ويسقط الكثير من طائراتها. وفي عام 1947 انتدب للعمل في برنامج «إكس-1».

وفي صبيحة ذلك اليوم التاريخي تسلق الى مقصورة قيادة «إكس-1» حاملا معه عصا قصيرة يعالج بها مزلاج بابها لانه كان قبل يوم واحد قد كسر عظمة في كتفه بعدما سقط عن جواده اثناء نزهة قام بها بصحبة زوجته. وكان قد اخفى نبأ هذه الحادثة عن المسؤولين من المهندسين والعلماء المشرفين على هذا المشروع. وما ان اسقطت القاذفة ب- 29 التي حملت «إكس-1» وقائدها حملها في اعالي الجو حتى اطلق ياغر العنان لمحركه الصاروخي لينطلق بسرعة فاقت سرعة الصوت بكثير في اعالي الجو بالغا عتبة الفضاء مخلفا وراءه خيطا من الدخان الابيض، بينما محطات الرادار وعدسات التلسكوبات المقربة وكاميرات السينما تتابعه لحظة بلحظة لينتشر بعد ذلك الخبر بسرعة البرق في جميع ارجاء العالم فاتحا صفحة جديدة في تاريخ البشرية. ولم يكن جناحا هذه الطائرة انسيابيين لكنهما كانا قصيرين وصغيرين مع وجود محرك قوي يعوض بعض نقائصهما، ثم ان الطائرة هذه كانت صاروخية تحلق في اعالي الجو قرب حافة الفضاء، حيث الجو والهواء رقيقان جدا يغيران من طبيعة انسياب الطائرة وخصائصها، بحيث تزول فائدة هذا الانسياب. لكن القراءات والقياسات التي عادت بها، وكذلك قراءات التحليقات اللاحقة التي قامت بها كانت ثمينة للغاية ساعدت على تطوير مثل هذه الاجنحة المصممة للتحليقات ما فوق الصوتية. في هذا الوقت كان البريطانيون بعدما ايقنوا من ان الاجنحة الانسيابية هي الحل للانطلاق بسرعة «ماك» وما فوق قد طوروا من جهتهم اول طائرة نفاثة باجنحة انسيابية هي «الهوكر هنتر» التي قاربت سرعة الصوت والتي اثبتت فيما بعد انها مقاتلة جيدة استخدمها العديد من البلدان العربية، وعلى رأسها العراق ولبنان. وكانت بريطانيا قد انتجت قبلها طائرات نفاثة ولكن باجنحة عادية، وكذلك الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق قبل ان تتحول جميعها وفي وقت واحد تقريبا الى الطائرات النفاثة ذات الاجنحة الانسيابية والمثلثة (دلتا) التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، عندما بلغ سباق التسلح ابان الحرب الباردة اشده. ولعل الطائرات السوفياتية مثل «ميغ» و«سوخوي» على انواعها لابلغ دليل على ما وصلت اليه الطائرات الاسرع من الصوت، ونخص بالذكر «ميغ 31» والقاذفة «بلاك جاك» اللتين تستطيعان بلوغ سرعة 2.5 ماك.

لكن قمة الانجازات كانت تطوير طائرة الركاب كونكورد، التي توقفت قبل سنة تقريبا عن الخدمة لاعتبارات تجارية واقتصادية، والتي تستطيع التحليق بصورة مستمرة بسرعة تفوق سرعة الصوت بضعفين قاطعة المسافة بين لندن ونيويورك خلال ثلاث ساعات فقط تحت شعار «تناول فطورك الصباحي في لندن، وغداءك في نيويورك، وعشاءك ثانية في لندن».

لكن قمة الانجازات كانت مع تطوير طائرة الاستطلاع والتجسس الاستراتيجي «إس آر -71» الملقبة بـ«بلاك بيرد» (الطائر الاسود). المصنوعة كليا من معدن التيتانيوم النبيل التي تنطلق بسرعة تفوق سرعة الصوت بثلاثة اضعاف، والتي حطمت الرقم القياسي بين نيويورك ولندن عندما وصلت لتعرض نفسها قبل سنوات في معرض «فانبرة» الشهير للصناعات الجوية والفضائية والعسكرية قاطعة المسافة في اقل من ساعة و50 دقيقة. وعندما تحلق هذه الطائرة يتحول جسمها الى ما يشبه الجمر الملتهب بفعل الحرارة الناجمة عن احتكاك الهواء بها بهذه السرعة الهائلة، مما يحولها في كل مرة تحلق بها، الى طائرة مجددة الهيكل، لان الحرارة العالية تعيد صياغتها وصقلها من جديد، معيدة صهر اي عيوب او ثقوب او تصدعات في بدنها. وعلى طاولات الرسم حاليا مخططات وضعتها كل من شركة بوينغ ولوكهيد مارتن لطائرات تحلق بسرعات تصل الى تسعة اضعاف سرعة الصوت لتقطع المسافة بين لندن وسدني في استراليا في اقل من ساعتين. لكن الذي يقف حجر عثرة امام الشروع في تنفيذ مثل هذه المشروعات بسرعة هو بعض المصاعب التقنية التي ينبغي تذليلها اولا، وكلفتها الباهظة، وما اذا كانت مجدية اقتصاديا على المدى البعيد. لكن اهم اسباب التلكؤ هو الحفاظ على البيئة، كما اعلنت بوينغ مرارا وتكرارا والحفاظ على طبقة الازون، الا اذا نجح العلماء في استخدام بدائل وقود جديدة اساسه الهيدروجين مثلا، او الوقود الحيوي المستخرج من النباتات والنفايات. ويبقى أخيرا فان مستقبل السفر يبدو مشرقا جدا للانسان بعدما ان تذللت كثير من المصاعب وحطم حاجز الصوت، لتنفتح الابواب الان لشتى الامكانيات التي لم تكن تتوفر سابقا الا في الاحلام.