أزمة «سقف العالم»

الدالاي لاما التقى بوش وكرمه الكونغرس بالجائزة الذهبية لينضم إلى تشرشل والأم تريزا ومانديلا.. وهو ما أغضب الصين

الدلاي لاما يحيي مستقبليه امام مبنى الكونغرس الاميركي اول من أمس (أ.ف.ب)
TT

في أعقاب التركيز الشديد الذي حظيَّ به الزعيم الروحي للتيبت الدالاي لاما حول العالم، بدأت الصين تفقد اعصابها حول موضع وضع التيبت الحساس وهو منطقة جبلية وسط اسيا.

والتيبت، الخاضعة للسيطرة التامة للصين، هي أعلى منطقة في العالم ويشار اليها بأنها «سقف العالم». وتشعر الصين بضيق شديد منذ تجاهل العديد من قادة الدول الغربية تحذير الصين بخصوص استقبال وتكريم الدالاي لاما، زعيم التبت الروحي المنفي. واستضاف الرئيس الاميركي جورج بوش الدالاي لاما، الثلاثاء، وكرمه الكونغرس الاربعاء ومنحه الجائزة الذهبية، وقالت دانا بيرينو، المتحدثة باسم البيت الابيض، «لا نريد بأي طريقة إحداث جلبة وجعل الصين تشعر بأننا ندس عصاً في عينها.. وهو بلد لدينا علاقة جيدة معه في العديد من القضايا».

وقال غانغ غينغلي، زعيم الحزب الشيوعي في التبت، للصحافيين في الصين «نحن غاضبون». واضاف «اذا كان للدالاي لاما ان يتسلم مثل تلك الجائزة.. فلا بد انه لا يوجد عدل ولا اناس طيبون في العالم». ونفى البيت الابيض ان يكون اجتماع بوش مع الدالاي لاما، وهو الرابع منذ توليه منصبه، تدخلا في الشؤون الداخلية للصين. ولدى عودته الى فندقه في واشنطن، قال الدالاي لاما وهو يبتسم للصحافيين ومجموعة صغيرة من المؤيدين المبتهجين ان اجتماعه مع بوش كان «مثل التئام شمل عائلة واحدة». واضاف «من الطبيعي ان يظهر (بوش) اهتمامه بالتبت والسؤال عن الوضع هناك». ولدى سؤاله عن غضب الصين إزاء زيارته للولايات المتحدة اشاح بيديه قائلا «هذا يحدث دائما».

واستقبلت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل الدالاي لاما في برلين، الشهر الماضي، واصبحت اول مستشارة في المانيا تلتقيه بالرغم من التحذير الشديد من بكين من ان ذلك يمكن ان يضر بالعلاقات الاقتصادية. كما دعمت ميركل ايضا سعي الدالاي لاما لمزيد من الاستقلال الثقافي لبلاده. وقبلها، التقى مستشار النمسا الفرد غوسنبور الدالاي لاما. كما سيستقبله ايضا رئيس وزراء كندا ستفين هاربر في نهاية الشهر الحالي بالرغم من اعتراضات الصين.

وتعارض الصين اية اتصالات بين مسؤولي دول اجنبية مع الزعيم التبتي تحت أي شكل. وتقول الصين ان أي تعامل مع الدالاي لاما يعني التدخل في الشؤون الداخلية الصينية. والجدير بالاشارة إلى ان الدالاي لاما يسافر حول العالم للحصول على دعم لقضية بلاده.

وتدعي الصين ان التيبت جزء لا يتجزأ من الاراضي الصينية طوال 700 سنة الماضية، وأي امر يتعلق بها هو قضية داخلية صينية. وتعتبر الصين الدالاي لاما منفيا سياسيا يسعى لتأسيس دولة التيبت المستقلة، وهو اتهام ينفيه الزعيم الروحي البالغ من العمر 72 سنة والحائز جائزة نوبل للسلام عام 1989. ويقول انه يريد فقط مزيدا من الاستقلال الذاتي والاحترام للثقافة والعقيدة التيبتية.

ويعيش الدالاي لاما في الهند منذ فراره من التيبت عام 1959 خلال تمرد فاشل ضد الحكم الصيني، وأقام حكومته في المنفى في بلدة دارماسالا الهندية في الهيمالايا. وفي الوقت الذي تحاول فيه الصين التعامل مع هذا الوضع، حدثت واقعتان في شهر اكتوبر (تشرين الاول) الجاري زادت من توتر الصين.

فقد كرم الكونغرس الاميركي الدالاي لاما، ومنح ميدالية ذهبية من قبل الكونغرس اعترافا بدفاعه عن التكيف الديني وعدم العنف وحقوق الانسان وجهوده للعثور على حل سلمي لقضية التيبت عبر الحوار مع القيادة الصينية. وقد حصل على هذه الميدالية العديد من الشخصيات العالمية من بينهم سير ونستون تشرشل والبابا جون بول الثاني والأم تريزا ونيلسون مانديلا.

وهذه هي المرة الاولى التي يلتقي فيه رئيس اميركي مع الدالاي لاما في مناسبة عامة. وكان بوش، المعروف بتدينه قد التقى بالدالاي لاما عدة مرات في مسكنه الخاص بالبيت الابيض، في محاولة لتجنب إغضاب الصين. وكان رد فعل الصين حادا، إذ شعرت بالإساءة من تصرف الكونغرس الاميركي وحضور الرئيس بوش مناسبة التكريم.

غير ان البيت الابيض رفض اتهامات الصين، وقال ان زيارة الدالاي لاما لا يجب اعتبارها مفاجئة للصين منذ مناقشة بوش للموضوع مع الرئيس الصيني هيو جينتاو خلال قمة اسيا باسفيك الاقتصادية في استراليا هذا العام. وفي 10 اكتوبر الحالي في نيودلهي، اقتحم متظاهرون تيبتيون، في تصرف غير عادي، السفارة الصينية في دلهي، وربطوا انفسهم بالسلاسل على سور السفارة وكتبوا عبارة «حرِّرُوا التيبت» على جدران السفارة.

وكانوا يحتجون على قانون صيني جديد ينص على ان بوذا الحي لا يتقمص بدون تصريح من الحزب الشيوعي الملحد. وطالبوا بإلغاء وسحب كل الاجراءات الصينية الدينية الجديدة المتعلقة بالتقمص.

وكانت ادارة الشؤون الدينية الصينية قد اعلنت في شهر اغسطس (آب) الماضي قانونا يغطي «اجراءات الادارة لتقمص بوذا الحي في المذهب البوذي التيبتي». وذكر القانون الصيني ان كل حالات التقمص في المستقبل المرتبطة بالبوذية التيبتية يجب حصولها على موافقة الحكومة الصينية.

ولا يوجد أي شخص او جهة خارج الصين يمكنها التأثير على عملية التقمص، فقط الاديرة في الصين يمكنها التقدم بطلب. وتصر الصين على ان الحكومة هي وحدها التي يمكنها اقرار تعيين افضل حالات التقمص، بما في ذلك الدالاي والبانشين لاما، الرجل الاول والثاني في البوذية التيبتية. ويعتقد البوذيون التيبتيون بالتقمص، وان روح «بوذا الحي» تهاجر الى جسد طفل يولد بعد وفاة الراهب المقدس. ويتم التعرف على التقمص عبر بحث يشمل سلسلة من الاختبارات القديمة والدينية مثل التقاط اشياء تخص اللاما الميت. ولعدة قرون، ظلت عملية البحث عن تقمص اللاما تتم عبر مجموعة مختارة من الرهبان التيبتيين.

وطبقا للقانون الصيني الجديد، لم يصبح من حق التبتيين الذين يعيشون خارج الصين السعي للتقمص او الاعتراف ببوذا حي. وفي عام 1995، اختار الدالاي لاما طفلا في السادسة من عمره هو غندون تشوكي نيما ابانشين لاما رقم 11، وهو الرجل الشخصية الثانية بعد الدالاي. وقد اختفى الطفل وأسرته بعد ذلك ولم يسمع بهم احد. واختارت بكين بانشانا خاصا بها، هو غيالتسين نوربو، إلا ان مجموعة قليلة من التيبت تعترف بالطفل بانشانا.

وذكر المحللون انها محاولة من جانب الصين لإضعاف نفوذ الدالاي لاما. وقال المنفيون من ابناء التيبت ان محاولات الصين مستمرة لتخريب الثقافة البوذية التيبتية وتقوية سيطرة بكين على المنطقة. وكانت الصين قد اتهمت الدالاي لاما بأنه وراء الهجوم على السفارة الصينية في نيودلهي. وحثت الحكومة على معاقبة هؤلاء الذين اقتحموا المبنى. ويسيطر الحزب الشيوعي الصيني سيطرة قوية على القضايا الدينية.

وتخشى الصين من بعض الطوائف من امثال «فلون غونغ» من نشر افكار الاستقلال سيطرة الدولة.

وفي السنوات الاخيرة، غير الصينيون استراتيجيتهم في التيبت: فبالاضافة الى الاكراه العسكري، زاد اعتمادهم على الاستعمار العرقي والاقتصادي. فلهاسا عاصمة التيبت تتحول تدريجيا الى نسخة صينية من الغرب الاميركي، حيث تنتشر فيها البارات ومدن الملاهي البوذية!!! وذكرت الصحافية الهندية، كومي كابور، بعد عودتها من زيارة التيبت «ان زيارة التيبت توضح لك ان الصينيين غيروا بهدوء وبطريقة منظمة الصيغة الديموغرافية للهاسا للأبد. وهناك ضعف عدد الصينيين في لهاسا بالمقارنة بأبناء التيبت. والمناصب الرئيسية في قطاع الصناعة وفي الحكومة يسيطر عليها الصينيون الهان. والاحياء التيبتية لا تزال مناطق جذب سياحية إلا ان المجتمع قد تهمش.

وفي الوقت الذي تزعم فيه الصين ان التيبت كانت دائما جزءا من الصين، يمتد تاريخ التيبت المستقل 1300 سنة في الاقل مستقلة عن الصين. وفي عام 821 انهت الصين والتيبت ما يقرب من 200 سنة من الحروب بمعاهدة محفورة على ثلاثة اعمدة؛ واحد منها لا يزال قائما امام كاتدرائية جوخانغ في لهاسا. وتنص المعاهدة: تحافظ كل من الصين والتيبت على البلاد والحدود التي تسيطر عليها الآن.

غير ان التيبت أعلنت استقلالها رسميا عام 1912 من الحكم المنغولي واستمرت في التعامل كدولة ذات سيادة حتى الغزو الصيني الشيوعي عام 1949. وخلال الحرب العالمية الثانية، بقيت التيبت محايدة، على الرغم من الضغوط الكبيرة من الولايات المتحدة وبريطانيا والصين للسماح بمرور المواد الخام عبر البلاد.

وادارت التيبت علاقاتها الدولية بالتعامل عبر البعثات الدبلوماسية البريطانية والصينية والنيبالية والبورمية في لهاسا، ولكن ايضا عبر الوفود الحكومية التي تسافر للخارج. وعندما اصحبت الهند مستقلة، حلت محل البعثة البريطانية في لهاسا بعثة هندية. ويشكك المحللون في الزعم الصيني بخصوص التيبت. ويقولون انه اذا كانت التيبت جزءا من الصين، فليست هناك حاجة لاتفاق من 17 نقطة فرض على الوفد التيبتي في الصين عام 1951 ثم اعلنت الصين انه تم تحرير التيبت (من أي بلد). وفي الفترة ما بين عامي 1951 و1959 لم توف الصين بأي تعهد تجاه التيبت، مما ادى الى انتفاضة التيبت ضد الصين في مارس (آذار) 1959. وفر الدالاي لاما ومائة الف من ابناء البلاد الى المنفى. ومنذ ذلك اليوم اصبحت التيبت بلدا محتلا.

وفي أعقاب دبلوماسية عالية المستوى من جانب الدالاي لاما وزيادة التوتر في التيبت، سيطرت الصين على الناشطين التيبتيين. وتشير التقارير الصحافية من التيبت إلى انه في الشهور الماضية، زاد التوتر في اجزاء من شرق التيبت. وزادت الصين من جودها واعتقالاتها والقيود على التعبير الديني، ومن الحملات المعادية للدلاي لاما. وبدأت الجولة الجديدة من الحملات بعد اعدام سجين تيبتي في اغسطس بمنطقة كاردزي التيبتية ذات الحكم الذاتي. وكان قد اعتقل عام 2003 بعد قتل رجل صيني في خلاف حول استخراج المعادن من جبل، يعتبره التيبتيون موقعا مقدسا.

وتطورت الامور بعد الاعدام، عندما اعترض بدوي محلي على الإعدام وأيَّد الدالاي لاما في احتفال محلي في وجود الضباط الصينيين وأمام جمع من الآلاف. وذكرت التقارير انه منذ شهرين تجبر السلطات العسكرية الصينية السكان المحليين على ادانة الدالاي لاما، بينما طلب من الاطفال في المدارس المحلية كتابة موضوعات انشاء تدين الدالاي لاما «وعصابته الانفصالية» وإلا سيسجنون. ورفض العديد من الرهبان ادانة الدالاي لاما. وبدأت الامور تتوتر في المنطقة. وأعربت بعض المصادر عن خشيتها من ان عمليات القمع قد تزداد بسبب استراتيجية المواجهة التي تستخدمها السلطات.