صراع «الموزة» و«البرتقالة»

من يشرب «عصير» النصر في الانتخابات الكينية المقبلة

انصار تكتل «البرتقالة» اثناء تجمع في نيروبي بكينيا 6 اكتوبر الجاري (أ.ف.ب)
TT

هناك مقولة شعبية كينية تقول.. «ان الله جمع أجمل ما في العالم ووضعه في كينيا». فقد اكتسبت البلاد شهرة عالمية بطبيعتها الساحرة المتنوعة.. من الساحل الاخضر الدافئ المطل على المحيط الهندي شرقا، الى جبل كينيا المغطى بالثلوج في قمته طوال العام في الوسط، وترقد في الغرب بحيرة فكتوريا احد منابع النيل، بينما يشق اقليم الاخدود العظيم، العمق الكيني. وما بين هذا وذاك تمتد السهول والغابات والانهر والبحيرات والروابي الخضراء والصحارى لتتمتع كينيا بكل المناخات والتضاريس الجغرافية. لكن شيئا آخر ظل ينمو باطراد في هذه البلاد.. وهو المنظر السياسي. وخلافا لما اتسمت به العديد من الانظمة الافريقية من عدم استقرار سياسي، افرزته الانقلابات العسكرية والعنف وتسيد القبيلة والجهويات، فان كينيا لم تشهد سوى انقلاب واحد وبعض التحركات المحدودة في اواخر عقد الستينات واوائل الثمانينات. ورغم ما تعانيه كينيا من اتهامات بالفساد وارتفاع معدلات الجريمة، وتراجع خدمات العلاج والتعليم الا ان الممارسة الديمقراطية محسوبة على التقدم بأكثر من التراجع.

وخلال هذه الايام تجري حملة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية على قدم وساق لاختيار رئيس وبرلمان جديد، في سباق محموم ينطلق في ديسمبر (كانون الاول) المقبل. ومن ابرز المرشحين للرئاسة الرئيس الحالي مواي كيباكي وزعيم المعارضة رائيلا اودنقا. فالرجلان كانا «سمنا على عسل» خلال اخر انتخابات مماثلة عام 2002، بل ان الاخير ساعد الاول في الوصول الى كرسي الرئاسة.

في عام 2002، وبعد انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) تقلد كيباكي الرئاسة، بعد فوزه الكبير الذي ساهم فيه اودنقا عبر تشكيل جبهة تسمى «رينبو» (قوز قزح) مكونة من مجموعة احزاب سياسية صغيرة وشخصيات مؤثرة انشقت من حزب كانو أكبر الأحزاب السياسية الكينية، وأقواها نفوذاً على الاطلاق حتى ذاك الوقت. وتحول «كانو» بقيادة دانيال اراب موي، (الرئيس السابق) الى المعارضة بعد 24 سنة في الحكم، لكن معارضته كانت ضعيفة.

ومع مضي الايام والشهور دبت الخلافات داخل تجمع «قوس قزح» حيث اتهم الشركاء كيباكي بالتراجع عما التزم به في الحملة الانتخابية، وعلى رأسها موضوع تعديل الدستور واستحداث منصب رئيس الوزراء. وتم وضع مسودة دستور جديدة لم ترض شركاء كيباكي الذين صاروا اقرب للخصوم وشكلوا معارضة واضحة من داخل الحكومة بقيادة رائيلا اودنقا. ثم طرحت مسودة الدستور الجديدة في استفتاء في اواخر العام 2005، وشكلت معركة قوة حقيقية على الساحتين السياسية والدستورية، وانقسم الموقف ما بين مؤيد يقوده الرئيس كيباكي ويسمى بحركة «الموزة» ومعارض يقوده رائيلا اودنقا وسمي بحركة «البرتقالة». وانتظمت البلاد من اقصاها في يوم الاستفتاء في ممارسة ديمقراطية عالية، ورفض الشعب الوثيقة وسجلت المعارضة نصراً كاسحاَ.

لم يشأ الرئيس كيباكي ان يتجرع مرارات الهزيمة لوحده، بل اقدم على ان يسقي المعارضة من نفس الكأس. ولما له من صلاحيات، فقد قام بطرد كل الوزراء «المتمردين» كما يطلق عليهم من اعضاء البرتقالة من الحكومة وعلى رأسهم رائيلا اودنقا الذي كان وزيراً للمواصلات، وكالترومسبوكا وزير الخارجية ونجيب بلاله نجم الساحل، وعدد اخر من الوزراء. ثم كانت المفاجأة ان أقصي حزب كانو، زعيمه دانيل أراب موي ونصب اوهورو كنياتا نجل الزعيم جوموكنيانا نفسه زعيماً للحزب، ثم انضم لتحالف البرتقالة. وافرزت تحالفات العشرات من الاحزاب المنضوية تحت لوائي حركتي البرتقالة والموزة ما يمكن ان يسمى بطموحات القادة واشواقهم لقطف الثمار، فكان ان ترشح للرئاسة كل من رائيلا اودنقا، كالنزو مسبوكا، نجيب بلالا، اوهورو كنياتا. ثم ترشح الرئيس كيباكي عن حزب الوحدة الوطنية ورشحت وزيرة الصحة، شرتي انقولو، التي اقيلت مؤخرا، نفسها عن حزب (نارك) المتحالف وهي سياسية نافذه ورئيسة للحزب، الا ان فرص المنافسة تبدو مواتية الان لكل من الرئيس كيباكي، رائيلا اودنقا وكالترو مسبوكا.

وفي 7 اكتوبر (تشرين الاول) الجاري اطلق رغيم المعارضة الكيني، زعيم تحالف البرتقالة الديقراطي، رائيلا اودنقا برنامجه للرئاسة متعهدا ان يخرج كينيا من منظومة دول العالم الثالث والدخول الى العالم المتقدم بحلول عام 2020. وقال رائيلا: سيكون للكينيين حكومة واحدة هي التي انتخبوها بعيدا عن الآليات غير الرسمية التي تتجذر فيها القبلية والمحسوبية التي كانت ولا تزال تمثل آليات دفع حقيقة تسير بها الحكومة الحالية والسابقة.

وتعهد رائيلا بالعمل على وضع دستور جديد عقب انتخابه يخفض من خلاله السلطات الرئاسية، كما تعهد بمحاربه الفساد والكسب غير المشروع الذي وجد ملاذاً امناً ـ كما قال ـ في قصر الرئاسة. وأضاف «سنكون اول حزب وأول بلاد تهزم رئيسا وهو على سدة السلطة».

وحسب المراقبين فان فرصة الفوز لرائيلا اودنقا في الانتخابات الرئاسية مواتية اذا تمكن في اول خطوة من اقصاء منافسيه المترشحين لكرسي الرئاسة من نفس تحالف البرتقالة الديمقراطية. كما ان اودنقا يمتاز بسحر جماهيري كبير، وهو تربى في كنف والده نائب الرئيس السابق ثم زعيم المعارضة، ودخل المعتقلات وتمرس في التجارب السياسية منذ فترة مبكرة اضافة الى انه لعب دوراً مؤثراً في انتخابات عام 2002. التي اتت بكيباكي رئيسا. واستطاع رائيلا في 2002 ادخال العديد من الاحزاب الصغيرة وتوحيدها داخل تحالف قوس قزح محققا نصراً ساحقاً بناء على برنامج سياسي يرتكزعلى اصلاحات واسعة لمحاربة الفساد الذي استشري في المجتمع الكيني. وهو الذي عمل على حشد الجماهير ضد مشروع الدستور الذي قدمه كيباكي، وربما يضاف الى رصيد رائيلا اودنقا ان الشعب جأر بالشكوي ليس من تقاعس الحكومة عن محاربة الفساد فقط بل الضلوع فيه من قبل رموز كبيرة في السلطة فكانت فضائح انجلولا يستق وقلودبيرج التي هي امام المحاكم الان.

اضافة الى ذلك فان دائرة رائيلا الانتخابية في نيروبي تضم مناطق الفقراء الذين يعيشون في قاع المدن وهوامش المجتمع، والذين يرون في رائيلا املاً للخروج من وهده ما هم فيه. وصار من الواضح تحلق الفنانين والمبدعين حول رائيلا باعتباره يمثل عوالم هي ليست في اولويات الحكام. وحسب اخر تقرير وإحصائيات صدرت أخيرا فان رائيلا سيهزم كيباكي بأكثر من مليون صوت.

قد يكون لدى الرئيس موالي كيباكي حظا اوفر في انتخابات الرئاسة القادمة منه في الانتخابات البرلمانية، فهو معروف للناس وظل يتقلد المناصب الرسمية منذ الاستقلال وحتى الان، وعين خلال تلك الفترة وزيرا في عدد من الوزارات ونائبا للرئيس دانيال ارب موي في فترة ما. وقد فشل كيباكي مرتين في الفوز بمنصب الرئاسة في انتخابات عام 1992 وعام 1997 ولكنه نجح في انتخابات 2002 بمساعدة رائيلا وتحالف قوس قزح. وما يدعم موقفه هو ان توقير الكبار لدى الكينيين، يعد ثقافة راسخة في المجتمع، فالشعب يميل الى ان يتولي الكبار الاخذ بزمام الامور. والعديد من الشخصيات السياسية من الكبار سناً، ما يزالون في مواقع السلطة منذ الاستقلال. وقد يكون اكثر حظاً اذا وجد دعما من الرئيس السابق موي في هذه الانتخابات عن طريق حزب كانو، وتذهب المؤشرات الى ان ابن الزعيم كنياتا، قد يدعم الرئيس كيباكي خاصة بعد فشله في تصدر قائمة حركة البرتقالة للانتخابات الرئاسية، ويعود بكانو مرة اخرى لحظيرة الرئيس السابق موي، حتى يكون الاوفر حظاً في خلافه كيباكي في انتخابات عام 2012.

ورغم كل الصعوبات والإخفاقات التي تواجهها حكومة كيباكي، فانه يحسب لها ان معدل النمو قد سجل تقدما لا باس به بلغ 6.1 في المائة. ويتهم كيباكي بانه يبدد موارد الدولة بالصرف على حملته الانتخابية وانهم سيغرقون الناخبين بالاموال المنهوبة من دافعي الضرائب، وقد اصبح واحد من شعارات البرتقالة «خذوا منهم الاموال فهي لكم وصوتوا لحافظ اموالكم رائيلا».

ويبقى اخيرا السؤال دوما الى من تذهب اصوات مسلمي كينيا. فعددهم نحو 30% من السكان البالغ 33 مليون نسمة يتمركزون اساسا على الساحل الشرقي للبلاد بينما تنتشر اقليات صغيرة في معظم انحاء كينيا وبالذات في المجتمعات الفقيرة. والمسلمون في الساحل خليط عرقي عربي افريقي صاغه العرب الذين قدموا عبر المحيط من المنطقة العربية وبالذات من سلطنة عمان قبل اكثر سبعة قرون، فتزاوجوا مع السكان المحليين (البانتو) ونشروا الاسلام والثقافة والحضارة العربية من موزمبيق للصومال.

وإذا تجولت في شوارع ممبسا، كبري مدن الساحل او لامو، وتطلعت الى المشربيات والأبواب الخشبية الضخمة والأزقة، وتخشاك النسائم حاملة رائحة التوابل والعطور والبخور العربية، فحتما سيخيل اليك انك في احضان مسقط او صنعاء او دمشق القديمة. فمعظم السكان في الساحل احتفظوا بسحناتهم العربية أو لونهم الخلاسي او الافريقية الصرفه، لكنهم جميعهم سواحيليون يتحدثون السواحيلية التي هي خليط من العربية واللهجات الافريقية بجانب الانجليزية. ومن ابرز الشخصيات الساحلية، نجيب بلالا وهو ابن احد اكبر واغنى الاسر في ممبسا وهو ايضا من ابرز وجوه المعارضة وينتمي الى حركة البرتقالة، وكان احد الوزراء الذين اقالهم كيباكي بعد الاستفتاء. وبالرغم من اقدامه على ترشيح نفسه للرئاسة على ورقة البرتقالة، الا ان لنجيب بلالا قناعات في ان وصول مجموعة البرتقالة الديمقراطية لسدة الحكم بقيادة رائيلا ستفتح الفرصة واسعة امامه لخدمة اهداف التحالف واشواق المسلمين واهل الساحل.

وهنالك ايضا شيراو على ماكوير الذي تقلد حقيبة الخارجية في وقت سابق، وهو حاليا وزيرا للنقل وينتمي لكلتة حزب الوحدة الوطنية الداعمة للرئيس كيباكي. وقد تعرض نجيب بلالا لضغوط كبيرة من اهل الساحل ليترشح للانتخابات الرئاسية على ورقة البرتقالة الديمقراطية ليكون لاهل الساحل والمسلمين مقعداً رئاسياً يدعم كيان المسلمين الذين اخذ كفاحهم السياسي الرامي لتاكيد هويتهم ومشاركتهم، في التنامي خاصة بعد احداث 11 سبتمبر في اميركا وطرح الادارة الاميركية والغرب مشروع ما يسمي بمكافحة الارهاب.

فالمسلمون في كينيا يتعرضون لمضايقات ويقول بعضهم ان الامر يتم «بإيعاز من الأميركيين» الذين ثبتوا وجودهم على الساحل الكيني وقاموا بتدريب العشرات من عناصر الامن لمواجهة الارهاب في كينيا ودعموا الحكومة الكينية بسخاء خاصة بعد تفجير السفارتين الاميركيتين في كل من نيروبي ودار السلام في حقبة التسعينات. ومن اهم مطالب المسلمين الكينيين، الاخذ بالشريعة الاسلامية في روح القانون للتعامل مع قضايا المسلمين وإيقاف الاجراءات التي تمس حريات المسلمين، وتأكيد حقوقهم الدستورية والقانونية كمواطنين بالدرجة الاولى. وتتبارى كل القوى السياسية لوضع مطالب المسلمين في برامجها الانتخابية.