برنامج الصدمة

طرحت جماعة «الإخوان» في مصر أجندة سياسية جديدة أثارت شكوكا حول الديمقراطية والنموذج الإيراني وزادت مخاوف المرأة والأقباط

محمد حبيب نائب مرشد جماعة الاخوان المسلمين في مصر يرى من خلال مرآة تعكس آيات قرآنية خلال حديث مع «رويترز» في 25 اكتوبر الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

عندما طرحت جماعة الإخوان المسلمين في مصر برنامجها السياسي لأول مرة في تاريخها، قبل أسابيع قليلة «نخبويا»، وليس شعبيا أو جماهيريا، كما كان متوقعا لـ«استبيان» الموقف منه، استعادت الجماعة صاحبة الصدام الأكبر مع الحكومة المصرية، ضجيجها مع الشارع السياسي في مصر، إذ أن البرنامج الذي سبقه ترويج، وجدل إعلامي كبير، جاء على خلفية أن الجماعة قررت أن تطرح نفسها سياسياً، فضلا عن أنه محاولة رفع الضغوط وحملات الاعتقال ضد قيادات وكوادر الجماعة.

غير أن البرنامج جاء مخيبا لآمال الكثيرين، بل إن خبراء اعتبروه بمثابة «الصدمة» في وقت كان الجميع ينتظر من الإخوان طرحا مختلفا وتغييرا جذريا في الآراء والموقف انتصارا للتوجه «السياسي» للجماعة، لكن الأمر لم يعد كونه «مراوغة إخوانية جديدة» انتصر فيها أصحاب التوجه «الدعوى» داخل الإخوان، لكن هذا لم ينفِ بعض الأمور الايجابية الأخرى في البرنامج على حد وصف المراقبين، وأولها أن الجماعة عندما قامت بتوزيعه على شخصيات نخبوية أظهرت شكليا على الأقل رغبة في التقارب وإقناع أطراف غير إخوانية بإمكانية التلاقي والحوار.

برنامج الإخوان الذي أثار، وما زال يثير، حالة من الجدل الشديد داخل الأوساط السياسية في مصر، زاد حدة التخوفات تجاه الآخر، خاصة فيما يخص المرأة والأقباط، وطرح شكوكا عديدة حول الموقف من الديمقراطية التي كانت الجماعة حريصة في معظم المواضع باستبدالها بـ«الشورى»، فضلا عن أن الكثيرين اعتبروا أن الطرح الإخواني، هو اقرب أو أشبه بالدولة الدينية علي غرار النموذج الإيراني، خاصة عندما اخترعت ما يسمى بـ«لجنة العلماء» التي تعطي رأيها للبرلمان وهو ما تم اعتباره استنساخا من «لجنة الخبراء» في النظام الإيراني.

وبدا هذا الاعتقاد متزايدا لدى كثيرين من الذين اطلعوا على البرنامج بسبب ما رأوه ارتكازا من جانب الجماعة على مقاصد الشريعة الإسلامية خاصة في ما يتعلق بوجود هيئة العلماء، إذ اعتبروا أن الوضع بهذا الطرح سيكون حكما دينيا، ولم يمنع إغفال الجماعة المطالبة علانية بتطبيق الشريعة الإسلامية، إزالة هذه الهواجس إذ اعتبروا أنهم لم يذكروها نصا، ولكنهم ذكروها ضمنا، ملوحين، من بين طيات البرنامج، بما يمكن أن يعيد إحياء العمل بمبدأ الحسبة مرة أخرى. ووجهت انتقادات أخرى للبرنامج، ولكنها كانت أقل خفوتا من القضايا السابقة خاصة في المحددات التي وضعتها الجماعة على السياحة والسياح بتأكيدها على ضرورة أنه يُفترض على السياح احترام عادات الشعب المصري وتقاليده، وكذلك مراعاة ضوابط الشريعة الإسلامية قبل وصولهم مصر، باعتبار أن ذلك سيمثل منعا لكثير من أهم أنواع السياحة في مصر، وهي السياحة الترفيهية التي تتركز في المناطق الساحلية بما يضر بالدخل العام ويؤشر لتكريس مبدأ الدولة الدينية، فضلا عن إلغاء الكثير من النظم الاقتصادية والمعاملات المالية مثل البورصة من دون أن يضع البرنامج بدائل لذلك.

الجدل حول برنامج الإخوان وهواجسه، لم يقتصر على الانتقادات السياسية في الشارع المصري، ولكنه امتد إلى محورين آخرين غاية في الأهمية، أولهما وربما أكثرهما تأثيرا أن جدل انتقل إلى داخل الجماعة، إذ تبين أن قطاعا عريضا من قيادات الإخوان «الانفتاحية»، أو ما يعرفون اصطلاحا بـ«التيار التجديدي»، وكذلك أغلبية من شباب الجماعة، كانت لهم اعتراضات مشابهة لانتقادات من هم خارج الإخوان، حيث اعتبروا أن ما جاء في البرنامج لا يوافق طموحاتهم لمحاولة الاندماج داخل المجتمع، وإقناع التيارات الأخرى بحقيقة وجود تغيير مهم داخل الإخوان يؤمن بالديمقراطية والتعددية والقبول بالآخر بعيدا عن أي تعصب.

واعتبر البعض وعلى رأسهم القطب البارز الدكتور عصام العريان بأنه كان من الأفضل «الصمت» إزاء بعض القضايا حتى ولو ترك ذلك حالة من الغموض، باعتباره كان أفضل من إعلان موقف يتعارض مع توقعات ومطالبات وطموحات اغلب الناس في البرنامج مثل رفض تولي المرأة والأقباط لرئاسة الدولة، وبعيدا عن كلام «العريان»، فإن ذلك وضع الجماعة أو قادتها المسيطرين في مأزق عنيف لمحاولة إقناع شبابهم برؤاهم وتصوراتهم، وهو ما جعل عدداً من قادة الجماعة أمثال عضو مكتب الإرشاد الدكتور محمد مرسي يعقدون لقاءات مع شباب الإخوان خاصة النشطاء والمدونين لتوضيح رؤى الجماعة وتهدئتهم تجاه هذه الهواجس والانتقادات.

المحور الثاني في مأزق الإخوان الداخلي هو المفاجأة التي صدَّرها عددٌ من قيادات التنظيم الدولي للجماعة في الخارج خلال ندوات ناقشت البرنامج كان أبرزها المؤتمر الذي عقد في مركز «أبرار» في لندن، بمشاركة زعيم كتلة الإخوان في البرلمان المصري الدكتور سعد الكتاتني، ومؤتمر «النضال من أجل مستقبل مصر» بإحدى الجامعات البريطانية، وكان لافتا انتقاد عبد المجيد مناصرة ممثل حركة «مجتمع السلم» بالجزائر، للبرنامج، واعتبره غامضاً، في ما يتعلق بطبيعة الدولة ونظامها السياسي، لافتا إلى أن ذلك يترك الباب مفتوحا أمام إخافة الآخر، ويعطي وصاية لرجال الدين على البرلمان، في إشارة إلى «لجنة العلماء»، لافتا إلى أن مثل هذه الهيئة تخالف مفهوم الدولة المدنية.

وحسب ما نقل من تقارير عن مؤتمر «أبرار»، فإن راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية، رفض، في مناقشات جانبية لبرنامج الإخوان خلال المؤتمر، تحريم الولاية لغير المسلم أو للمرأة، وطالب بتحرير البرنامج من نقطة ليست ملزمة، وهي «إسلامية» رئيس الدولة، بينما أكد علي صدر الدين البيانوني، المراقب العام لإخوان سورية، في مناقشات مماثلة، على حق المرأة وغير المسلم في رئاستي الحكومة أو الدولة، معتبراً أنهما ليسا «ولاية عظمي»، وكذلك فإن كمال الهلباوي أبدى تحفظات كثيرة، بشأن ما ذكر عن رفض ولاية المرأة والأقباط، وكذلك إدخال الدين أو الإسلام في قضايا جزئية.

الدكتور عمرو الشوبكي الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، اعتبر برنامج الإخوان «صدمة» لكثيرين، بل وصفه بأنه ربما يكون الأسوأ في تاريخ الجماعة، مقارنة حتى ببرامجها الانتخابية المختلفة، موضحا أن صياغة البرنامج تكشف عن أن هناك أكثر من يد وأكثر من رؤية صاغته، مشيرا إلى أن بصمة التيار الديني الدعوي كانت العليا.

وأشار «الشوبكي» إلى أن البرنامج جاء في مبادئه وتوجهاته باهتا، ويكرر عموميات لا تمثل أية إضافة فكرية أو سياسية، وانشغل بوضع الديني في غير محله وأقحمه في قضايا جزئية وتفصيلية يجب ألا يدخل فيها، مثل مجال السياسات العامة، كالصحة والتعليم والسكن، والمواصلات وغيرها، وهو الجانب المتغير في السياسة، ولا تنتمي إلى الخيارات الفكرية التي تتغير بدورها، ولكن ببطء، لافتا إلى أن البرنامج ضرب أمثلة في غاية السذاجة لا يمكن اعتبارها منهجا، وإنما يمكن اعتبارها قيما أو مبادئ يتم الاستفادة منها في صياغة قواعد قانونية حديثة لمكافحة الجريمة، قابلة للخطأ والصواب والتغيير، أما الدين فهو غير قابل للخطأ والصواب والتغيير.

ووصف «الشوبكي» الطرح بوجود هيئة دينية مهمتها مراقبة القوانين الصادرة عن مجلس الشعب (البرلمان) ورئيس الجمهورية (الدولة) بأنه يمثل انتكاسة حقيقية في خطاب الإخوان، ويضع أساسا لدولة دينية تتناقض ليس فقط مع تقاليد الدولة المدنية المصرية، إنما مع التراث المدني الذي صنعه الإخوان أنفسهم والدور الذي لعبوه في الحياة السياسية وتحت قبة البرلمان وفي داخل النقابات المهنية، ليعودوا مرة أخرى، ويتحدثوا بشكل صريح عن دولة دينية تساهم في وضع قوانينها هيئة من كبار العلماء.

أما المفكر القبطي الدكتور رفيق حبيب، والذي يعد أحد المقربين الشديدين من الإخوان، فكان احد المدافعين عن فكرة هيئة العلماء، بعكس ما حدث من تخوفات كبيرة لدى مسلمين وأقباط، وقال إن الطرح يهدف إلى تحديد آلية يتم من خلالها تطبيق الشريعة الإسلامية، هي الآلية البرلمانية المتعارف عليها في النظم الديمقراطية، بأن يكون البرلمان صاحب القرار في إصدار القوانين، وتكون المحكمة الدستورية العليا هي الجهة التي تحكم بدستورية القوانين بشكل عام، أو بعدم دستوريتها، نافيا أن يكون لهيئة العلماء أي دور في التشريع، وأن البرلمان يسألها عن رأيها، ثم يقرر ما يشاء.

وبينما كشف المفكر القبطي أنه يمكن إلغاء فكرة «هيئة العلماء» من برنامج الإخوان، قال إنه لا تزال هناك وجهة نظر داخل الجماعة لم تتغير تَعْتَبِرُ رئاسة الدولة نوعا من الولاية العامة وقاصرة على المسلم الذكر، وأن هناك وظائف يقوم بها رجال الدولة، منها فكرة حراسة الدين وهي من الوظائف الدينية الإدارية لرئيس الدولة يصعب على المسيحي القيام بها لأنه غير مؤهل، أو لأن هذا يفرض عليه التزام الشريعة الإسلامية بشكل يتعارض مع معتقداته المسيحية، وأن من حق رئيس الدولة أن يصدر قوانين في غياب البرلمان، ويفترض في هذه القوانين أن تكون متفقة مع الشريعة الإسلامية. وأوضح حبيب أن الإشكالية التي تواجه الجماعة الآن هي كيفية صياغة نص يحافظ علي حق الأمة في الاختيار والجميع في الترشيح (للمناصب العليا) سواء أكان مسلما أم مسيحيا أم امرأة، وبين رؤية الجماعة الخاصة فيمن تفضل ترشيحه، معتبرا أن البرنامج احتوى على المنهج الديمقراطي في المساواة والمواطنة بصورة كاملة ومتكاملة، بما يعد تطورا مهما وخطوة كبيرة، لم يسبق أن قدمتها الجماعة في وقت من الأوقات. وأشار المفكر القبطي إلى أنه يمكن ملاحظة أن هناك فجوة في المصطلحات بين التيارات السياسية، ورغم ذلك فإن الفريق المنحاز لحق الجماعة في العمل السياسي، رأى أيضاً في البرنامج بعض التخوفات الأساسية، جعلته ينظر إلى أن ما تم طرحه قد يؤثر على مدنية الدولة أو على ديمقراطية العمل السياسي، موضحا أن أكثر المشكلات التي يحدث فيها خلط، ما يخص معنى العمل الدعوي والعمل السياسي؛ فالبعض يرى أن العمل الدعوي هو العمل الديني البحث، ولكن الجماعة ترى أن العمل الدعوي هو العمل الذي يخص نشر رؤيتها بين الناس بما فيها رؤيتها الاجتماعية والسياسية. من جانبه قال النائب الثاني للمرشد العام للجماعة الدكتور محمد حبيب والمسؤول الأول عن إعداد البرنامج: تلقينا العديد من الملاحظات على البرنامج من الشخصيات التي تم طرحه عليها، ونقوم الآن بفرزها وتصنيفها قبل عرضها على عدد من ورش العمل، التي ستعقدها لمناقشة هذه الملاحظات.

وحول الانتقادات التي وجهت للبرنامج خاصة فيما يتعلق بموضوع هيئة العلماء، نفى حبيب أن يكون ما ورد في برنامج الجماعة بشأن اللجنة أو هيئة العلماء يتشابه مع النموذج الإيراني حسبما تردد، وقال: نحن قصدنا بهيئة العلماء أن تكون منبثقة عن الأزهر أو مؤسسة تابعة له، ولم نبتدع شيئا آخر، وأن يكون شأن هذه الهيئة شأن اللجان العلمية التي تشكل في أية وزارة، ويكون رأيها استشارياً وليس ملزماً، على غرار مجمع البحوث الإسلامية مثلا، لافتا إلى أنه يجب أن تكون المؤسسة الأزهرية وما يتبعها مستقلة عن السلطة التنفيذية لتطرح رؤاها بعيدا عن أية سيطرة. وأضاف النائب الثاني للمرشد العام بقوله: نحن لم نورد في البرنامج على الإطلاق أن يكون للجنة العلماء أية سيطرة أو هيمنة أو حتى إلزام لأي جهة، ولكن ما نراه أن مجلس الشعب هو صاحب الحق الأصيل في التشريع وسن القوانين، ويبدو أنه حدث التباس في فهم مسئولية هذه الهيئة، لأننا نرى أن رأيها استشاري وليس إلزامياً، وأن تكون تابعة للأزهر الشريف، وهي مجرد آلية عمل للتواصل ويمكن أن «نغض الطرف» عنها، لأنها ليست من الثوابت التي يمكن أن نتمسك بها.

وعن إمكانية أن تغيّر الجماعة موقفها من رفض حق الأقباط والمرأة من الولاية الكبرى، وهو منصب رئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء، والذي اعتبره المراقبون طرحا مخالفا للديمقراطية، قال النائب الثاني للمرشد العام، إن هذا خيار فقهي لنا، وليس معناه أنه لا توجد خيارات فقهية أخرى، مشيرا إلى أن الجماعة إذا لم يكن لديها رغبة في الحوار والمناقشة ولا تريد أن تسمع غير آرائها، لما أرسلت البرنامج بصيغته الأخيرة لما يقرب من 50 من الشخصيات من سياسيين ومفكرين وباحثين، وأضاف: «نحن أرسلنا البرنامج للنخب لتقول رأيها وملاحظاتها، ونحن قصدنا ذلك من أجل إثراء الفكر والرأي».

وأكد حبيب أن الجماعة لم ترسل برنامجها للنخب لمجرد أن يقال إننا منفتحون على الآخر أو لأغراض تكتيكية أو سياسية، وما قمنا به حتى الآن، هو قراءة أولية سوف يتبعها صياغات أخرى وتعديلات جديدة، ربما تتضمن إضافة أو حذفا أو حتى إحداث تغيير لبعض القضايا والنقاط المثارة، مشيرا إلى أن الجماعة تقوم بجمع كل ما يكتب وما يثار في الإعلام، قبل القيام بفرز وتصنيف الملاحظات المطروحة.

ولم يستبعد حبيب إجراء تغييرات مهمة على البرنامج، وقال: سنقوم بإجراء حوارات ومناقشات عبر ورش عمل مع من اطلعوا على البرنامج من النخب لمزيد من الإثراء والانفتاح، لافتا إلى أن الجماعة لم تقدم برنامجاً للتوافق الوطني بين مختلف القوي السياسية، ولكنها تقدم برنامجها وفق خياراتها الفقهية. وشدد حبيب، من دون إفصاح، عن أن هناك مجموعة من الأمور الجوهرية التي لا يظن احتمالات تغييرها، وقال إن البرنامج السياسي، يجب أن يكون مؤسسا على القيم الأخلاقية والإيمانية، لكي يتميز عن غيره من البرامج العلمانية، مؤكدا أن برنامج الإخوان لن يكون علمانيا كما يريده البعض، أو يسعى لدفعه إلى ذلك، وأوضح: نحن لدينا ثوابتنا ومبادئنا وأفكارنا المبنية على أساس عدم فصل الدين عن الدولة، وأن تكون الدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.

واعترف حبيب بوجود خلاف داخل الجماعة في هذه القضايا، قائلاً إن هناك خلافاً في الرؤية بخصوص حق الترشيح في أن يتم ترك الأمر للشعب مع الوضع في الاعتبار أن الشعب لن يختار غير المسلم أو امرأة، ولكن هناك أيضا وجهة نظر تقول، إنه إذا كان الشعب لن يختار أيا منهما، فإن مجرد الترشيح يعد نوعا من العبث، والدساتير يجب أن تكون منزهة عن احتمالات العبث.