سباق «المليون ميل»

3 مليارات دولار تكلفة محادثات السودانيين بالجوال في العام.. و3 شركات تتصارع للفوز بحصة الأسد في البلد القارة

TT

رفع تاجر المواشي عبد الرحمن حسن، في سوق ام درمان، هاتفه الجوال وأجرى اتصالا مطولا مع شخص آخر يقوم برعاية قطعانه، التي بعثها قبل ثلاثة اشهر من بلدته في دارفور، مشيا على الاقدام لبيعها في ام درمان التي تعتبر اكبر سوق للمواشي في السودان. عرف حسن من المكالمة ان قطعانه الان في منطقة كثيفة الغابات شرق مدينة «بارا» التي تبعد نحو 400 كيلومتر غرب ام درمان. ما كان في وسع حسن قبل اعوام مضت معرفة هذه المعلومة المهمة حول حركة قطعانه المتجهة صوب سوق المواشي بام درمان، اما الان فان «الجوال» اختصر له المسافات في بلد مساحته نحو مليون ميل مربع، وكفاه عناء الانتظار الممل، بل صار بالنسبة له اداة استثمارية في غاية الاهمية. وفي مؤتمر أقيم في الخرطوم مطلع العام الحالي، قال الرئيس السوداني عمر البشير ان شعبه يتكلم بنحو 3 مليارات دولار في العام، عبر الهاتف الجوال، في معرض حديث يحرض فيه على ضرورة مضاعفة العمل والابتعاد عن القضايا التي تصرف الناس عنه. والشاهد ان سوق الاتصالات في السودان يشهد ازدهارا كبيرا في الاونة الاخيرة. وباتت شركات الاتصالات لا ترى في منطقة دارفور (غرب) المترامية الاطراف منطقة كوارث بقدر ما ترى فيها سوقا بكرا للهاتف الجوال تنتظر من يدخلها. وأكبر شركة في سوق الهاتف الجوال بالسودان هي شركة الاتصالات المتنقلة «ام.تي.سي» الكويتية التي اشترت شركة موبيتل العام الماضي، وتعمل الان في السودان تحت اسم «زين».

لكن التنافس لم يعلن نهايته بعد.. وبين عشية وضحاها ارتفعت لافتات صفراء براقة على ضفتي النيل ثم انتشرت بسرعة على طول الطرق السريعة والشوارع المزدحمة في العاصمة لاعلان مولد شركة ام.تي.ان من جنوب افريقيا.

وقال خالد مهتدي الرئيس التنفيذي لشركة موبيتل لرويترز أخيرا «نحن نتوقع نموا كبيرا خلال ما بين ثلاثة وخمسة أعوام.. يوجد طلب كامن في مختلف أنحاء البلاد». ويضيف «وصلت خدمة الهاتف الجوال لاول مرة الى 25 في المائة من السكان هذا العام. وعندما تدخل الشبكة الى مناطق جديدة نشهد زحاما على الفور. الطلب هائل على الخدمة». وقامت شركة ام.تي.ان. الجنوب افريقية بشراء الشركة الام لشركة أريبا (لبنانية) للهاتف الجوال في يوليو (تموز) من العام الماضي. وفي أواخر الشهر الماضي غيرت الاسم التجاري اريبا الى ام.تي.ان ـ السودان ومنذ ذلك الحين انشغلت بالترويج للاسم الجديد. وبات التنافس حاليا بين الشركة الكويتية (زين) وام.تي.ان مع شركة سوداني للهاتف الجوال التابعة لشركة سوداتل الحكومية التي كانت تحتكر قطاع الاتصالات من قبل. ويعتقد محللون ورجال أعمال أن أسماء جديدة ستظهر على لوحات الاعلانات في الاشهر والسنوات المقبلة. وقال المحلل اندراوس صنوبر من مجموعة المرشدون العرب لرويترز «منذ وصول ام.تي.سي وأريبا أصبحت السوق تشهد منافسة شديدة ويتزايد اغراؤها للمستثمرين الاقليميين والعالميين». وقال أحد مديري العلاقات العامة في احدى شركات الهاتف الجوال، لـ«الشرق الاوسط»، «نحن نعمل لنمكن كل سكان مناطق السودان ان يتحدثوا مع بعضهم عبر الجوال». وترتفع حدة المنافسة في ثلاث من أكبر ست دول في افريقيا هي نيجيريا ومصر وجنوب أفريقيا كما أن أسواق الهاتف الجوال فيها أصبحت أسواقا ناضجة نسبيا. كذلك فان سوق الاتصالات الضخمة غير المستغلة في اثيوبيا مغلقة أمام الشركات الاجنبية لان شركة تابعة للدولة تحتكرها. ولا يتبقى بعد ذلك من الاسواق الكبرى سوى جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان. والحسابات واضحة. فالسودان أكبر دول القارة الافريقية مساحة (مليون ميل مربع) وسادس أكبرها سكانا اذ يبلغ عدد سكانه نحو 40 مليونا. لكن نسبة السكان الذين يملكون هاتفا جوالا منخفضة بشكل ملحوظ اذ توضح أرقام شركة انفورما تليكوم اند ميديا البريطانية أنها بلغت 11.5 في المائة فقط في الربع الثاني من العام الجاري. ويقول ديفاين كوفيلوتو المحلل بالشركة ان هذه الاعداد المنخفضة من المشتركين قد تتجه قريبا للارتفاع بسرعة بفضل عوامل منها الثروة النفطية والاستقرار الاقتصادي النسبي في أعقاب اتفاق السلام بين الشمال والجنوب عام 2005 لانهاء أطول حرب أهلية في افريقيا.

ورغم انخفاض الدخل في معظم الدول الافريقية فان ذلك لم يسهم في ابطاء انتشار الهاتف الجوال في افريقيا التي يوجد فيها واحد من أسرع أسواق الاتصالات نموا في العالم. وقال علي حمد بن جرش الغفلي الرئيس التنفيذي لشركة كنار للاتصالات «أفريقيا تأخرت. وهي الان تلحق ببقية العالم. أصبحت الاتصالات رخيصة جدا. وأصبح حصول الناس من أصحاب الدخول المحدودة جدا على هاتف جوال سهلا». ويضيف الغفلي قائلا «زاد دخل الناس في السودان في الفترة الاخيرة ولذلك زادت سهولة الحصول على هاتف جوال».

وتفيد تقارير الى ان هذه الشركات تجني ارباحا طائلة غير ان مراقبين يقولون ان ارباحها لم تعد ناتجة من المنافسة التي تتيحها قوى السوق بقدر ما هي ناتجة من درجة من الاحتكارية توفرها لها الحكومة السودانية. ويؤيد هذا الرأي الدكتور بابكر محمد التوم نائب رئيس اللجنة الاقتصادية في البرلمان السوداني، الذي قال لـ«الشرق الاوسط» هناك درجة من الاحتكار توفرها الحكومة لهذه الشركات كما لم تقم (الحكومة) بالدور الرقابي اللازم تجاهها.

وحسب التقارير الرسمية فان عدد المشتركين في الشركات الثلاث يبلغ نحو 14 مليونا من جملة نحو 40 مليونا عدد سكان السودان، وتتركز خدمات هذه الاتصالات في شمال السودان، ونحو 90% منها في المدن خاصة الخرطوم ومدني والابيض وبورتسودان.

ولم تتوقف شركات الاتصالات في السودان عند حدود السودان بعد ان تحققت لها اعلى درجات الربحية. العام الماضي حصلت شركة سوداتل على عطاء تشغيل الهاتف الجوال في دولة موريتانيا باسم شركة شنغتل للاتصالات وتم تدشين العمل في احتفال حاشد بمركزها الرئيسي شرفه الرئيس الموريتاني سيد محمد ولد الشيخ عبد الله وقيادات العمل السياسي والبرلماني والثقافي بموريتانيا ومسؤولو شركة سوداتل المالك لاغلب أسهم الشركة الجديدة، حيث بلغ الاستثمار فيها مائتي مليون دولار بجانب قيمة الرخصة التي بلغت مائة مليون دولار وهو أكبر استثمار لشركة سودانية خارج البلاد.

وفي ذات السياق، حصلت «سوداتل» في سبتمبر (ايلول) الماضي على رخصة المشغل الشامل الثاني للهاتف الجوال في السنغال، وجاءت الخطوة «في اطار الخطة الاستراتيجية لسوداتل للتحول من المحلية للعالمية في ظل المنافسة التي يشهدها قطاع الاتصالات عالميا ومحليا»، حسب المدير العام لشركة سوداتل.

ويكشف حجم التنافس الذي يبدو جنونيا، بين هذه الشركات في تباري الشركات لتقديم تسهيلات وخدمات لمشتركيها، وترغيب الناس لكسب مشتركين جدد، فهناك شركة تروج لبساطة التعاقد معها، وأخرى تعلن عن مستحدث جديد احضرته يقدم خدمة جديدة ما كانت متوافرة، ويتجلى هذا التنافس في حملات اعلانية كبيرة داخل المدن وبعض القرى، عبر كل وسائل الاعلام من صحف واذاعة وتلفزيون والاعلانات المضيئة على الطرقات داخل الاحياء والطرق السريعة بين المدن. وقدر مسؤول اعلانات في احدى الصحف تحدث لـ«الشرق الاوسط» ان نسبة اعلانات شركات الاتصالات في الصحف بين 25 الى 27%. وكان مالك احدى الصحف صريحا للغاية حين قال «نعتمد عليها بنسبة 90%»، واضاف: اذا ما توقفت هذه الشركات عنا نصبح كمنزل قطع عنه الماء والكهرباء.

ومن تجليات الحملات الاعلانية التنافس في اعداد المسابقات، تتوالى باشكال والوان مختلفة، وفي شهر رمضان الحالي رصدت شركة «زين» مسابقة تلفزيونية اعدت لها جوائز يومية تسلم يوميا، عبارة عن سيارة من طراز «تايوتا كوريلا» يبلغ سعرها 20 الف دولار، وشركة اخرى رصدت عددا من المنازل «فيلات» في الخرطوم ومناطق اخرى كجوائز لمسابقاتها، فضلا عن مبلغ 10 الاف دولار تصرف يوميا لفائز في مسابقة من مسابقاتها.

ويعتقد خبراء ان سعي هذه الشركات وراء الربحية جعلها غير مهتمة بالدور الاجتماعي الذي يفترض ان تقوم به، مثل المشاركة في الاعمال الخيرية، وانشاء مستشفيات او مدارس في الريف او اجراء توسعات في شبكتها في المناطق البعيدة حتى لو كانت بارباح ضئيلة. وقال بابكر محمد التوم نائب رئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان «هذه الشركات ليس لديها اى التزام تجاه المواطن وما تقدمه من حوافز وجوائز هو استعراض ومساهمات سطحية». واضاف ان «المطلوب هو انشاء مؤسسات راسخة يستفيد منها الناس». ويؤيده الدكتور يسن الحاج عابدين مؤسس الاتصالات الحديثة في البلاد ان «المسؤولية الاجتماعية تحتم عليهم الوصول الى مناطق بدون ربحية تذكر». غير ان وزير المالية السابق عبد الرحيم حمدي يرى ان المنافسة صحية، ويتفق معه المدير السابق لهيئة الاتصالات المهندس الطيب مصطفي، وقال «من الطبيعي ان تعمل كل شركة من اجل الربح»، ويدحض اقوال من يرون ان على هذه الشركات ان تقدم خدمات اخرى للمواطن مقابل التأثيرات التي تحدثها على البيئة على مستوى الاحياء بما ينشئونه من ابراج وسط الاحياء لتقوية شبكاتها، ويقول «لا توجد اي اثار بيئية».

ومع ذلك يسود اعتقاد بان شركات الهاتف الجوال في السودان، ربطت ان لم يكن كل السودان في اغلب اجزائه ببعضها البعض، وساهمت في ترقية الاداء في كل المهن وخلقت مهنا جديدة على كل المستويات، وتقول دراسة غير رسمية ان من بين 10 محال تجارية في العاصمة الخرطوم توجد «3» منها متخصصة في بيع اشياء لها صلة مباشرة او غير مباشرة بالاتصالات عبر الهاتف الجوال.

ومن الانشطة الاكثر انتشارا ظاهرة بيع الارصدة الخاصة بالمكالمات بالتجزئة. بوسعك ان تحصل على رصيد بمبلغ 100 جنيه، اقل من نصف الدولار، والباعة من هذا الصنف في كل مكان: في الشوارع واطراف الاسواق، وامام المستشفيات، وبوتيكات بيع السجائر، وبكثرة لافتة داخل وحول الجامعات.

وبوسعك ان تتصل بمن يمتهنون هذه المهنة في اي مكان وتطلب منهم ان يحولوا لك رصيدا بأي قدر ترغب فيه، ويعتقد عمر عبد الله وهو بائع ارصدة موبايل جوار سوق البوستة في مدينة امدرمان ان انتعاش استعمال السودانيين للموبايل حل مشكلة اعداد كبيرة من خريجي الجامعات السودانية الذين لم يجدوا الوظائف فلاذوا الى المهن المرتبطة بالاتصالات.