أفريقيا.. ديمقراطية الرصاص

تجربة الانتخابات الكينية الدامية ليست غريبة في القارة السمراء وتتكرر في أغلب دولها بنسخ مختلفة

احد مناصري زعيم المعارضة (المهزوم) في انتخابات كينيا الاخيرة يرفع لافتة تقول «عيب عليك يا كيباكي (الرئيس) .. لقد افسدت علينا ديمقراطيتنا» (ا.ف.ب)
TT

خاضت قبيلة التوتسي في بورندي حربا «مقدسة»، عندما سجل زعيم من قبيلة الهوتو فوزا ساحقا في اول انتخابات رئاسية تجري في هذا البلد الافريقي الصغير، عام 1992. ولم تتوقف الحرب التي حصدت ارواح الملايين من الطرفين. وكانت شرارة الحرب قد اندلعت إثر قيام ضباط من التوتسي بإسقاط طائرة كانت تقل الرئيس الجديد، ليقتل في الحادث، ولم تتوقف إلا بعد ان كسبها التوتسي حمراء، وحكموا البلاد بالقوة ضاربين عرض الحائط بكل توجهات البلاد الجدية، لبسط نظام ديمقراطي للمرة الاولى.

قصة كسر رقبة الديمقراطية في بورندي، وقبرها تحت الثكنة القبلية، ليست غريبة في افريقيا، فهي تتكرر في اغلب دولها البالغة 52 دولة، بنسخ مختلفة، واشكال وصور متباينة، وبأساليب تختلف من دولة الى اخرى، ولكن الحقيقة تعني شيئا واحدا: تعثر الديمقراطية في القارة السمراء، منذ ان بدأت تنال استقلالها من الاستعمار الغربي.

ولا يجد الدكتور ألباك ادم، الخبير في القضايا الافريقية، اي نموذج لديمقراطية سوية في افريقيا يمكن ان يحتذى، حتى انه يرى ان الزعماء الافارقة الكبار مثل باتريس لومومبا واحمد سيكاتوري ونيكروما وعبد الناصر واحمد بن بلة وهم جاءوا من رحم المعاناة والنضال إلا انهم لم يأتوا بأنظمة ديمقراطية او تقديم نموذج لها. وتقدم الاحداث الدامية التي تجري الان في كينيا بعد الانتخابات الرئاسية بين المتنافسين هناك، صورة من صور الصعوبات التي تواجه انزال الديمقراطية الى ارض افريقيا، كما قال لـ«الشرق الاوسط» السفير السوداني المخضرم والمحلل السياسي الدكتور بشير البكري. فقد اعلنت اللجنة الانتخابية الوطنية المشرفة على الانتخابات الرئاسة الكينية الاسبوع الماضي فوز مرشح الرئاسة والرئيس الكيني مواي كيباكي الذي يقود تجمع احزاب متحالفة باسم «الموزة» بولاية ثانية، إثر فوزه على منافسة رايلا اودينغا الذي يتزعم تجمع المعارضة في البلاد تحت اسم «البرتقالة»، او «الحركة الديمقراطية البرتقالية»، وقال رئيس اللجنة إن كيباكي فاز بفارق يفوق ثلاثمائة الف صوت.

على الاثر، ارتدى كيباكي افضل ما عنده من ازياء، واعتلى المنصة وادى القسم الدستوري، مستهلا بداية فترة رئاسية ثانية واخيرة له، ودعا الكينيين المرشحين وكافة الكينيين الى الاقرار بحكم الشعب، وقال: «بعد انتهاء هذه الانتخابات، حان وقت التعافي». ولكن الرياح لم تأت بما تشتهي سفن الرجل، فقد نوهت بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات الكينية الى شكوك حول مدى دقة عملية فرز الأصوات، بل اتهمتها بالفشل في ضمان مصداقية الانتخابات الرئاسية، واضافت «نأسف لانه لم تتسن معالجة التجاوزات التي كانت لدى الاتحاد الاوروبي واللجنة الانتخابية الكينية ادلة عليها».

وتحولت البلاد الى برميل بارود بفعل التصريحات المتبادلة بين «الموزة والبرتقالةش، قبل ان تنفجر البلاد برمتها، في اليوم التالي، وتسبح في بحر من الدماء، «وفتنة تركت مسارها السياسي وانزلقت في درك القبلية»، على حد تعليق الدكتور ابراهيم دقش الخبير الاعلامي والمدير السباق لإعلام منظمة الوحدة الافريقية، الذي تحدث لـ«الشرق الاوسط» في هذا الموضوع. وبلغ عدد القتلى حتى الان اكثر من 300 شخص، وتمترس الجميع خلف القبيلة بعد ان كانوا خلف كيباكي واودنقا. اندلعت حرب بسوس افريقية بين: بلُو (قبيلة أودينغا) ولا بكيكويو (قبيلة كيباكي). ولا يعتقد المراقبون ان هناك فرصة لكيباكي لتناول «عصير» الفوز. ولا يدرى احد في نيروبي الان الى اي وجهة تتجه كينيا، ناهيك من سؤاله عن مصير الديمقراطية من بين سيول الدم وألسنة النيران. وتبدو «الديمقراطية غريبة وفي ارض غير ارضها»، طبقا لتعليق الدكتور مختار الاصم استاذ العلوم السياسية في جامعة الخرطوم الذي قال لـ«الشرق الاوسط» ان «المبالغة في ضخ الوعود وتصوير الامور من قبل قوى غير مؤهلة لممارسة الديمقراطية هي السبب».

ويسجل المحللون ما يعتبرونه مظهرا داويا من مظاهر التعثر في الديمقراطية، في دولة نيجيريا اثناء الانتخابات الرئاسية التي جرت في ابريل (نيسان) الماضي. قبيل الانتخابات سعى الرئيس النيجيري السابق اوليسيجو أوباسانجو الى تعديل دستور البلاد ليسمح له بالترشح لولاية رئاسية ثانية، وعندمت اصطدمت بالرفض من قبل المعارضة، بل من انصاره داخل الحزب، لجأ الى طريق آخر، حيث بحث عن «اضعف مناصريه في حزبه»، وهو الرئيس الحالي عمر موسى يار أدو، وقام بترشيحه لمنصب الرئاسة ودعمه بكل قوة، حتى حقق الفوز في الانتخابات على منافسيه الاخرين. وبذلك فان أوباسانجو بات يحكم البلاد الان بالوكالة، كما يقول الصحافي محمود الدنعو المتخصص في شؤون افريقيا. وحسب الدنعو الذي تحدث لـ«الشرق الاوسط» حول الموضوع فان «الرئيس الجديد شخصية مغمورة، كان فقط حاكم ولاية، ولكنه من الذين يمررون كل شيء لصالح الرئيس السابق اوباسانجو»، ويقول منتقدوه إنه «دمية» في يد الرئيس المنتهية ولايته اولوسيغون أوباسنجو الذي اختاره. وبعد أن ادى موسى يار اليمين الدستورية قال سلفه اوباسانجو في كلمة وداع انه «سعيد بتولي جيل جديد من زعماء نيجيريا مسؤولية إدارة هذه الأمة العظيمة»، لكن المعارضة وصفت ما جرى بالفوضى، وقال احدهم: «ما شهدناه يثبت أنها أسوأ انتخابات على الاطلاق». ثم انفتحت نيران جهنم في البلاد، عندما نظمت جماعات عمالية وجماعات المجتمع المدني مسيرات احتجاج على الانتخابات، ووصفوها بأنها «مزيفة»، حصدت ارواح العشرات من الاطراف المتصارعة، «وسيظل الرجل في اتجاهين، الاول ان يرد عمليا على من يتهمونه بالدمية.. ومن الناحية الاخرى يتعين على يار أدو محاربة الفساد المستشري في البلاد»، ولكن المحللين المتابعين للحالة النيجيرية عن كثب يقولون انه سيفشل في الاثنين.

ويتخوف محللون من ان يتطور هذا التعثر الى انتكاسة تامة في بلاد خضعت في الاصل لحكومات عسكرية صارمة متتالية واستمر 16 عاما إلى أن انتخب أوباسانجو رئيسا للبلاد عام 1999، حتى عرفها خبراء السياسة بـ«بلد الانقلابات العسكرية» (بلغت 15 انقلابا منذ الاستقلال من الاستعمار الانجليزي في العام 1960). وفي منتصف العام الماضي جرت انتخابات في اثيوبيا لولاية ثالثة للرئيس الاثيوبي ملس زيناوي الذي حكم البلاد منذ عام 1991، وسط شكوك كبيرة من المعارضة بالتزوير «خاصة في الريف حيث تسيطر الحكومة على الأراضي والأسمدة والقروض وأدوات الزراعة وتوزيع المساعدات الغذائية في أوقات الجفاف ما شكل جزءا من الضغط على السكان للتصويت لصالحها»، رغم ان الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، وهو احد المراقبين وصف الانتخابات الاثيوبية بـ«التحسن الدرامي» عن الانتخابات السابقة، الا ان المعارضة قالت ان «انصار زيناوي يتلاعبون عن طريق إعادة فرز الأصوات في الدوائر التي فازت فيها المعارضة». وادت الاضطرابات المصاحبة لرفض المعارضة للنتيجة الى مقتل 36 شخصا، ومع هذا يقول مقربون من الحكومة الاثيوبية ان زيناوي ربما شرع في مقبل الايام في التحضير لولاية رابعة، حتى لو كلفه الامر تعديل الدستور.

ولا توجد ديمقراطية خالصة في القارة، حسب قول الدكتور بشير البكري «حتى جنوب افريقيا التي تعتبر معلمة الديمقراطية بعد الفوز الداوي الذي حققه محررها من العنصرية الزعيم نيلسيون مانيلا في العام 1994. فديمقراطيتها تعاني الان من التعثر، ويقوم انصار الرئيس الحالي ثابو مبيكي بنبش قضية فساد ضد نائبه في الحزب جاكوب زوما، الذي فاز عليه في انتخابات حزب المؤتمر الوطني وصار على مرمى حجر من تولي الرئاسة. ويرى المحللون ان هذه الخطوة من مبيكي تمثل شارة ردة في مسيرة الديمقراطية التي وضع حجر اساسها مانديلا، ولكن يلاحظ محللون اخرون ان اختيار اتحاد «الفيفا» لجنوب افريقيا لتنظيم مونديال 2010، جاء من مدخل انها أول ديمقراطية تعددية افريقية حقيقية تلفت الاعناق.. ولكن.