مصر: المشي فجراً إلى المخبز

TT

في الفيلم الأميركي as good as it gets وجد البطل والبطلة في مخبز يفتح فجراً في الحي، ذريعة لإقناع من يراهما من الجيران بدوافع التمشي في ذلك الوقت المبكر. البطل ذهب إلى منزلها وطلب منها الخروج معه ليبثها مشاعر حبه، وحين قالت: ماذا سيقول الجيران؟ قال: سيعتقدون أننا نريد شراء فطائر ساخنة من المخبز الذي يقع على ناصية الحي.

أما على أرض الواقع، في مصر، فإن السير إلى المخبز فجراً ليست خياراً، بل واجباً يقوم به ملايين الفقراء بداية من غبش الفجر حتى شمس الضحى، للحصول على «رغيف عيش» رخيص الثمن، لكنه شحيح الوجود، إذ لا يزيد سعره عن 5 قروش، وفي الطريق للحصول عليه قد تحدث مأساة مثل ما وقع مع زوجة العامل المصري مصطفي محمد إسماعيل من منطقة «الطوابق» بضاحية الهرم بمحافظة الجيزة، قبل يومين حيث تعرضت لإطلاق نار من صاحب الفرن، بعد خلاف على ثمن الخبز وفقاً لما قالته في تحقيقات شرطة الهرم بمحافظة الجيزة (غرب القاهرة).. وعادة ما ترى في وقت مبكر من الصباح طوابير طويلة لمصريين فقراء أمام أفران في مناطق شعبية يحاولون تأمين حاجتهم من رغيف الخبز لوجبات الإفطار والغداء والعشاء.

ويتخذ سياسيون مصريون من مدى توافر رغيف الخبز، الذي يباع بخمسة قروش ومصنوع من طحين القمح والذرة، مقياساً على ارتفاع أسعار سلع تبدأ بالزيت والشاي والسكر وتصل للحديد والإسمنت والخدمات العامة كالعلاج والكهرباء والمياه والمواصلات.. واستخدم برلمانيون معارضون أرغفة خبز قالوا في جلسة عامة إنه يباع لملايين الفقراء، ورديء الصنع، للتدليل على صحة استجوابات للحكومة عن ارتفاع تكلفة المعيشة، غير أن البرلمان أسقطها.

«طبق فول بـ75 قرشاً، وخمسة أرغفة خبز بـ25 قرشاً؛ هذه أقل وجبة إفطار لأسرة مكونة من 5 أفراد.. أب وأم وثلاثة أولاد.. أي 30% من أجري الشهري»، هكذا تقول مروة راضي، وهي عاملة بمصنع لصناعة الجوارب في شارع محمود عسّاف بضاحية دار السلام جنوب القاهرة، تتقاضي مروة 300 جنيه في الشهر، بينما يعمل زوجها محمود علي إبراهيم، في محل لـ«كي» الملابس بشارع الجسر البراني بذات الضاحية، مقابل 450 جنيهاً في الشهر.. قال: «راتب زوجتي نشتري منه الطعام، لكنه لا يشمل شراء اللحوم أو الدجاج أو السمك.. يكفي بالكاد لشراء الزيت والسكر والشاي والأرز والخضراوات الرخيصة..».

ولا يجيب «إبراهيم» عن سؤال محير، وهو: كيف يسدد من راتبه وراتب زوجته ثمن المعيشة الضرورية لأسرتهما، فإلى جانب تكاليف الطعام (نحو 500 جنيه في الشهر) هناك أجرة مسكنه (250 جنيهاً في الشهر)، وأجرة المواصلات بين العمل والمنزل والمدرسة (نحو 100 جنيه شهرياً له ولزوجته وأولاده الثلاثة)، وفواتير الكهرباء والمياه والغاز (نحو 50 جنيهاً في الشهر)، هذا بخلاف مصاريف الملابس ودراسة الأولاد (بالمرحلة الابتدائية والإعدادية) وزيارة الطبيب والعلاج (لا قدر الله)، وكذلك استقبال الضيوف أو الأقارب، أو القيام بالتنزه.. الخ. إجمالي راتب الدرجة السادسة التي يعين عليها العامل في الحكومة أو القطاع العام المصري لا يزيد في المتوسط عن نحو 214 جنيها (اربعين دولارا) على أكثر تقدير (شاملاً الأجر الأساسي والبدلات والحوافز والمكافآت)، وفقًا لقانون العاملين بالدولة والقطاع العام الذي لم يدخل عليه أي تعديل منذ عام 1987. وتتصاعد قيمة الأجور بحسب الدرجة الوظيفية إلى أن تصل إلى الدرجة الأولى، لكن النائب المعارض محمد عبد العزيز شعبان عضو مجلس الشعب المصري، قال إن حتى هذه الدرجة لا يكفيها راتبها الذي قد يبدو كبيراً مقارنة براتب الدرجة السادسة، لسداد نفقات معيشة كريمة، إذ ينتظر ملايين الموظفين والعمال وعداً حكومياً بتعديل هيكل الأجور، ليتماشى مع واقع الأسعار، كما قالت الحكومة إنها ستعدل قانون الوظيفة العامة أيضاً لتحسين أوضاع ملايين الموظفين، إضافة إلى إعلانها الشهر الماضي فتح باب التسجيل لإضافة 10 ملايين مواطن في بطاقات التموين التي تخول للفقراء الحصول على سلع مدعومة. وللاحتجاجات على الغلاء تاريخ غير مريح بالنسبة لدولة أصبح عدد سكانها يقترب من الثمانين مليوناً، إذ خرج مئات الألوف من المصريين في شوارع القاهرة في فوضى عارمة، عقب قيام الحكومة عام 1977 بتحريك طفيف في الأسعار، وعلى رأسها سعر رغيف الخبز، وهو ما أطلق عليه الرئيس المصري الراحل أنور السادات «انتفاضة الحرامية (أي اللصوص)» لما اقترن بها من سلب ونهب وحرق واعتداء على الممتلكات العامة. النائب المستقل كمال أحمد، الذي اعتصم في لجنة الخطة والموازنة، حين كان نائباً في البرلمان أيام السادات أيضاً، احتجاجاً على قرار رفع الأسعار حينذاك، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الاحتقان الشعبي من الغلاء حالياً، أكبر مما كان عليه قبل 30 عاماً، لكن الآن يوجد «غضب مؤسسي.. فنجد موظفين، كموظفي الضرائب العقارية وعمال، كعمال المحلة وكفر الدوار يحتجون ويضربون عن العمل والحكومة تتفاوض معهم وتستجيب أو تصل معهم لحلول وسط.. هذا يلهم آخرين للقيام بالمثل»، و«توجد أيضاً عملية تنفيس.. اليوم لدينا صحف حزبية ومستقلة وقنوات فضائية تنقل أوجاع الناس.. مثل المعلمين الذين حصلوا العام الماضي على زيادة في رواتبهم بقانون الكادر الخاص، وهو ما أصبح يطالب به الأطباء الآن.. الخ». أسباب الانتفاضة أيام «السادات»، والتي وصفتها الصحافة العالمية في ذلك الوقت بــ«انتفاضة الخبز»، ترجع، كما قال النائب المستقل سعد عبود، إلى عدة ظروف منها أن الحكومة في ذلك الوقت أعلنت، بشكل مباشر، في الصحف الرسمية المصرية الصادرة صباح يوم 18 يناير (كانون ثان) عام 1977 عن قرار صريح برفع أسعار سلع أساسية، منها الخبز والزيت والسكر والأرز والبنزين والسجائر، بعد نحو يومين فقط من إعلانها قراراً بتثبيت أسعار السلع الاستهلاكية، مشيراً إلى أن مصر في ذلك الوقت كان بها «وعي سياسي.. الذين تم القبض عليهم في تلك الأحداث كانوا حركيين (نشطين).. يمكن أن تقول إن المجتمع تم تفريغه من مثل هؤلاء، وإن كانت هناك بعض الحركات الشعبية والجمعيات الأهلية التي تحاول أن تدق ناقوس الخطر من ارتفاع الأسعار». ومع أهمية ما يمكن أن يلعبه البرلمان والحكومة، إلا أن الأحزاب والحركات الشعبية الصاعدة يمكن أن يكون لها أثر كبير، ليس في امتصاص الغضب فقط، بل في الحيلولة دون وقوع فوضى، أو في تنظيمها حماية للممتلكات العامة، حال حدوثها لا قدر الله، بحسب ما انتهى إليه النائب عبود، مذكراً بأن فوضى عام 1977 لم يسيطر عليها إلا نزول الجيش للشارع، وفرض حظر التجول بالبلاد. إلا أن حركات، مثل حركة «كفاية»، لا يشارك في تظاهراتها إلا أعداد تقدر عادة بعدة مئات، معظمهم من الفضوليين. وتقول قيادات من تلك الحركات، إن التضييق الأمني، يقف حائلاً دون اشتراك أعداد كبيرة من المتضررين من الغلاء، إذ دلَّل جورج إسحق، من حركة «كفاية»، بقبض الشرطة على منسق الحركة، الدكتور عبد الوهاب المسيري، وهو مفكر مصري بارز، وأعضاء بحركته، ومنعتهم من التظاهر ضد الغلاء قبل أسبوعين.. رغم أن سلطات الأمن المصرية تقول إنها لا تمنع إلا المظاهرات غير المرخص لها، لكنها عادة لا تمنح مثل تلك الاحتجاجات تصاريح بالتظاهر أو القيام بمسيرة سلمية. ومع ذلك أثنت حركات شعبية، وجمعيات أهلية لمكافحة الغلاء، على الحكومة لقيامها أخيراً بإحالة 20 مسؤولا بشركات إسمنت للمحاكمة بتهمة رفع الأسعار، بعد أن تجاوز سعر طن الإسمنت 400 جنيه، فيما قام عدد من تلك الحركات والجمعيات، بحسب النائب المستقل، جمال زهران، من حركة «مواطنون ضد الغلاء»، باتخاذ إجراءات شعبية وقانونية لمعاقبة من تعتبرهم «محتكرين»، منها عقاب معنوي من خلال تنظيم «محاكمة شعبية(محاكاة للمحكمة العادية)»، أو مقاطعة سلعة بعينها.. ومنها أيضاً التقدم ببلاغات لأجهزة التحقيق الرسمية ضد من تسميهم «محتكرين ومتسببين في زيادة الأسعار». أحد البلاغات المقدمة للنيابة من حركة «مواطنون ضد الغلاء» يدور عن ارتفاع أسعار الزيوت يقول نصه، إن شركات منتجة رفعت سعر اللتر خلال شهر إلى أكثر من 30% من قيمته الأصلية بلا مبرر، فيما قامت «جمعية بلدي لحماية المستهلك»، ومقرها محافظة بور سعيد بحملة لمقاطعة سلع غذائية منها اللحوم والألبان وأنواع من الخبز مرتفع الثمن، لكن سيظل رغيف الخبز ذو الخمسة قروش، أحد أهم السلع التي لا يمكن مقاطعتها، كما يبدو أن «المشي» إلى الفرن فجراً، سيظل بالنسبة لملايين المصريين الفقراء، خياراً إجبارياً لا بد منه لفترة قد تقصر أو تطول.