عدالة خانة

3 ثورات في إيران في القرن العشرين.. ثورة المشروطية.. ثورة النفط.. وثورة الخميني

رجال الدين في إيران شاركوا في الثورات الإصلاحية («الشرق الأوسط»)
TT

حدثت ثلاث ثورات في إيران القرن الماضي، أولها الثورة الدستورية، او ثورة المشروطية لتقييد سلطات الملك ببرلمان منتخب ذي صلاحيات بين 1906 و1908، وثانيها ثورة النفط في مطلع الخمسينيات، التي قادها رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، وثالثها الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني. ويمكن ان نميز بين هذه الثورات على أساس هوياتها وتوجهاتها. فما هي شعاراتها واستراتيجياتها؟ ما هو دور رجال الدين فيها؟ ما هو دور المثقفين والأحزاب؟ اولا يجب تأكيد ان كل هذه الثورات كان لها اثر على المنطقة. على سبيل المثال، أورد الكاتب المصري محمد حسنين هيكل في كتابه، الذي تناول حركة النفط في إيران، ان حركة مصدق كان لها أثر على الحركة المصرية تجاه تأميم قناة السويس. عندما نتحدث عن الثورات في إيران يجب التشديد على أن البرلمان الإيراني لعب دورا مهما في هذه الثورات الثلاث. وهنا سنركز على دور البرلمان في القرن الماضي والمشهد السياسي الحالي في إيران. الثورة الدستورية وثورة النفط والثورة الإسلامية في ايران مرتبطة ببعضها بعضا. ويمكن القول انها «مراحل ثلاث مهمة» في تاريخ إيران المعاصر. هنا أحاول التركيز على تاريخ الفكر وليس على توضيح المغامرات والأحداث. اعتقد ان البرلماني الإيراني مؤسسة مهمة، ومعرفة البرلمان يمكن ان تساعد على تحليل الشؤون الإيرانية بصورة فاعلة. إيران الآن مقبلة على انتخابات برلمانية، وبالتالي نحن في حاجة إلى معرفة الجذور التاريخية ودور البرلمان في إيران. في السابق كانت الملكية هي نظام الحكم السائد في إيران، حيث كان الملك مركزا للحكومة والدولة. (كان يعتقد) انه ممثل الله في الأرض. توجهت بعد الثورة الإسلامية، وانا في منصب وزير للثقافة، إلى المغرب لزيارة الدار البيضاء، حيث استضافنا الصديق احمد بصري في منزله. كانت تلك ليلة لا تنسى، فقد بدأنا الحديث في وقت مبكر من المساء واستمر حتى بعد منتصف الليل، إذ دعا بصري بعض الكتاب والفلاسفة لحضور ذلك اللقاء. عندما تحدثنا عن دور رجال الدين في الثورة الإسلامية في إيران، قال بصري: «قبل ثورتكم كنت اعتقد ان رجال الدين ممثلو الله في الأرض، ولكن بعد ثورتكم وعندما اطلعت على دور رجال الدين عدلت عن رأيي». بعض المقولات أحيانا أكثر وضوحا من كتاب بكامله. ففي حركة المشروطة، ركز الإيرانيون على العدل وتأسيس البرلمان، واستخدموا مصطلحا معبرا لتسمية البرلمان وطالبوا بأن يطلق عليه اسم «عدالة خانة»، أي دار العدل. وحاولوا الحد من السلطات المطلقة للملك. ويعتقد بعض الباحثين ان عبارة «حركة المشروطة» تعني الحد من السلطة المطلقة. حدث خلط بين «المشروطة» (دستور أو دستوري) و«مشروط» (شرطي) بسبب التقارب بين المفردتين. للوهلة الأولى تبدو الكلمة وكأنها تعني حكومة لا تسيطر على سلطة غير مشروطة، إلا ان أكثر الحكومات استبدادا لا بد ان تلتزم بقوانين وأعراف مكتوبة تحد من سلطة الحاكم (على سبيل المثال قانون ساليك، خلافة أول مؤسس ذكر للعرش). حتى أكثر الحكام الدكتاتوريين سلطة في التاريخ تعين عليهم الالتزام بأحكام «ميزان القوى» ولم يكن بوسعهم فعل ما يريدون. كلمة «دستور» وجدت طريقها إلى قاموس المصطلحات السياسية الفارسية في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر من خلال العثمانيين الذين اقتبسوا هم أيضا هذه الكلمة من Chartre الفرنسية، التي أخذتها بدورها من كلمة Cartula أو Carta اللاتينية. وماغنا كارتا Magna Carta، هي أول «قانون دستوري» في العالم يحد من سلطة الملوك، قدمه لمجلس اللوردات في القرن الثالث عشر بواسطة ملك انجلترا، يعني أصلا «المجلس الكبير» Grand Board. اما القانون الدستوري في صورته ومعناه الحاليين فقد بدأ مع الثورة الاميركية، وتملك كل الدول اليوم قانونا دستوريا. في المملكة المتحدة يقوم القانون العام والتشريعات الموجودة مقام القانون الدستوري في دول أخرى، وحكومتها واحدة من أكثر الحكومات التزاما بالقانون في العالم. مفكرو ذلك الوقت في إيران ترجموا مصطلح «الحكومة الدستورية» بـ«حكومة المشروطة»، أي حكومة تستمد شرعيتها من الإرادة العامة مقابل ملكية مستبدة. في أدبيات حقبة الحركة الدستورية استخدم مصطلحا «مشروطة» و«دستور» على نحو مواز. ففي «حكومة القانون» أو «الدستور» لا يكون لشكل الحكومة أهمية، لأن النموذجين الجمهوري والدستوري يقومان على أساس النظام البرلماني. بوصفهم أول جيل من الإيرانيين يطلع على الفكر الغربي، قرر هؤلاء المفكرون إحداث تغيير جذري في المجتمع من خلال تأسيس حكم القانون وتحرير البلاد من السلطات الاستبدادية للملك وأعضاء مؤسسته. إيران تلك الحقبة كانت في حالة فوضى كاملة وكانت اقرب إلى كيان جغرافي ـ لا جيش ولا مالية ولا اتصالات أو بنية أساسية للتعليم يمكن الحديث بشأنها ـ يسوده اقتصاد ريفي بدائي وسكان أميون يعيشون في أوضاع غير صحية. كما ان الدور الذي لعبته الطبقة الوسطى المحدودة في تلك الحقبة، في مجال تحديث المجتمع الإيراني، لا مثيل في تاريخنا. والمشروع الذي اعده المثقفون الذين يعرفون باسم الدستوريين تعدى مجرد تشكيل الحكومة. فقد اعطوا الاولوية الى المشاكل السياسية في ايران، الا ان اصلاح الحكومة كان الخطوة الاولى لبرنامج شامل للحفاظ على استقلالية ووحدة البلاد، ودفع المجتمع الايراني للامام الى مستوى الدول المتقدمة في الغرب. وهذا هو السبب في ان الحركة الدستورية في ايران معروفة ليس فقط كثورة ديمقراطية، ولكن بداية حركة التحديث في البلاد. وبالنسبة للدستوريين لا يوجد فرق بين الديمقراطية والحداثة. الديمقراطية، مثل الوطنية والتطور الاجتماعي والاقتصادي، والعدالة الاجتماعية هي واحدة من عناصر مشروعهم لتحديث البلاد. وكانت جهودهم المبذولة في جميع مجالات هذا المشروع من حيث الحجم غير مسبوقة في المجتمع الايراني.

فبدءا من عام 1941، قسم العديد من الكتاب عهد الحركة الدستورية الى ثلاث فترات طبقا لميولهم السياسية والايديولوجية: اول «مشروطة» من 1906 حتى 1907 وقصف مبنى البرلمان. و«المشروطة» الثانية من 1909 حتى 1921 وانقلاب 1921 وصعود رضا خان الذي اصبح في ما بعد رضا شاه الى السلطة.

اما «المشروطة» الثالثة فمن 1941 حتى 1953 وسقوط مصدق. وقد لخص المؤلفون تاريخ حركة الدستور بأكمله في فترات سيادة البرلمان. وطبقا لهم فإن «المشروطة» او الحركة الدستورية ظهرت عندما تمكن البرلمان من ممارسة سلطاته. وخفض التحديث والاصلاح في ايران الى واحد فقط من عناصره، لا يلتزم بالابعاد الحقيقية للحركة والدور الحقيقي الذي لعبه البرلمان خلال معظم سنوات سيطرته. وفي الواقع فإن الفترة ما بين العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد السابع من القرن العشرين يجب ان تعرف بأنه عصر حركة المشروطة. فخلال تلك الفترة سيطرت فكرة التحديث والتطوير على الخطاب الوطني بأكمله، وحولت المجتمع الايراني التقليدي من معتقدات عمرها ألف سنة الى المدى الذي يمكن معه اعتبار «الدولة الاسلامية» ليست الا انحرافا. البرلمان كان الانجاز الرئيسي للدستوريين الإيرانيين. الا ان البرلمان في اوج قوته، لم يتمكن من تحقيق اكثر من مقاومة التوسع الامبريالي. فبعد تعديل قوانين الانتخابات في مطلع القرن العشرين، تحكم كبار ملاك الاراضي في المدن الصغيرة في نتائج الانتخابات. وبالتالي لم يصبح البرلمان الممثل الحقيقي للشعب، واصبحت سلطته معرقلة للتقدم. وفي السنوات التي سبقت ظهور رضا شاه كانت ايران الدولة ذات النظام الاقطاعي بلدا متفككا، العديد من اقاليمه تحت الاحتلال الاجنبي. وحتى المصارف والجمارك كان يديرها الاجانب وحكوماتهم.

وفي السنوات التي اعقبت احتلال ايران لم يلعب البرلمان دورا افضل. وكانت معظم الوزارات قصيرة العمر، واهتم البرلمانيون، بصفة عامة، بمصالحهم الشخصية وكانوا على استعداد للوقوع تحت سيطرة عديد من الجماعات المختلفة. وحتى مصدق الذي انتقد رضا شاه لسيطرته على البرلمان، وصفه بأنه «دار اللصوص». وفي اطار عدائه تجاه البرلمان، ذهب الى حد حل البرلمان الذي جرى انتخاب اعضائه خلال رئاسته للوزارة متجاهلا الدستور نفسه.

وبالاضافة للمثقفين، لعب رجال الدين دورين مختلفين في حركة المشروطة وفي البرلمان ايضا. فبعض رجال الدين مثل آية الله طبطبائي واية الله بهبهاني أيدا الثورة. وفي الوقت نفسه كان بعض رجال الدين مثل آيه الله نوري ضد الثورة وأيد الملك، وقال ان حركة المشروطة ضد الشريعة. وكان يعتقد ان الشريعة تأتي من ارادة الله، اما المشروطة فهي مؤسسة على خبرات البشر. جرى حل هذه المواجهة عبر قرار خاص، فقد تم تعيين 6 من رجال الدين المعروفين في لجنة خاصة لإقرار القوانين بعد تصويت البرلمان عليها. وهذه المواجهة لا تزال قائمة في ايران. فتوجد مدرستان للشريعة. تؤمن المجموعة الاولى بضرورة تطبيق كل شيء طبقا للشريعة، بينما تعتقد المجموعة الثانية بألا يكون أي شيء ضد الشريعة.

وكان الشيخ فضل الله نوري هو رمز الشريعة في حركة المشروطة. وكان يؤيد الملك المستبد محمد علي شاه. وبعد محاولة اغتيال غير ناجحة ضد الشاه، ومحاولة انقلاب غير ناجحة ايضا من جانب الشاه، نفذ الشاه انقلابا ناجحا في يونيو (حزيران) عام 1908. وتم حل البرلمان وقبض على العديد من القيادات الوطنية الشعبية.

وجرى القبض على رجل الدين الراديكالي جمال الدين الاصفهاني. بينما كان رئيس تحرير صحيفة «سوري اسرافيل» ميرزا جاهجير خان من بين الذين قتلوا (تاريخ ايران الذي نشرته جامعة كامبريدج الجزء السابع الصفحة 205).

وكان قصف البرلمان على يد القوات الروسية اشارة واضحة الى ان الحكومة مستبدة غير متفقة مع المجلس.

انهارت الحكومة الدستورية عام 1911, وفي عام 1921 نظـم سيد ضياء طبطبائي ورضا خان انقلابا عسكريا، وكان ذلك بداية مرحلة جديدة في تاريخ ايران. فلم يكن شاه إيران يؤمن بدور البرلمان، وكان يصفه باسم «الاسطبل». وقد ضحي النظام العسكري بالحلم القومي والحرية والعدالة. وتحول الحلم الى فوضى. * وزير الثقافة والإرشاد الإيراني السابق