أفضل.. وألذ وظيفة

تذوق الشكولاته براتب 3 آلاف جنيه إسترليني كل شهر.. وسافر عبر العالم أيضا لاختيار أفضل حبوبها

(خدمة كي ار تي)
TT

مؤخرا، نقلت وكالة «شنخوا» الصينية ان اللجنة الاولمبية الصينية، استعدادا للمنافسات الاولمبية العالمية في الصيف، وضعت ترتيبات لتقديم «افضل الأطعمة ذوقا، واكثر الأطعمة صحة» للمشتركين في المنافسات. وان اكثر من عشرة آلاف منافس سيعيشون في القرية الاولمبية. وان اللجنة الاولمبية ستصرف ثمانية بلايين ين (اكثر من بليون دولار) لمراقبة الاطعمة (لمنع تسممها، وتحسين نوعيتها) والادوية (لمنع المخدرات والهرمونات). وقال شانغ زيكوان، مسؤول في اللجنة الاولمبية: «نعم، ستكون أغلبية الاطعمة غربية. قسمناها الى عشرة اقسام، و345 نوعا. وسيكون لكل نوع مشرفون، ومختبرون، وذواقون».

زاد الاهتمام بالمختبرين والذواقين الاولمبيين بعد اخبار، في نهاية السنة الماضية، بحوادث تسمم، وفساد في صناعة وتجارة الأطعمة، ومقاطعة دول أجنبية لصادرات الصين الغذائية. (مثلا: في الصيف الماضي، هزت الصين فضيحة تصدير الاسماك. عندما منعت الحكومة الاميركية بعضها لأن الصينيين لا يتبعون الاجراءات الاميركية المتشددة عند تربيتها، وتصديرها). وقالت وكالة «شنخوا» ان فئرانا ستستعمل لمراقبة تسمم الأطعمة. وأن ناسا سوف يستعلمون لمراقبة نوعيتها.

وصار واضحا ان الصينيين حريصون على انجاح الدورة الاولمبية (اول دورة تقام في الصين). وحساسون تجاه تردد الشعوب الاخرى في ضمان قدرتهم على انجاحها. وخائفون من مبالغة الاعلام الغربي لأي خطأ او عيب. ويخشون تذمر المنافسين، ليس فقط من تسهيلات السكن، والتدريب، والمواصلات، ولكن، اهم من ذلك، من نوع الأكل ومذاقه.

فن التذوق قديم قدم الأكل. لكن مهنة التذوق بدأها ملوك وحكام اهتموا بالأكل الراقي، والانيق، والشهي. وهناك حكام خافوا من ان يسممهم اعداؤهم او منافسوهم (او زوجاتهم او عشيقاتهم)، فاستاجروا ذواقة واكالة يتذوقون الطعام ويأكلونه مسبقا. واستعمل الاكثر انسانية الكلاب والقطط. وزاد الاهتمام بنوعية الاكل مع تصنيع، وتعبئة، وتصدير الاطعمة. كان الطعام يذهب «من المزرعة الى الصحن». لكنه صار اكثر تعقيدا. في السنة الماضية، نشرت مجلة «فود تكنولوجي» (تكنولوجيا الطعام) ان شوربة الدجاج، مثلا، كانت، في الماضي، تعد بعد ثلاث مراحل: تربية، وذبح، وطبخ. لكن، في الوقت الحاضر تشترك في المراحل اكثر من ستين شركة: للتربية، وللتغذية، وللتعبئة، ولصناعة العلب، ولطباعة المعلومات، وللنقل، وللدعاية، وللبيع، الخ. وقالت ان شركات الطعام هي اكبر مخدم في اميركا. مثلا: صار مجرد اعداد اللحم عملية معقدة: ذبح، وتقطيع، وتمليح، وتجفيف، وتحميض، وتدخين، وطبخ، وشواء، وغلي، الخ.

وصارت نوعية الطعام علما قائما بذاته، ويدرس في الجامعات، وينال فيه الناس شهادات الماجستير والدكتوراه. وصار الهدف ألا يكون منظر الطعام قبيحا، وألا تكون رائحته كريهة، وطبعا، الا يكون غير صحي. ويشترك في ذلك ذواقون وشمامون. وفتيات جميلات يقدمن اعلانات في الصحف والتلفزيونات واللافتات والملصقات.

وظهرت نظرية «كواليتي كونترول» (السيطرة على النوعية). واختفت نظرية «كستمرز بي وير» (ليحذر المشتري)، حيث كان الذي يشترى الطعام، جاهزا او غير جاهز، يتحمل المسؤولية، حتى اذا كان ما اشتراه ساما. وشملت السيطرة على النوعية مفتشين، ومراقبيين، وذواقين.

يجمع كثير من الذواقين «اتحاد الذواقين العالمي»، والذي له فروع في اربعين دولة تقريبا. تقول ديباجة الاتحاد: «هدفنا هو استهلاك الطعام والشراب استهلاكا مسؤولا وصحيا، مع الاستمتاع به». معنى هذا ان الاتحاد يريد التقليل من انطباعات الناس عن مهنة الذواقة بأنها ترمز لاغراء الاكل والشراب. وانها تدعو للتفسخ، والانحلال، والتدهور الحضاري. وتحوي مجلة الاتحاد «تيسترز جورنال» مواضيع عن فن التذوق، ومؤتمراته، ونشاطات اعضائه. واوضح آخر عدد ان شهر فبراير (شباط) هو شهر «النساء الذواقات»، وذلك في منافسات عالمية يتذوقن فيها: كولا، وعصيرا، وحتى الماء المعبأ في زجاجات. وتقدم المنافسات ميداليات ذات مراتب مختلفة: برونزية، وفضية، وذهبية، وماسية.

وفي المجلة صفحات اعلانات لشركات تريد ذواقين وذواقات. وايضا في مجلات طعام أخرى مثل «زاغات».

كان يوم الثلاثاء الماضي آخر يوم لتقديم طلبات لشركة «كيري» البريطانية، من اكبر شركات الطعام في العالم، لاختيار مجموعة «تعمل اربعة ايام كل اسبوع، من التاسعة صباحا الى الثانية عشرة صباحا. لا خبرة مطلوبة. تدريب بدون مقابل. ومرتبات مغرية».

وهناك إعلان من ادارة الطعام والأدوية الفيدرالية الاميركية (اف.دي.ايه) يطلب الآتي: «مساعدو علم الطعام، وتطوير اجراء ابحاث في هذا المجال. حسب قوانين «اف.دي ايه». عن لون، وطعم، ورائحة مواد غذائية. وتشمل تحليلات في معامل، وباستعمال كمبيوترات، واجهزة تكنولوجية. وفي اجواء صحية متشددة. ويفضل الذين عندهم خبرات سنتين او ثلاث سنوات في مجال العلوم التطبيقية، وخاصة في مجال الاغذية.. والمرتبات حسب السلم الفدرالي.. ».

وتنقل اخبار الذواقة في كل العالم، فقد نقلت وكالة «رويتر» من البرازيل ان محكمة هناك غرمت شركة «امبيف» لصناعة البيرة خمسين الف دولار، تعويضا لهوزي باسيلا، الذي كان يعمل ذواقة بيرة في المصنع. قال ان وظيفته جعلته مدمن كحول لأنه كان يشرب، («يتذوق») كل يوم، ولمدة عشر سنوات، ليترا ونصف ليتر من البيرة. لكن، قالت الشركة، انه كان مدمنا قبل ان يعمل في الشركة. لكن، لم يقنع ذلك المحكمة.

وقالت اذاعة «بي.بي.سي» البريطانية ان مصنع بيرة في كورنويل، سيدفع مرتبات مغرية لنساء يعملن ذواقات. وقال ستيوارت هاوي، مدير المصنع: «أولا: اوضحت التجارب ان حاسة تذوق المرأة اقوى من حاسة تذوق الرجل. ثانيا: لا تحب المرأة البيرة مثل الرجل، ولهذا لن تشرب اكثر مما تريد ان تتذوق».  ونشرت مجلة «نيو ساينتست» العلمية، ان جامعة تسكوبا في اليابان، اجرت تجارب عن تذوق كبار السن للمأكولات والمشروبات. وذلك بهدف صناعة مواد تناسبهم. دفعت الجامعة مكافآت لعدد منهم، ووضع العلماء داخل فم كل ثلاثة أجهزة: جهازا لقياس قوة المضغ، وجهازا لقياس التركيبة الكيماوية للطعام، ومكرفونا لقياس حركة الفك وهو يمضغ.

ونشرت جريدة «غارديان» البريطانية، ان جمعيات مزارعين بريطانيين في ويلز قدمت رواتب مغرية لذواقة طعام فرنسيين. ونقلتهم الى بريطانيا لتذوق لحم البقر، كجزء من دعاية لأبقارهم بعد نهاية مقاطعة الفرنسيين لللحوم الأبقار البريطانية بسبب وباء «جنون البقر».

لكن، لا يشتهر تذوق شيء مثل تذوق الشكولاتة.

مؤخرا، اعلنت شركة «فورتنام» البريطانية للاغذية مسابقة لاختيار اطفال لتذوق الشكولاته. براتب ثلاثة آلاف جنيه استرليني كل شهر. وشملت الوظيفة السفر الى دول لاختيار افضل حبوب الشكولاته، ولتذوق الشكولاتة في متاجر الشركة، بمتوسط نصف رطل كل يوم.

لم تحدد الشركة شروطا للتذوق. واختارت الاطفال حسب اجاباتهم عن اسئلة مثل: من اي شجرة تستخرج الشكولاتة؟ متى صنعت اول قطعة شكولاتة؟ اي شعب يأكل اكثر شكولاتة؟ اي حضارة قديمة استعملت الشكولاتة كعملة؟

وهناك جنيفر كوين مديرة قسم الابداع (اقرأ: قسم التذوق) في شركة «غودايفا» الاميركية للشكولاتة. درست في كلية للشكولاتة في مونتريال، في كندا. كيف تتذوقها؟ قالت: «اولا: الطعم. ثانيا: الشكل اللامع والملمس الناعم. ثالثا: شم الارنب». ما هو «شم الارنب»؟ قالت ان الارنب يشم سريعا وعميقا. وان ذلك هو سر نجاحها.

وقالت: «هناك شرط اساسي للتذوق والشم، وهو الضمير الواعي. كيف تعتمد اي شركة على اي انسان لا يكون صادقا؟ وكيف تعرف انه لا يجامل، ولا يكذب، ولا يبالغ؟».

مؤخرا، نقل تلفزيون «فوكس» الاميركي خبرا عن مسابقة لاختيار ذواقين للحوم في شعبة علوم الاغذية في جامعة شابمان (ولاية كليفورنيا). يجلس انسان على كرسي، في غرفة نظيفة وكأنها غرفة عمليات جراحية، بعد ان يرتدي ملابس واقية وكأنه جراح. ثم تنفتح نافذة جانبية، ويأخذ الانسان منها صحنا فيه قطعة لحم. يشمها، ثم يلمسها بطرف اصبعه، ثم يمضغها في بطء، ثم يبصقها. ويدون، مع كل خطوة، رقما على ورقة امامه.

وقال د. فرد كومبراسو مدير الشعبة: «نختارهم مثلما نختار اللاعبين الرياضيين. وندربهم مثلما ندرب متنافسين للالعاب الاولمبية». وقال اريك ستاينبيرغر خبير تذوق في نيويورك، ان معاهد الاغذية واقسام الاقتصاد المنزلي في بعض الجامعات صارت تهتم بتدريس التذوق، لأن صناعة الطعام تطورت. ولأن العولمة فتحت الابواب امام اطعمة غريبة من دول بعيدة. ولأن موجة الثراء في الغرب والشرق زادت الاهتمام بالتذوق والتانق.

وقال ان شركات ومصانع كثيرة تفضل ذواقة من خارجها خوفا من ان الذين يعملون فيها ربما يجاملون رؤساءهم، او يبالغون في الثناء على مصنوعات الشركة.

وقال أن رواتب الذواقة في هذه الشركات والمصانع تبدأ بثلاثة آلاف دولار للخريج الجديد، وتصل الى ستة آلاف دولار للمسؤول، ولأكثر من ذلك لكبار المسؤولين التنفيذيين.

وقالت آن هولنغويرث مديرة معهد تكنولوجيا الطعام في شيكاغو: «تستعمل شركات كبرى ذواقة، من داخلها، او من خارجها. مثل: ماكدونالد للساندوتشات، وسارا لي للفطائر، وباسكن روبنز للأيس كريم، ونيستل للشكولاتة، ولبتون للشاي».

وقال خبير تذوق آخر، ان التذوق لا يقتصر على شركات الطعام والشراب. وان شركات الادوية والصيدلة، مثلا، تستخدمهم: رجالا ونساء، وكبارا وصغارا. (مثلا: لتذوق ادوية اطفال سائلة بطعم الشكولاتة. او تذوق حبوب منع الحمل بطعم الفراولة). تذوق ماذا؟

قال سيدني مينتز، استاذ علم الاجناس في جامعة جونز هوبكنز (ولاية ماريلاند)، انه ليس سرا ان مشروبات اميركية مثل «كوكا كولا»، ومأكولات اميركية مثل «هامبيرغر» انتشرت في كل العالم، لأن «طعمها لذيذ». وقال: «نحن ربما اول شعب في التاريخ يوظف ناسا لا عمل لهم سوى ان يأكلوا ويشربوا، ثم يكتبوا آراءهم في ما اكلوا وما شربوا». قال ذلك في كتاب: «تذوق الطعام: تذوق الحرية: رحلة الى داخل الأكل والقوة والماضي». الذوق أربعة: حلو، ومر، وحامض، ومالح. ومؤخرا، واضاف علماء الطعام نوعا رابعا: «اومامي»، ويعني «لذة» في اللسان، خاصة لذة اللحم والجبنة (ربما بسبب الشحم والزيت).

تتفوق النساء على الرجال في القدرة على التذوق. ويتفوق الأفارقة والآسيويون على الأوروبيين في ذلك، ايضا. وتوجد، وسط كل شعب، نسبة الربع التي لا تقدر على ان تفرز بين ذوق وذوق. ونسبة النصف متوسطة الذوق، ونسبة الربع من نوع «سوبر تيسترز» (ذواقون عظماء).

ولم يستطع علماء الطعام حتى الآن على تفسير ذلك.

لكن، بفضل تقدم العلم والتكنولوجيا، استطاعوا ان يحددوا خلايا التذوق (والشم) في الفم (والانف)، واعصاب نقلها الى المخ، ومكانها هناك. توجد فوق كل لسان حلمات (نيبلز) يمكن ان ترى بالعين المجردة. لكن، لا تقدر العين المجردة على رؤية برعم (بد) في طرف كل حلمة (نيبل). هذا هو برعم التذوق. وهو الذي يقدر على ان يفرق بين الحلو، والمر، والحامض، والمالح، و«الامامي». في سنة 1990، لاحظت د. لندا بارتوشاك، طبيبة نفسية في قسم العين والاذن والحلق في قسم الجراحة في كلية الطب في جامعة ييل، ان هناك ذواقين اقوى من ذواقين. وهي التي سمتهم «سوبر تيسترز» (ذواقون عظماء). وساعدتها على ذلك مادة «فينيلوثوكاربمايد»، التي لولاها ربما لم يكن علماء الطعام قادرين على ان يكتشفوا سر الحلاوة، والمرارة، والحموضة، والملوحة.

في سنة 1931، اكتشفت هذه المادة في معامل «دو بونت» الاميركية، وسرها هي انها حامضة بالنسبة لناس، ومرة بالنسبة لآخرين. ولهذا استعلمت لقياس الحلاوة والمرارة.

واضافت د. بارتوشاك، العامل النفسي، وقالت انه يؤثر على التذوق. ولهذا، قالت انها تحلم ان يأتي يوم يستطيع فيه الكمبيوتر ان يتذوق الاشياء. واستدركت بأنها لا تريد الاساءة الى الذواقة، او قطع ارزاقهم. ولكن لأن العامل النفسي يؤثر على كثير من تصرفات الانسان، بما في ذلك الحكم على الطعام. الذي يقول، في لحظة غضب، ان طعاما مالحا، ربما يقول، في لحظة هدوء، انه لذيذ. ولذلك صلة بالظروف التي يأكل فيها، وبالذي اعد الطعام.