قصة الـ12 يوماً

طوال فترة فتح الحدود بين غزة ومصر ارتفع متوسط دخل الأسرة في القطاع من 3 دولارات إلى 250 دولاراً

ابراهيم شاشي في رفح المصرية قبل الاغلاق («الشرق الأوسط»)
TT

التقيناه مرتين عند «بوابة صلاح الدين»؛ مرة صباح السبت الماضي قبل يوم من إغلاق المعبر؛ ومرة ثانية صباح الاثنين بعد يوم من إغلاقه، ففي الحالتين كان الوضع النفسي لمنير العرعير، 45 عاماً، مختلفا تماما. فهذا الرجل المتزوج الذي يعيل أسرة من عشرة أفراد، قال لـ«الشرق الاوسط» إن حياته تغيرت رأساً على عقب خلال الاثني عشر يوماً التي فتحت فيها الحدود بين مصر وقطاع غزة. ويوضح «كنت قبل فتح الحدود عاطلا عن العمل أعيش على معونات اجتماعية تقدمها لأسرتي هيئات خيرية. أما بعد فتح الحدود، فقد كنت أعود كل يوم وفي جيبي 400 شيكل (100 دولار)، لقد تغيرت حياتي تماماً بشكل ايجابي، ويصعب عليَّ تخيل أن مصدر الرزق هذا سيتوقف». ويروي العرعير أنه بعد أن ترامى الى مسامعه أن الجدار الحدودي بين مصر والقطاع قد انهار، حضر اليه ابن عمه مصطفى، 20 عاماً، واقترح عليه أن يشاركه في الاتجار ببعض السلع التي يمكن شراؤها من شمال سيناء وبيعها في غزة. فرد منير على الإقتراح بالقول إنه لا يملك مالاً، فاوضح له مصطفى بأن لديه من المال ما يمكن أن يشكل رأسمالا لهذه التجارة. وافق منير لكن بعد أن ابلغ مصطفى بأنه سيتشاور مع زوجته إن كان بالإمكان بيع ما لديها من مجوهرات واستغلال ثمنها في التجارة. وبالفعل وافقت الزوجة، وانطلق الاثنان نحو الحدود، حيث كانا يشتريان الدخان واللوز والمواشي وحتى السولار ويبيعانها في غزة. ويضيف العرعير أن أولاده الأربعة الذين يتعلمون في المدارس قد حظوا بملابس جديدة بسبب التغير في حياته، بعد أن كان يشتري الملابس المستخدمة لهم من البسطات التي تعرض الملابس المستعملة للبيع في أسواق غزة الشعبية. كما أنه اعطى زوجته قبيل بدء الفصل الدراسي الثاني الذي بدأ يوم السبت الماضي مبلغ خمسمائة شيكل (110 دولارات) لشراء مستلزمات الأولاد من القرطاسية. ويضيف «لقد شعرت أنني انسان استحق الحياة، لقد وجدت لذة في العمل، فطوال الإيام الـ12، كنت اخرج في تمام الساعة الرابعة فجراً، ولا اعود الى البيت الا الساعة العاشرة مساء، فأجد معظم أبنائي قد اخلدوا إلى النوم». منير كان يرغب أن يتواصل فتح الحدود فقط حتى يستطيع سداد المديونية التي عليه، والتي تبلغ 12 الف شيكل (3500 دولار). كان كل من مصطفى ومنير واثناء وجودهما في سيارة الأجرة التي اقلتهما يوم السبت من غزة الى منطقة الحدود، حيث كان يرافقهما مراسل «الشرق الأوسط»، يوصيان بعضهما بعضا بأن يحاولا شراء كل ما يجدانه. وعندما سألنا منير «لماذا تخططون لشراء كل ما ستجدونه؟»، فرد قائلاً «لأن كل ما سنتشريه سنبيعه بربح كبير».

عندما تحدثنا لمنير يوم السبت كانت الإشراقة تعلو وجهه، وهو يأخذ طريقه برفقة مصطفى الى داخل بوابة صلاح الدين. ويوم الاثنين كان القلق والترقب يعلوان وجهه، عندما كان يقف على مسافة 30 مترا من البوابة التي قد أغلقها عناصر الأمن المركزي المصري، لكنه يأمل أن يعاد فتح الحدود بطريق رسمية وشرعية.

أما مصطفى الذي يعاني من اعاقة بسيطة بسبب اصابته بعيار ناري اطلقه عليه جنود الاحتلال خلال أحد الاجتياحات العسكرية لحي «الشجاعية» في غزة، حيث يسكن، فإن آماله لم تكن أقل من آمال منير. ويقول لـ«الشرق الاوسط» إنه قبل فتح الحدود كان يمضي جل وقته جالساً أمام منزل العائلة «كنت كثيراً ما أتشاجر مع الجيران على أمور تافهة. كنت لا أشعر بوجودي. ولم يكن وارداً لدي فكرة الزواج. وما أن فتحت الحدود، حتى حصلت من اختي وأمي مبلغاً من المال للاتجار به، وقد شعرت أنه بالإمكان تحقيق كل آمالي في الحياة لو ظلت الحدود مفتوحة»، على حد تعبيره. ويؤكد مصطفى أنه لو استمرت وتيرة عمله أثناء فتح الحدود لمدة نصف عام، فإنه سيكون بإمكانه بناء شقة والزواج، مع العلم أنه وحيدُ أمه. ورغم أن كلاً من منير ومصطفى يعيان أن فرص نجاحهما في تجاوز الحدود مجدداً، في الوقت المنظور قريبة من الصفر، إلا أنهما يأملان أن يستطيعا مجدداً ليس فقط الوصول الى مدن وبلدات شمال سيناء، بل الى جميع مناطق مصر بشكل رسمي وشرعي.

عندما يتحدث المرء الى كل الذين كانوا يوجدون على الحدود، فأنه يلمس أن لكل من هؤلاء قصة خاصة تبرز التغير الدرامي الذي طرأ على حياته بعد فتح الحدود، ولمدة 12 يوما فقط.

عزوز بركات، 54 عاماً، من مدينة غزة، صاحب شاحنة نقل كان أحد أولئك الذين تغيرت حياتهم رأساً على عقب بعد فتح الحدود. فهذا الرجل الذي يعيل اسرة من عشرة افراد، قال لـ«الشرق الاوسط» إنه كان قبل فتح الحدود بالكاد يعمل يوما واحدا خلال الاسبوع، حيث أنه كان يقوم خلال هذا اليوم بنقل بعض المحاصيل الزراعية لصالح احد التجار من جنوب القطاع الى مدينة غزة، ويحصل مقابل ذلك على 80 شيكلا. وأضاف أنه كان دائما ما يمكث في البيت ولا يخرج إلا في حال اتصل به التاجر الذي يعمل لديه فقط. ويضيف أن عائلته لا تعرف إلا البقوليات من فول وعدس وبازلاء مجففة طعاماً، حيث اختفى اللحمُ من المنزل تماماً، في حين أنه وزوجته قلصا علاقات المجاملة مع الأقارب والأصدقاء بسبب قلة ذات اليد، في حين تراكمت المديونية عليه لدى صاحب السوبرماركت المجاور للبيت، منوهاً بأن احد اشقائه الذي يعمل في احدى دول الخليج يرسل له مبالغ من المال بين الفترة والأخرى، تساعده على تدبير شؤون حياة اسرته. ويوضح عزوز أنه بمجرد أن أحد اقاربه اتصل به في تمام الساعة الواحدة فجراً في الثالث والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، وابلغه أن الحدود فتحت، فما كان منه إلا أن ركب سيارته واتجه نحو الحدود، حيث عمل في نقل البضائع من الحدود الى داخل القطاع. واكد أنه في اليوم الأول لفتح الحدود عاد للبيت، ومعه مبلغ 1500 شيكل (450 دولارا)، منوهاً بأن هذا يعتبر مبلغاً «خيالياً» بالنسبة لشخص كان يحصل بالكاد على مبلغ 3 دولارات في الاسبوع الواحد. واكد بركات أنه حتى يوم السبت الماضي كان دخله في اليوم لا يقل عن 1000 شيكل (286 دولارا)، موضحا انه قام بسد صاحب السوبرماركت ما له عليه من دين. وقام بكسوة اولاده الستة وبنتيه، الى جانب أنه في كل يوم من هذه الإيام كانت زوجته تطبخ اللحم الذي غاب طويلاً عن مائدة هذه الأسرة.

بالنسبة لبركات، فإنه كان يدرك أن الحدود ستغلق مجدداً، وبالتالي فهو لا يوغل في التفاؤل بقرب فتحها، ومع ذلك، فإن أملاً يحدوه بقرب التوصل الى اتفاق بين مصر والطرف الفلسطيني بشأن هذا المعبر. واضاف «الكل بات يدرك أن الفلسطينيين لن يقبلوا تحمل هذا الواقع البائس، وفي حال لم تتعظ الأطراف التي تمارس الحصار علينا مما جرى، فإن ما قد يحدث في المستقبل سيكون أشدَّ». ناهض المصري، 49 عاماً، هو ايضاً أحد اصحاب الشاحنات التي كانت تعمل في الاتجاه المعاكس، حيث كان يقوم بنقل حديد الخردة من قطاع غزة الى داخل الحدود المصرية، والذي يشكل نموذجاً للفلسطينيين الذين تغيرت حياتهم بسبب فتح الحدود؛ يؤكد أن الطريقة التي فتحت بها الحدود مثلت إساءة لكل من الفلسطينيين والمصريين على حد سواء. لكنه يستدرك قائلاً لـ«الشرق الاوسط» إن الفلسطينيين اجبروا على ذلك بفعل الحصار، متوقعاً أنه في حال ظلت الحدود مغلقة، وواصلت إسرائيل حصارها المشدد، فسيتوجه الفلسطينيون لفتح الحدود مجدداً سواء الحدود مع مصر أو مع إسرائيل. وتابع «لقد كان دخلي قبل فتح الحدود صفرا، وبعد فتحها كان لا يقل دخلي طوال 12 يوماً عن 400 شيكل (100 دولار) في اليوم، فلماذا نعود الى هذا الوضع البائس مجدداً». ابراهيم شاشي، 32 عاما، صاحب عربة يجرها حمار ويعيل اسرة عددها 12 نفراً، عمل في مجال نقل البضائع من رفح المصرية الى رفح الفلسطينية، قال ايضا إن فتح الحدود غيَّر حياته، حيث كان يعمل منذ ساعات الفجر الأولى وحتى ساعة متأخرة من الليل، مشيراً الى أن دخله في اليوم كان لا يتجاوز الخمسة شيكلات (1.1 دولار)، في حين أن دخله كان بعد فتح الحدود يتجاوز 150 شيكلا (75 دولارا) في اليوم «الناس هنا يمكن أن تعطي فرصة أخرى لفتح المعبر الحدودي بالطريقة الرسمية والشرعية، لكن في حال ظلت الأمور على حالها، فأنا سأكون ضمن الذين سيتوجهون للحدود وسأحاول انقاذ اسرتي من حالة الفقر الذي تعيشه». وعلى الرغم من الخلافات السياسية العميقة بينهم حول الجهة التي ستدير المعبر، إلا أن قيادات الفصائل الفلسطينية ترى أنه يتوجب التعامل مع المعبر كمعبر فلسطيني ـ مصري.

بالنسبة للدكتور يحيى موسى، نائب رئيس كتلة حركة حماس في المجلس التشريعي، يرى أنه على الرغم من الخلافات العميقة بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحركة حماس بشأن المعبر، إلا أنه يثق بأنه سيكون بالإمكان التوصل لحل ما. ولمَّح موسَى الى أن حركته في النهاية لن تُصِرَّ على وجودِ ممثليها بشكل فعلي في المعبر، طالما تحقق شرطان؛ الأول ألا يتحول المعبرُ الى وسيلة للضغط على المواطنين الفلسطينيين في غزة وكصورة من صور العقوبات الجماعية. والى جانب ذلك، أن يتم توجيه العوائد المالية للمعبر لخدمة التنمية في قطاع غزة، وبحيث لا يتحكم فيها طرف فلسطيني بعينه.

تيسير نصر الله، القيادي في حركة فتح، يؤكد بدوره أنه يتوجب توجيه الجهود نحو تحقيق هدف واحد، وهو أن يكون المعبر فلسطينياً ـ مصرياً، من اجل التخفيف عن حياة الناس في القطاع. ويشدد على أنه يتوجب العمل على ضمان التخفيف عن الناس في القطاع بكل طريقة ممكنة، مشيراً الى أن اسرائيل استغلت المعبر في السابق لقهر الفلسطينيين في القطاع.

أما النائب قيس عبد الكريم، عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فيرى أن أيَّ حلٍّ لقضية معبر رفح يجب أن يتم بين الرئاسة الفلسطينية بصفتها القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير من جهة، وبين مصر، داعيا إلى التنفيذ الفوري للاقتراح الذي تقدمت به حكومة الدكتور سلام فياض بشأن توليها مسؤولية الإشراف على المعابر. وطالب دول الاتحاد الأوروبي بصفتها طرفا في اتفاقية المعابر إلى العمل من أجل وضع حد للسيطرة الإسرائيلية على المعابر نظرا لاستخدام دولة الاحتلال إمكاناتها وقوتها في العقاب الجماعي للفلسطينيين. وكانت بعض الأوساط في حكومة اسماعيل هنية المقالة قد صرحت أن لديها توجها لتكرس فك الارتباط الاقتصادي بين قطاع غزة واسرائيل، وتعميق التعاون الاقتصادي مع مصر بدلاً من ذلك. وقوبلت هذه الفكرة بتحفظات كبيرة في الساحة الفلسطينية. طلال عوكل، الكاتب والمعلق السياسي الفلسطيني، حذر من تحويل مصر الى عنوان للفلسطينيين، وتحميلها المسؤولية عن الضائقة الاقتصادية التي حلت بالمواطنين الفلسطينيين جراء الحصار الإسرائيلي في حال تواصل اغلاق الحدود بين القطاع ومصر. وتابع «مصر تستطيع المساعدة ولكنها لا يمكن ان تكون محل ادانة إلا بحدود كونها دولة شقيقة، يترتب عليها ان تقوم بواجباتها القومية إزاء الشعب الفلسطيني وقضيته». ويحذر عوكل من مغبة تكريس قطاع غزة ككيان مستقل، وفصله عن الضفة الغربية في حال تم ربط القطاع بمصر اقتصادياً. لكن عوكل يعتقد أن فرص إعادة فتح معبر رفح بشكل طبيعي ضئيلة جداً في المستقبل المنظور لأن الأزمة بين حماس وأبو مازن بلغت «حد الاستعصاء على الحل».

من ناحيته، قال علاء الأعرج، المستشار الاقتصادي لهنية، إنه سواء ظلت الحدود مع مصر مغلقة أو أعيد افتتاحها بواسطة اتفاق رسمي، فإنه ليس وارداً لدى الحكومة بغزة أن تتخلى عن «نضالها» من اجل وضع حد للحصار الذي تفرضه إسرائيل. وقال لـ«الشرق الاوسط»: «نحن واثقون بأنه ستتم إعادة فتح المعبر الحدودي، ولن تكون هناك حاجة لتكرار ما حدث أخيراً، فالحكومة المصرية تدرك الحاجة الماسة الى وضع حد للمعاناة التي يواجهها الفلسطينيون في القطاع». الجدل حول مستقبل الحياة في القطاع بعد اغلاق الحدود مع مصر لم يقتصر على اولئك الذين تأثروا بشكل مباشر من فتح الحدود او على المسؤولين الرسميين من طرفي حماس وفتح، بل تعداه الى الجمهور الفلسطيني بشكل عام. سليم ابو مدافع، 51 عاما، صاحب سيارة اجرة يعمل على خط غزة خان يونس، يقول إنه لولا فتح الحدود مع مصر، لما استطاع أن يعمل. وقال لـ«الشرق الاوسط» إن قطاع غزة خلا تقريباً تماماً من السولار الذي تستخدمه سيارات الأجرة «لولا فتح الحدود لما استطعت انا وغيري من السائقين مواصلة العمل. وفي حال ظلت الحدود مغلقة، فبكل تأكيد أني سأعود وسيارتي للبيت».