دمشق تتجمل.. بصعوبة

«نيو لوك» سوري: إعلامي مع دبي.. معماري مع قطر.. ولكن سوء التخطيط جعل الثقافة رديف إغلاق الشوارع

سوريون يسيرون في احد شوارع دمشق المشغولة بعمليات التحسين استعدادا للقمة العربية («الشرق الاوسط»)
TT

عام 2008 لن يكون عاماً كغيره من الأعوام القليلة الماضية بالنسبة للمواطن السوري، فهذا العام يحتفل به بدمشق عاصمة للثقافة العربية، كما تستضيف دمشق مؤتمر القمة العربية في مارس (آذار) المقبل. تحولت دمشق بسبب الحدثين إلى ورشة إصلاح وترميم وإعادة تأهيل، فيما أنهك المواطن سعير الغلاء الذي هب كموجة عاتية على وقع تفكير الحكومة السورية بـ«صوت عال» برفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات والطاقة، بدأت برفع أسعار البنزين والكهرباء، فانشغل الشارع طيلة الأشهر الماضية بمصيره المعاشي، وكيفية تدبير أوضاعه الحياتية اليومية في ظل فوضى أسعار كانت أول غيث لعواصف التحول إلى اقتصاد السوق الذي بدأته سورية في الأعوام الأخيرة.

ضمن «حالة ترقب» يعيشها الشارع السوري لما ستشهده عاصمتهم هذا العام على أكثر من صعيد سياسي وثقافي، واستعدادا للقمة العربية، تم بناء 27 قصراً رئاسياً، وفيللا على طريق المطار قبالة قصر المؤتمرات ـ 15 كم جنوب دمشق ـ أشرفت على بنائها شركة (الديار) القطرية، فيما وضعت شركة «إيغرا» اللبنانية دراستها لتقوم بتنفيذها شركات سورية. بالإضافة إلى ذلك وفي إطار التحضيرات، يتم إعادة تأهيل طريق المطار الدولي. أما في مجال الإعلام، فقد أعلن عن مشروع تعاون مشترك بين التلفزيون السوري ومؤسسة دبي للإعلام بقيمة 8 ملايين دولار لتحديث الأجهزة والاستوديوهات وتبادل البرامج.

هذا التعاون جاء ليلبي مطالب الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بهدف رفع مستوى الأداء وفق ما صرح به أحمد الشيخ المستشار الإعلامي للشيخ محمد بن راشد الذي قال إن بعض التجهيزات التي سيتم جلبها لإنشاء مركز متطور جداً للأخبار غير موجودة في دبي نفسها، ستقدمها الإمارات لسورية بناء على توجيهات الشيخ محمد بن راشد لأن «الأشقاء في سورية أولى». كما يتضمن مشروع التعاون تطوير التلفزيون الرسمي السوري من حيث الشكل، واتفق مع شركة فرنسية لتقوم بذلك. وتتوزع تكاليف المشروع على النحو التالي: 4 ملايين دولار لإنشاء الستوديو وتجهيزاته وتدريب كوادره، 3 ملايين دولار لتطوير الشاشة، ومليون دولار لشراء أجهزة ستساعد في تغطية فعاليات القمة العربية المرتقبة. وعلى صعيد تجميل المدينة وتأهيلها لاحتضان النشاطات الثقافية كما جرت العادة في المدن التي يقع عليها الاختيار كعواصم للثقافة، فإن مظاهر الاحتفال التي حاولت الأمانة العامة للعاصمة الثقافية تعميمها على الشارع غطى عليها غبار إعادة تأهيل الشوارع والساحات الذي لم ينجل حتى الآن، ولم تنفع معها احتفالات الافتتاح الثلاثة التي أقيمت لانطلاق فعاليات العاصمة الثقافية، ومن المفارقة أن تكون حجة المعنيين بأعمال التحفير أنهم يقومون بمشاريع مستدامة، وليست آنية للعاصمة الثقافية، أي أنهم سيستمرون بأعمالهم من دون التزام بمواعيد الاحتفالية، وهو ما يسميه البعض مماطلة وتباطؤا، فالمشروع الذي يقال إنه سينجز خلال أشهر سيستهلك سنوات. هانية، 37 عاما، معلمة ثانوي، تعيش في دمشق القديمة حيث تكثر الحفريات، تعبر عن انزعاجها بالقول «لقد نجحوا نجاحا منقطع النظير في جعل الثقافة ملازمة لإغلاق الشوارع وتعطيل مصالح العباد، فكلما سألنا عن سبب حفر شارع أو ما شابه يقال استعداداً للاحتفالية، والاحتفالية على حد علمنا بدأت، لكن الحفريات لم تنته، وما زال علينا الغوص في الأوحال لنصل إلى مكان العمل». وتضيف هانية ساخرة «على أساس أن الثقافة بخير وتحتاج منا القيام بكل ما يجعل الناس تبتعد عنها». وكانت محافظة دمشق قد باشرت العام الماضي بتنفيذ مشاريع لتجميل المدينة وإزالة التشوهات البصرية فيها كإعادة تأهيل البنية التحتية للمدينة القديمة، بدأت بسوق «مدحت باشا» وامتداده في «الشارع المستقيم»، إلى جانب معالجة التشوهات العمرانية وترميم وصيانة بيوت وقصور قديمة شهيرة مثل «بيت فخري البارودي» في القنوات، و«حارة جوزة الحدباء» في سوق ساروجة، ومحيط «حمام الخانجي» و«المتحف الوطني» و«التكية السليمانية»، و«قصر الأمير عبد القادر الجزائري» في دمر. كما تم تجميل وتنظيف واجهات المباني المطلة على الساحات، وتنظيم لوحات الدلالة في الأسواق التجارية، وإزالة تمديدات مداخن ونوازل تصريف المياه ومظلات المحلات، وتوحيد الصحون اللاقطة على الأسطح. أعمال كلها تتطلب جهودا حثيثة وشهورا مديدة، وللأسف أنها بدأت جميعها معاً وفي وقت واحد تحت عنوان التحضير للعاصمة الثقافية ما تسبب باكتظاظ الشوارع وفوضى المرور، تضافرت مع ظروف معيشية قاسية وصيف لاهب ومن ثم شتاء قارص. تزامن اولا مع الصيف اللاهب (أزمة كهرباء ومياه)، وتزامن ثانية مع الشتاء القارص (أزمة وقود). سامر، 25 عاما، عامل في أحد متاجر سوق مدحت باشا الشهير لا يعنيه كثيرا ما يقال عن عاصمة الثقافة، ولا يتابع أياً من نشاطاتها، وهو ينتظر اليوم الذي سينتهي فيه تأهيل سوق مدحت باشا على أحر من الجمر لأنه سيغدو جميلا كسوق الحميدية بعد الترميم الذي تم منذ سنوات. بدأ العمل في إعادة تأهيل سوق مدحت باشا والشارع المستقيم الأثري منذ ثلاثة أشهر، وكان المتوقع أن يتم الانتهاء منه خلال فترة أربعة أشهر، خاصة أنها منطقة تجارية تاريخية تتركز فيها عدة أسواق كسوق العبي والفرو والمفروشات والشرقيات والمطاعم، وهي دائماً مزدحمة بالمتسوقين والسياح. شارع مدحت باشا الحيوي، الذي قطعه بولس الرسول، يعتبر الأطول في مدينة دمشق القديمة، لكن البدء في إعادة تأهيله بدا ورطة كبيرة كشفت عن سوء تنسيق بين الجهات ذات العلاقة بتنفيذه، ناهيك من البيروقراطية المستوطنة في الدوائر الرسمية، بما يكفي لمضاعفة الزمن المقدر لتنفيذ أي مشروع، فما بالنا بمشروع صعب ومعقد كإعادة تأهيل منطقة أثرية قديمة مأهولة بكل ما يعينه ذلك من ترميم يطال الصرف الصحي وتمديدات الكهرباء والماء والهاتف والبناء، بحيث يتطلب العمل إشراف عدة وزارات ومؤسسات خدمية، ناهيك من وزارتي الثقافة والسياحة.

سوء التنسيق لا يظهر ببطء التنفيذ وحسب، بل غالباً بعد الانتهاء منه، إذ يعاد الحفر مجدداً، لأن مؤسسة ما قررت أن تقوم بمشروع آخر في المنطقة. ودائماً لا يبدو هذا مفهوماً، ويفسر على أنه ترقيع لما تم ترقيعه. وليس مشروعاً جديداً تقوم به كل مؤسسة على حدة.

مشروع سوق مدحت باشا جزء من مشروع كبير يستهدف إعادة تأهيل البنية التحتية للمدينة القديمة المتهالكة جراء سوء شبكة الصرف الصحي، نتيجة الضغط المتزايد على المنطقة التي تحولت إلى مركز لتجمع مطاعم ومقاه سياحية، يقال إن عددها تجاوز 200 مطعم، فيما قال مسؤول في محافظة دمشق لـ«الشرق الأوسط» إن عددها لم يتجاوز الـ95 مطعما ومقهى، وأنه منذ نحو سنتين تم وقف منح رخص افتتاح مطاعم في المدينة القديمة. ووفقا للمسؤول السوري فإن أهم إنجاز للمحافظة كان في وضع الدراسات المطلوبة لمشروع تبديل البنية التحتية للمدينة القديمة، وهذا المشروع يحتاج تنفيذه إلى ميزانية ضخمة وثلاث سنوات عمل كحد أدنى، موضحا أن تأهيل سوق مدحت باشا تأخر بسبب التردد في تنفيذ الدراسات «فهذه المنطقة من الصعب التعامل معها، لأن أغلب الأبنية مهددة بالانهيار نتيجة سوء شبكة الصرف الصحي». وقال المسؤول السوري إن العمل يتم بإنجاز كافة الأعمال والمشاريع المطلوب تقديمها نهاية الشهر الثاني من هذا العام أو بداية الشهر الثالث، منها شارع مدحت باشا ومشروع طريق المطار ومعرض ساحة العباسيين. هذا التفاؤل والوعود سرعان ما تبددت على الأرض، فمعرض ساحة العباسيين استغرق حوالي السنتين بكل ما رافق ذلك من أزمة سير خانقة في أكبر ساحات دمشق، حتى أن سكان المنطقة يئسوا من مجيء يوم تنتهي فيه أعمال هذا المشروع. بسام جيرودية، عضو مكتب تنفيذي للآثار والسياحة والثقافة في محافظة دمشق، شرح لـ«الشرق الأوسط» الرؤية التي تنطلق منها عمليات التجميل وإعادة التأهيل الواسعة. وأوضح «أوكلت للمحافظة مهمة تهيئة ارض الاحتفالية، وهي كافة شوارع مدينة دمشق والأماكن الأثرية والأماكن المحددة لإقامة بعض الأنشطة»، مثل ساحة الأمويين التي أقيم فيها حفل الافتتاح الشعبي الذي تضمن عرضاً لإطلاق الألعاب النارية والرقص المعلق في الهواء. وتمكنت محافظة مدينة دمشق من تسجيل بعض النجاحات في مهمتها من حيث تجميل واجهات بعض الأبنية القديمة كبناء العابد الشهير. ويتابع جيرودية: «لم تكن سهلة تجربة تنظيف واجهة بناء العابد في منطقة المرجة التجارية والمكتظة، فالبناء يشغله مهنيون وحرفيون وكل له عدة يافطات دلالة، وبالتعاون مع لجنة البناء تم إزالة تلك التشوهات وتنظيف الحجر وإعادته كما كان في السابق، وعممت التجربة على أبنية في أماكن أخرى كشارع الباكستان والشهبندر وبناء وزارة السياحة، كما تمت إعادة تأهيل الطرق في محيط المتحف الوطني وسور نهر بردى، والأعمال ما تزال مستمرة». الحديث عن تكريس ثقافة ما، سواء ثقافة النظافة أو غيرها، لا يتطلب فقط القيام بأعمال ترميم وإصلاح مزمنة، فهذا لا يكفي بل يصبح غير مجد في ظل اختلال العلاقة بين المجتمع والحكومة، فالمواطن يشعر أن الحكومة تسلب منه الضرائب بدون وجه حق، لأن أياً من أموره لا يسير بدون دفع رشوة، وهناك جيش من البيروقراطيين الفاسدين يمصون عرق جبينه لتسيير المعاملات أو لتمرير المخالفات تحت يافطة «تمشية الحال»، وبالتالي فإن هذا الشعور وحده يبرر للمواطن عدم الحرص على الممتلكات العامة إذا لم نقل سرقتها وتخريبها، وتشويه المنظر العام بدءاً من سرقة الكهرباء وليس انتهاء بإفساد المزروعات وتهشيم الكراسي في الأماكن العامة، باعتبار أن كل ما هو ملك الدولة ليس ملكاً له. وباعتبار أن المعيار العام للمواطن الصالح «الدفع بالتي هي أحسن، ومن فم ساكت» ـ بحسب تعبير أحد المثقفين السوريين الذي تحدثت اليه «الشرق الأوسط» ورفض الكشف عن أسمه «اشمئزازاًً» من الثقافة، فهو لا يريد أن يكون ضمن «قائمة المثقفين»، لكثرة ما تعرضت له الثقافة من «شرشحة». فعدا «اعتقال المثقفين، الذين لا يبدو أن أحدا في الشارع مكترث بهم باستثناء رفاقهم وزملائهم في الثقافة والسياسة وكأنهم معتقلون في القطب المتجمد الشمالي، تنطلق نشاطات العاصمة الثقافية وأول المستبعدين منها المثقفون السوريون حتى مثقفي السلطة، ما عدا قلة قليلة. فحفلات الافتتاح الثلاث لم تتم خلالها دعوة الأدباء والكتاب والمثقفين السوريين، ليس للمشاركة فيها وإنما لحضورها، من باب تكريم صناع الثقافة على الأقل، وكأن هذه الاحتفالية حكر على الأمانة العامة ممثلة بالأمين العام وفريق عملها، والشركات الخاصة المتعاقدة معها. ويتابع: «ثم يتحدثون بالفم الملآن عن تكريس ثقافة الجمال والنظافة. ماذا يعني تكريس ثقافة؟ فإذا كانت ثقافة التهميش والإلغاء هي السائدة والتشوهات الناجمة عنها في النفس البشرية لا يمكن إخفاؤها بتجميل الأبنية والشوارع». الموقف من عاصمة الثقافة، ومن خطوات المحافظة، يختلف بين المثقفين الذين يشعرون بالإجحاف جراء استبعاد غالبيتهم عن دائرة المشاركة، وبين الناس العاديين المهتمين بالثقافة. فأمجد، 23 عاما، الطالب في كلية العلوم الطبيعية، تمنى لو أن تجميل المدينة بدأ بوقت مبكر ومن خلال برامج عمل شبابية تطوعية تدمج الشباب والمجتمع في عملية التنظيف وحملات التوعية على نطاق شعبي، وبشكل يشعر كل مواطن أنه معني، على ألا ينحصر ذلك في مدينة دمشق وضمن الفترة الزمنية للمناسبة، بل أن يمتد إلى كافة المدن والمحافظات، وبالتالي أن تكون النشاطات الثقافية محلية وفي كل أنحاء البلاد، وليس فقط في العاصمة. ويأخذ أمجد على الاحتفالية عنايتها بالفن الغربي العالمي بالتساوي مع الفنون المحلية، قائلاً: «إذا كانوا يريدون إثبات أن دمشق قادرة على استيعاب الثقافة العالمية، فعليهم أولاً إثبات القدرة على احتضان الثقافة المحلية، فمعظم الشباب المثقف الواعي يضع نصب عينيه الهجرة كسبيل وحيد للعثور على فرصة للعمل والحياة والإبداع». عاصمة الثقافة ليست مناسبة لتجميل المدن وإقامة نشاطات ثقافية، بل هي فرصة لفتح ملفات ساخنة للنقاش أيضاً، وما أكثرها في دمشق التي تحاول نفض ملامح الفترة الماضية عنها، بكل ما تحمله من مفردات اكتسبتها من الأنظمة «الاشتراكية» السابقة، تستبدلها بأخرى تقربها من ملامح المدن الغربية المعاصرة، لتلحق بركب الاقتصاد العالمي المفتوح، بـ«لوك» جديد يتماشى مع عصر الاستهلاك، فمن «البطالة الاشتراكية» إلى «الرأسمالية المتوحشة» يأمل السوريون ألا يغطي هذا الـ«نيو لوك» على الأصل.