منطق القدر الجغرافي

50% من مشتري الوحدات السكنية في دبي من إيران والكومنولث

الضغوط على الاعمال الايرانية اثرت داخليا في ايران («الشرق الاوسط»)
TT

«قدر الإمارات والدول الخليجية ان تكون إيران جارتها، وهو قدر لا يمكن لأحد أن يتحكم به لا تاريخيا ولا جغرافيا.. من هنا فإن تعاملنا مع ايران هو تعامل الجيران، وأي ضرر سيصيبها سيلحق بالمنطقة الأذى». قد تكون هذه الكلمات التي قالها حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مفاجئة لأذني ضيفه الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش حينما كانا يتناولان الغداء في الطابق السابع والعشرين من فندق برج العرب الشهر الماضي.

هذا الدرس البسيط والعميق، في آن، في الواقعية السياسية كان على الدوام المنهج الذي اتبعته دولة الامارات مع جارتها ايران حتى في احلك اللحظات التاريخية خلال حرب الخليج الاولى وبعد ذلك. ورغم ان هذه الجارة تحتل ثلاث جزر اماراتية منذ عام 1971، الا ان الامارات نأت بنفسها عن العنتريات السياسية في علاقاتها مع طهران. واذا كانت جولة بوش الخليجية الشهر الماضي قد نجحت على صعيد العلاقات العامة للبيت الابيض، الا ان محاولاته تسويق حزمة من الاجراءات الاشد لدى عواصم المنطقة ضد ايران واجهت ممانعات كالتي ساقها حاكم دبي مثلا. واذا كانت العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على طهران قد نجحت الى حد ما في تجميع حشد دولي للضغط على ايران بسبب برنامجها النووي المتنازع عليه، وكان احدثها ايقاف بنوك صينية العمل مع بنوك ايرانية، كما اعلن مطلع هذا الشهر، الا ان «التعاملات التجارية بين الامارات وخاصة دبي مع ايران لم تتوقف ويبدو انها لن تتوقف البتة»، كما قال مسؤول في مجلس الاعمال الايراني بدبي. وتتفق مع هذا الرأي الاماراتية سلمى حارب، المديرة التنفيذية لسلطة المنطقة الحرة لجبل علية التي قالت ان حركة التبادل التجاري بين المناطق الحرة في الامارة وايران «تسير كالمعتاد» على الرغم من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على ايران بسبب الملف النووي. وتعتبر ايران من اهم الاسواق المجاورة التي اعتمدت دبي عليها لعقود مضت في تصدير البضائع المختلفة، حيث يعتبر «خور دبي» الميناء الطبيعي التاريخي، الذي تنطلق منه نحو السواحل الايرانية التي تبعد 150 كيلومترا فقط، عشرات السفن الخشببة الصغيرة التي تعرف محليا باسم «البوم» محملة بالالكترونيات والمواد الغذائية واطارات السيارات وغيرها.

وتحتل إيران المرتبة الرابعة بين كبار الشركاء التجاريين من حيث حجم وقيمة تبادلاتها التجارية غير النفطية مع دبي، العاصمة التجارية للإمارات، حيث بلغت عام 2006 حوالي 7.6 مليار مرتفعة 130% عما كانت عليه في عام 2002 والتي بلغت فيه حوالي 3.5 مليار دولار. أعادت دبي تصدير بضائع وسلع لإيران عام 2007 بقيمة 4.6 مليار دولار، اي ما يمثل 17% من الحجم الكلي لهذه التجارة العام الماضي التي بلغت 27.5 مليار دولار لتحل ايران في المرتبة الثانية بعد الهند التي استحوذت على 22% من اجمالي حجم هذه التجارة. ورغم ذلك تواجه الشركات الايرانية مصاعب متزايدة في الحصول على خدمات مصرفية من البنوك العاملة في الامارات نتيجة تزايد الضغوط الدولية على النظام المصرفي العالمي لتجميد علاقاته مع طهران. وأوقف مصرفان على الأقل في الامارات تعاملاتهما مع الشركات الايرانية وهما «إتش إس بي سي» و«بنك الفجيرة الوطني» اللذان اوقفا إصدار خطابات الضمان لرجال الأعمال الإيرانيين والشركات الإيرانية العاملة في الإمارات. لكن تشير ارقام شبه رسمية الى ان عدد الشركات الإيرانية المسجلة في إمارة دبي حقق ارتفاعا كبيرا خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث يتجاوز عددها حاليا 9 آلاف شركة، بعد أن كانت 2300 شركة فقط في العام 2003.

ويقول رجل اعمال ايراني ان البنوك في الإمارات ويبلغ عددها 49 بنكا لا تقبل التعامل مع الشركات الإيرانية إلا إذا كانت مسجلة في الإمارات، الا ان عضو المجلس الوطني (البرلمان) الاماراتي السابق الدكتور حبيب الملا أكد انه لا توجد مؤشرات قوية حاليا على أي نوع من المقاطعة للاستثمارات الإيرانية في المنطقة، مشيرا إلى أن بعض المصارف ترفض منح خطابات الضمان إما لأسباب تجارية تتعلق بالاقتصاد، وإما تخوفا من عقوبات محتملة قد تفرض على إيران مستقبلا مما يهدد حقوق هذه البنوك لدى إيران.

ويقلل الحاكم السابق للبنك المركزي الايراني الدكتور الدكتور سيد عادلي من تأثير العقوبات على العمليات المالية قائلا: «لدى ايران شبكة ضخمة من الروابط المالية قامت بتطويرها عبر العقود الماضية، والشركات تعمل على اتخاذ البدائل الاسهل والاكثر عملية لتنفيذ تعاملاتها المالية». وتابع «البنوك في دبي كانت تقليديا احد البدائل الا انها ليست البديل الوحيد بأي شكل من الأشكال». وأضاف: «هذه الأيام لا تزال بعض الدول ـ معظمها في الشرق وبعضها في الغرب الى حد ما ـ راغبة بالتعاون مع إيران، خاصة ان التعاملات التجارية الايرانية ضخمة ومربحة». ومخلفا رأي واشنطن حول ان ايران تتجه نحو عزلة اقتصادية، قلل عادلي الذي يدير حاليا معهد رواند للدراسات الاقتصادية والدولية في طهران، من تأثير العقوبات على طهران معربا عن تفاؤله بالمستقبل المالي لبلاده، قائلا ان دولا ومصارفا واغلبها في الشرق لا تزال راغبة بالتعاون مع ايران. وأضاف: «بالنظر الى حجم الاحتياطيات النقدية الاجنبية لايران من جهة ـ حيث تتعدى 30 مليار دولار بينما يصل حجم التجارة الخارجية الى 150 مليار دولار ـ والتعاملات التجارية الخارجية لايران في انحاء العالم، نجد ان هناك علاقة قوية بين المؤسسات المالية الدولية والقطاع المالي الإيراني». ويرى الدكتور الملا أن دول الخليج لن تفرض حصارا على الشركات والاستثمارات الإيرانية حتى لو فرضت أميركا حصارا، مشيرا إلى أن الدول الخليجية ستلتزم فقط بأي قرار يصدر من مجلس الأمن بغض النظر عن تأثيره على اقتصاداتها.

وتراقب الولايات المتحدة الحركة التجارية بين الامارات وايران عن كثب بعد ان افتتحت قبل عامين ما يسمى بـ«مكتب الوجود الإقليمي الخاص بإيران» التابع للخارجية الاميركية.

واشارت تقارير الى ان الحكومة الاميركية قدمت الى الامارات لائحة بعدد من الشركات الايرانية التي تعتبرها واشنطن «شركات وهمية» تحاول كسر الحظر الاميركي على طهران. وكان نيكولاس بيرنز، مساعد وزيرة الخارجية الاميركية للشؤون السياسية، قد وصف مهمة هذا المكتب خلال زيارة الى دبي العام الماضي بأنه «يحاول تلبية المتطلبات الهائلة للايرانيي الراغبين بالتوجه للولايات المتحدة وبالتالي فإنه يقوم بجهد كبير في اصدار التأشيرات فضلا عن جهد كبير في ارساء التواصل بين الشعبين الايراني والاميركي ومحاولة فهم ايران والتأكد من فهم الشعب الايراني خاصة أن العلاقات الرسمية بين البلدين مقطوعة منذ اكثر من ثلاثة عقود».

ويأتي اهتمام واشنطن بدبي بسبب وجود حوالي 500 الف ايراني مقيم في الإمارات، والاستثمارات الإيرانية في البلاد التي تقدر بمليارات الدولارات، خاصة أن الكثير من الشركات الايرانية في دبي لديها علاقات بشركات في طهران. وكان تقرير للبنك الاستثماري «شعاع كابيتال» ومقره دبي اشار الى أن حوالي 50% من مشتري الوحدات السكنية في دبي هم من إيران ودول الكومنولث مقابل 20% من دول الخليج و15% من بريطانيا والهند وباكستان و15% من باقي دول العالم.

وقال رجل اعمال ايراني كان في زيارة الى دبي الاسبوع الماضي لحضور معرض ضخم للأجهزة الطبية إن الإمارات العربية المتحدة اصبحت النافذة الرئيسية للالتفاف على العقوبات الاقتصادية، مؤكدا ان الحكومة الايرانية اسست خلال السنوات القليلة الماضية عددا من الشركات «الخاصة» في الإمارات بهدف تجنب آثار العقوبات. وتقول تقارير انه في اعقاب العقوبات التي فرضتها الامم المتحدة على القطاع المصرفي الايراني، تتم معظم التحويلات المالية عبر بنوك عاملة في الامارات. وعلى الرغم من تراجع التجارة مع الدول الاوروبية بما فيها المانيا وايطاليا، يعتقد مراقبون ان التجارة غير الرسمية مع هذه الدول تشهد ارتفاعا من خلال دبي. وأوقفت معظم البنوك الدولية تعاملاتها مع ايران بسبب الضغوط الاميركية التي كانت اوسع نطاقا من الحظر الذي فرضته الامم المتحدة على بضع مؤسسات مالية ايرانية كبيرة. ويقول رجل الاعمال الايراني ناصر هاشم بور نائب رئيس مجلس الاعمال الايراني في دبي ان البنوك العاملة في الامارات تتردد في التعامل مع شركات قد تقوم بتصدير بضائع الى ايران. أما عضو مجلس الإدارة في مجلس الأعمال الإيراني، فريد ماتورشي، فيرى أن الضغوط والمضايقات التي يجري الحديث عنها في دول خليجية ليست جديدة، مشيراً إلى أنها قائمة منذ أربعة أو خمسة أشهر على الأقل، وتوقع أن تزداد خلال الفترة المقبلة.

وينفي ماتورشي أن تكون للحكومة الإيرانية أية علاقة أو صلة أو ارتباط من أي نوع كان مع الشركات الإيرانية العاملة في دولة الإمارات، مؤكدا أن هذه الشركات هي شركات خاصة مملوكة لأفراد ومستثمرين إيرانيين.

واتخذت الضغوط الأميركية على النظام المصرفي الايراني منحى دراماتيكيا حينما اتهم مسؤول اميركي اثناء زيارة لدبي قبل عامين بنك «صادرات إيران» الحكومي وغيره من المصارف الايرانية بتمويل الارهاب في منطقة الشرق الأوسط.

وقال ستيوارت ليفي، وكيل وزارة الخزانة الاميركية لشؤون الارهاب والمعلومات المالية، إن حزب الله اللبناني تلقى مبلغ 50 مليون دولار مباشرة من ايران عبر بنك «صادرات» إيران. وينشط بنك «صادرات» إيران في الامارات عبر اكثر من سبعة فروع اضافة لمقر اقليمي في دبي. وقال ليفي ان البنوك الايرانية تحاول الالتفاف على الرقابة الاميركية عبر محاولات لطمس هوياتها في المعاملات المالية التي تتم من خلال بنوك دولية، موضحا ان لدى وزارته معلومات عن هذه المحاولات التي تهدف محو أي اثر للمؤسسات الايرانية في التعاملات المصرفية العالمية. ويبدو أن الضغوط الأميركية أسهمت من جهة اخرى في انتعاش تهريب الذهب بين دبي وايران خلال العامين الماضيين قبل ان ترتفع اسعار المعدن الاصفر الى ما فوق 900 دولار للأونصة في الأشهر الاخيرة. وأرجع تجار توجه الايرانيين نحو الذهب كملاذ آمن نتيجة تفاقم التوتر مع الولايات المتحدة فضلا على السياسات الاقتصادية لحكومة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد.

ولم تتوفر ارقام عن حجم التهريب الا ان الذهب المهرب الى ايران يشكل نسبة كبيرة من الاستهلاك في البلاد التي تفرض ضريبة عالية على المعدن المستورد بصورة نظامية.

وحسب المصادر، تحتفظ السلطات الايرانية بموجوداتها من الذهب كاحتياطي استراتيجي ضد مخاطر شن هجمات عليها بسبب الأزمة النووية مع الولايات المتحدة.

وكان ستيفان اوستن المدير العام المعين لبنك ستاندارد الجنوب افريقي اكد لـ«الشرق الأوسط» قبل عامين هذا التوجه، قائلا ان ايران تتجه لعب دور اكبر في سوق الذهب العالمي خلال الفترة القادمة، مشيرا الى ان اسعار المعدن الاصفر «لن تعود الى الخلف معتبرا ان سعر 1000 دولار للأونصة بات أمرا ممكنا في غضون عامين»، وهذا ما يحدث حاليا بالفعل. ولا يخفي رجال اعمال اماراتيون من الوزن الثقيل خططهم لضخ استثمارات في ايران. ففي مارس (آذار) من العام الماضي، اعلنت مجموعة ماجد الفطيم الاماراتية العملاقة ومقرها دبي أنها باشرت ببناء مركز ضخم للتسوق في العاصمة الايرانية طهران.

ويحمل المركز علامة «كارفور» الفرنسية التي تمتلك المجموعة الاماراتية حقوق امتيازها في منطقة الشرق الاوسط. وذكر جيفري روسلي الرئيس التنفيذي لشركة «ماف» للتطوير العقاري ان «مركز كارفور» قيد الإنشاء حاليا في طهران في مشروع مشترك مع القطاع الخاص الايراني قائلا «ايران سوق مليئة بالفرص اما عن المخاطر فإن لكل سوق في العالم مخاطرها». ويصل حجم استثمارات «ماف» للتطوير العقاري في منطقة الشرق الاوسط الى اكثر من 20 مليار دولار. اما رجل الاعمال الاماراتي اسماعيل عباسي الذي تدير شركته سلسلة مقاهي «كوفي بين اند تي ليف» الأميركية في الإمارات فيتطلع الى السوق الايرانية التي يعتبرها «حبلى بالفرص»، مشيرا الى انه وجد بعد عناء شركاء هناك للبحث في امكانية افتتاح المقاهي في طهران وكبرى المدن الايرانية، مؤكدا انه لم ير عقبة في دخول منتج اميركي كهذه المقاهي الى تلك السوق، معتبرا ان «الإيرانيين في النهاية سينفتحون ويجب ان نكون مستعدين من الآن». ويقول مراقب خليجي ان منطق القدر الجغرافي الذي عبر عنه حاكم دبي لضيفه بوش في ذلك الفندق المطل على مياه الخليج العربي المقابل للسواحل الايرانية هو الذي يحدد مصالح الاماراتيين في النهاية والذي يحدد تعاملهم الواقعي مع ثاني اكبر جالية اجنبية في دبي، هذه الجالية التي وصفها الرئيس الايراني احمدي نجاد خلال زيارته للإمارات العام الماضي بأنها «من أفضل التجمعات الإيرانية في الخارج»، داعيا إياها «الى بذل الجهود في تعزيز العلاقات وتمتين الاواصر بين ايران والامارات اكثر مما مضى، بالنظر الي الوشائج الطيبة التي تربط بين البلدين». وعلى حد تعبير الأكاديمي الإماراتي الدكتور عبد الخالق عبد الله فإن: دبي لا تملك أجندة سياسية، وهي مقبولة من الكل ومرغوبة من الجميع.