نيويورك.. تبصر بعيون كفيف

ديفيد باترسون أول أسود يتولى حكم ولاية «المال والأعمال».. وأول كفيف يصل إلى هذا المنصب في التاريخ الأميركي

TT

كانت بعض القنوات الأميركية قد بثت خلال الثمانينات، مسلسلاً تلفزيونياً اسبوعياً بعنوان «بنسون». كان المسلسل يتحدث عن مغامرات حاكم احدى الولايات، وهو رجل أبيض ونائبه اسود. كان الحاكم رجلاً تستغرقه نزواته بالكامل، ولم يكن لديه اي وقت «يبدده» في إدارة ولايته. كان «زير نساء» خصص كل وقته وماله في مطاردة الحسناوات، كما أنه كان أرعن لم يكن يفهم شيئاً في امور الحكم وكيفية تسيير ولايته، وظل نائبه الأسود يتدبر الأمور ويقوم بكل شيء، ويترك الواجهة لحاكم الولاية الابيض. كان المسلسل من إنتاج هوليوود، ولم يتبادر الى ذهن أحد من الذين شاهدوا ذلك المسلسل ان هوليوود كانت تقرأ حدثاً مستقبلياً، سيقع وبالتحديد في ولاية نيويورك، عاصمة المال والاعمال الاميركية. في هذا الشهر بدأ مسلسل نيويورك، وانتهت آخر فصوله يوم الاثنين الماضي. الحكاية نفسها تتكرر. حاكم الولاية اليوت سبيتز يغرق في نزواته وتجرجره مغنية فاشلة في وحل الفضائح، ليتقرر ان يصبح حاكم الولاية هو على وجه التحديد الأسود ديفيد باترسون الذي دخل تاريخ الولاية كاول اميركي افريقي، يصبح حاكماً على ولاية تتوسد كل ليلة مليارات الدولارت من أرصدة الاقتصاد الاميركي، ويدخل التاريخ الاميركي ايضاً كاول شخص كفيف يتولى منصب حاكم ولاية.

هكذا هي المفارقات في بلد المفارقات. حرص باترسون على تقديم جميع افراد اسرته فور ان أقسم لتولى منصبه الجديد. وركز على شخصيتين قال إنهما لعبتا دوراً كبيراً في حياته، وهما والده بازيل باترسون الذي كان عضواً في مجلس ولاية نيويورك وتولى كذلك مسؤولية العلاقات الخارجية لمجلس الولاية، وزوجته ميشيل. كان من أطرف ما ذكره باترسون حول زوجته إن ابنتها من رجل آخر، وكانت تبلغ خمس سنوات عندما تزوجا، أصرت دائماً على الجلوس بينهما على اعتبار ان «علاقتها مع زوجته التي هي أمها أقدم منه». لكن «إخلاص الزوجين ووفائهما» الذي تحدث عنه باترسون شابته بعض الشوائب في وقت سابق. حيث أقر الزوجان بان خلافات عميقة طرأت بينهما قبل سنوات. واعترف ديفيد باترسون في محاولة استباقية لدرء هبوب العواصف مستقبلاً بان علاقات ربطته مع عدة نساء. بل ولمح الى انه تمتع بجاذبية جعلت النساء يبادرن الى ربط علاقات معه. وذهب باترسون في صراحته الى آخر مدى وقال إنه ربط علاقة مع موظفة في ولاية نيويورك، كما اقام ايضاً علاقة مع امرأة اخرى لمدة سنتين في الفترة ما بين 1999 و2001. بيد انه قال «ضميري الآن مرتاح». وقال للمراسلين بعد اداء القسم حاكماً «لن ادع لكم شيئاً تبحثون عنه.. لقد ارتبطت فعلاً مع موظفة في الولاية.. وهي علاقة كانت تعرفها زوجتي، لكن لم يحدث ان كنت رئيساً لها، لم يحدث ان اقمت علاقة مع موظفة تعمل تحت أمرتي وارتبطت مع آخريات، ولا اريد ان اذهب اكثر في التفاصيل لأن ما يهمني هو احترام رغبات وخصوصويات الحميع». وكانت زوجته ميشيل، 46 سنة، اعترفت ايضاً وفي حوار مشترك مع زوجها اجرته صحيفة محلية انه خلال «فترة صخرية» من زواجهما اقامت هي الاخرى علاقات مع آخرين من دون ان تحدد عددهم، لكن بعد ذلك قرر الزوجان اصلاح علاقاتهما، وكف كل واحد منهما عن الانطلاق وراء نزواته. في حفل تعيينه حاكماً أجهشت ميشيل بالبكاء، وقالت «في أي وقت اسمع فيه ديفيد يتحدث أشعر بالرغبة في البكاء.. انني سعيدة، على الرغم من الخلافات التي طرأت من قبل، أن احضر هذا اليوم الذي أصبح فيه ديفيد حاكماً لولاية نيويورك».

علاقة ديفيد باترسون بالعمل داخل الولاية ليس أمراً جديداً، كما انه «نيويوركي» أصيل، فقد ولد في مايو (آيار) 1954 في بروكلين المجاورة لمدينة مانهاتن قلب نيويورك النابض. وبسبب التهاب اصاب عينيه في الصغر، فقد باترسون النظر في عينه اليسرى، في حين اصبح نظره في العين اليمنى ضعيفاً جداً، الى ان اصبح مع توالي السنوات كفيفاً. واضطرت اسرته للانتقال الى ضاحية «لونغ ايلاند» حتى يمكنه الدراسة في مدرسة خاصة. وكان خلال تلك الفترة وعلى الرغم من ضعف بصره وقبل ان يفقده بالكامل، يلعب كرة السلة، بل انه شارك في مارثون نيويورك عام 1999، وأكمل مسافة المارثون.

لفت الصبي الكفيف الانظار اليه نظراً لذكائه الحاد، وفي عام 1971 أكمل المدرسة الثانوية، ثم نال شهادته الجامعية من جامعة كولومبيا في التاريخ، ودرس القانون في مدرسة هوفسترا، وبعد دراسته القانون عمل في مكتب محاماة في مدينة كوينز، إحدى المدن الخمس التي تتكون منها نيويورك الكبرى. لكنه لم ينجح بعد ذلك في امتحان المعادلة ليمارس المحاماة، وعزا ذلك الى كونه أعمى، وهو ما جعله يتبنى مسألة تغيير قوانين امتحانات المعادلة، لنيل شهادة محام في القانون. كما انه دافع باستمرار عن الذين يعانون من الاعاقة، سواء كانت ذهنية او بدنية، ويعتقد الآن ان الحاكم الكفيف سيولي عناية خاصة لمدارس المعاقين لم تكن تعرفها من قبل.

لم ينتظر باترسون طويلاً ليخوض غمار حياة سياسية تقليدية ومتدرجة، حيث سمحت له الاقامة في حي هارلم لباترسون بالتعرف عن كثب على مشاكل السود في نيويورك، وضمان شعبيته وسطهم. وكان ذلك هو الطريق نحو انتخابه عام 1985 عضواً في مجلس ولاية نيويورك في الدائرة التي كان يمثلها والده، وكان عمره آنذاك 31 سنة، واصبح بالتالي أصغر نائب في مجلس الولاية في البني (عاصمة ولاية نيويورك).

وفي عام 1986 صار سيناتوراً في مجلس ولاية نيويورك، ثم زعيماً للاقلية الديمقراطية في المجلس في عام 2003. وخلال هذه الفترة سيقدم باترسون مشروع قانون لفت اليه الانظار، يهدف الى الحد من استعمال الشرطة للقوة المفرطة التي يمكن ان تؤدي الى قتل المجرمين، كما كان احد الذين ساندوا بقوة تصويت الاجانب المقيمون في ولاية نيويورك خلال الانتتخابات المحلية.

وعلى عكس التوقعات ترشح ديفيد باترسون عام 2006 في بطاقة انتخابية واحدة مع الحاكم إليوت سبيتز (يطلق عادة على نائب الحاكم النائب العام) ذلك ان العلاقة بين اليهود الذين ينتمي اليهم اليوت سبيتز والسود، حيث هي اصول باترسون تتسم بالتعقيد، وهي حافلة بالشكوك، على الرغم من ان الجانبين يشكلان اهم قوتين داخل الحزب الديمقراطي. اليهود بنفوذهم وقوتهم المالية والاعلامية والسود بقوتهم العددية.

اشتهر إليوت سبيتز في نيويورك وخاصة في مانهاتن بصرامته ونزاهته، كانت اخبار الحرب التي يخوضها ضد الفساد وبلا هوادة والتلاعبات المالية في «وول ستريت» شارع المال في نيويورك تطفح بها الصحف خاصة صحف التابلويد التي تصدر في نيويورك، كما شن سبيتز حملة ضد الدعارة. وكان يحتاج الى شخصية مثل ديفيد باترسون له خبرة متراكمة في العمل داخل ولاية نيويورك وشعبية كاسحة، لكي يكون الى جانبه وهو يخوض منافسة شرسة ضد الجمهوريين في نيويورك. وكانت مفاجأة صاعقة حين سيطر الديمقراطيون على مجلس الولاية بنسبة بلغت 69 في المائة ليصبح ديفد باترسون زعيم الاغلبية والنائب العام (نائب الحاكم). واعتقد الناس ان اليوت سبيتز أو «الشريف» كما كان يلقب سيواصل حملته ضد الفساد بعد ان صبح حاكماً للولاية، بيد ان الرجل الذي بنى مجده على هذه السمعة، وادى ذلك الى صعوده داخل الحزب الديمقراطي، بحيث رشحه كثيرون للسباق الرئاسي ليكون اول رئيس يهودي للبلاد، سرعان ما انصرف الى ممارسات لم تكن على البال، حيث راح يقضي وقتاً طويلاً في ترتيب مغامراته النسائية مع مومسات محترفات متخصصات في ممارسة الدعارة، مع شريحة اثرياء من زبائن موقع «نادي الاباطرة» على شبكة الانترنت.

وما تكشف من الفضيحة حتى الآن، ان آخر نزوات الحاكم السابق كانت مع مغنية مغمورة وفاشلة تدعى أشلي الكسندرا، اسمها في شبكة الدعارة «كريستين»، وكلفته الدقيقة معها في فندق «ماي فلور» في واشنطن 41 دولاراً.. ثم في وقت لاحق منصبه. واتضح ان شبكة اسرائيلية، هي التي كانت تدير «نادي الأباطرة» وصاحب الشبكة معتقل حالياً، ويحمل جواز سفر اسرائيليا، ورفضت السلطات القضائية الافراج عنه، على الرغم من ان محاميه اقترحوا تقديم 600 الف دولار كضمانة.

وكان سبيتز قد ورد اسمه على اعتبار انه «الزبون رقم 9» بعد ان كشف النقاب عن تسجيلات بعض المكالمات الهاتفية مع احد موظفي الشبكة، لترتيب الموعد في واشنطن مع «كريستين». وهكذا انفتح الباب امام ديفيد باترسون ليصبح اول حاكم اسود لولاية نيويورك، بل وترشحه الاوساط السياسية الآن ليصبح سيناتوراً يمثل الولاية في مجلس الشيوخ، بعد هيلاري كيلنتون. وسببت فضيحة الحاكم السابق حرجا للسيناتور هيلاري في حملتها الانتخابية، لأن سبيتزر كان يعتبر حليفا مقربا لها، وهو احد المندوبين المنتخبين في الحزب الديمقراطي الذين سيقررون اي المرشحيّن سيمثل الحزب في انتخابات الرئاسة.

ويعتبر باترسون الحاكم الثاني الأسود بعد ديفال باتريك حاكم ولاية ماسشيوتس، والرابع في تاريخ اميركا.

ومن أصعب اللحظات التي مرت على ديفيد باترسون قبل ان تؤدي مطربة مغمورة، من حيث لا تدري الى صعوده المفاجئ لمنصبه الرفيع الذي لم يشغله اسود من قبله، كانت في الشهر الماضي عندما رفعت ضده دعوى قضائية من طرف مصور صحافي طالبه فيها بأداء مليون ونصف المليون دولار كتعويض، بعد ان زعم ان مكتب باترسون فصله من عمله لانه ابيض، وتم تعيين اميركي افريقي في مكانه، بيد ان المصور خسر القضية. يقول باترسون، وهو الحاكم رقم 55 في تاريخ نيويورك، إنه سيركز على حل قضايا الصحة والتعليم، لكن اولوية الاولويات بالنسبة له هي الحد من ظاهرة «الام التي تضطر للعمل في مكانين مختلفين لإعاشة ابنائها». والواقع ان كثيرين في اميركا يضطرون لذلك، خاصة اولئك الذين تتراوح اجورهم عن الساعة ما بين 10 الى 25 دولاراً، ويضطرون للعمل 15 الى 16 ساعة يومياً. وسيكون اول تحد يواجه باترسون هو كيفية التعامل مع ميزانية الولاية في مطلع ابريل (نيسان) المقبل، والتي تقدر في حدود 124 مليار دولار، اي ما يعادل ميزانية خمس دول عربية.

في بداية حفل تعيينه حاكماً، ارتجل باترسون كلمة مقتضبة قال فيها «اليوم هو بداية الاسبوع، هناك عمل يجب أن ينجز وقسم يؤدى، وثقة يجب ان انالها، وهناك مسائل يجب ان تعالج». ولم يتطرق مطلقاً لفضيحة سلفه، لكنه بدا مندهشاً للكيفية التي تلاحقت بها الاحداث الى ان تقرر تأديته للقسم حاكماً، بل وأطلق عدة قفشات، إذ قال بعد انتهت مراسيم تعيينه «لم اتوقع ابدا أن أنال شرف تولي منصب حاكم نيويورك، لكن دستورنا يتطلب ذلك». وقال «يوم الانتقال هذا هو رسالة تاريخية للعالم، اننا نعيش نفس القيم التي نعلنها، واننا حكومة قانون وليس حكومة افراد».

كانت الانظار كلها تركز على ملامح ديفيد باترسون في اللحظة، التي قادته فيه امرأة موظفة في الولاية الى حيث المنصة. كان يرتدي بذلة داكنة وقميصاً أبيض وربطة عنق زرقاء فاتحة في لون بدلة زوجته ميشيل، التي كانت تقف الى جانبه. لحيته بيضاء وشاربه نصف اسود. بدا باترسون وسيماً، وإن لم يكن فارع الطول مثل سلفه اليوت سبيتز. يضع ابتسامة غير متصنعة على محياه. عينه اليسرى اصغر من عينه اليمني، التي بها بريق على الرغم من انها لا تبصر. بريق يماثل عين السمكة عندما تكون طازجة، وقبل ان يدفنها البحارة وسط مكعبات الثلج لحفظها.

عندما شرع يتحدث، كان يتكلم بنبرة متوقدة حماساً زائداً، وفي بعض الاحيان تعبر عن دهشة واضحة. من خلال عباراته القصيرة التي داعب بها بعض أعضاء الولاية الذين يعرفهم يتضح انه يفيض ذكاء، ومن الواضح انه ذو ثقافة واسعة وشخصية جذابة ورجل متحمس، لا يعرف كيف يحد من حركته، وانه يستعين بطاقة مختزنة للعمل. لكن مقربين منه يقولون إنه بطيء ومتردد في اتخاذ القرار لذلك يخشون ان يؤثر المحيطين به عليه، ويتخذ قرارات خاطئة، في ولاية يمكن ان يساوي فيها توقيع الحاكم مليارات الدولارات.

لكن مساعدين عملوا معه خلال 16 شهراً، التي كان خلالها نائباً للحاكم يقولون إنه يملك كفاءة التعامل مع الطوارئ والمفاجآت وملء الثغرات والفجوات، واستيعاب الهزات والصدمات. لذلك تصرف بهدوء شديد، عندما أعلن اليوت سبيتز أول مرة تورطه في شبكة الدعارة، وتردد في بعض الصحف الاميركية ان باترسون نصح سبيتز ان يبادر الى الاستقالة قبل ان يقال، لكن عليه الا يعلن ذلك للوهلة الاولى قبل أن يضمن الا يتعرض للمساءلة بعد استقالته بسبب الفضيحة، وهو ما يفسر الصمت الذي التزمه سبيتز بعد اعلان تورطه وانتظاره عدة ايام، قبل ان يقول إنه سيستقيل. وأثبت باترسون مرة اخرى من خلال تصرفه المتمهل، انه يمتلك حضورا دائما يزكي في «البني» عاصمة الولاية، بل وفي كثير من الاحيان يدرك ان لديه أزمة تستدعيه على عجل. وكان لافتاً ان اول نشاط قام به حتى قبل أن يؤدي القسم هو زيارته لموقع رافعة لمواد البناء، أدى سقوطها في وسط نيويورك الى مقتل سبعة أشخاص.

وهو يعرف ايضاً انه أصبح الآن حاكماً لولاية، ليست مثل كل الولايات، بل هي التي ظلت مستهدفة طوال التاريخ الاميركي، وهي المكان الذي تتجمع فيه ثروات العالم وأيضاً هي «الأمم المتحدة» التي تضم في عضويتها كل من هب ودب في هذا العالم، وكل واحد من دولها يتصرف أو على الأقل يتكلم كأنه صاحب شأن في كل قضية، وكل عضو ولو كان مجرد ساع في احدى البعثات الدبلوماسية، يشعر ان سلطات ولاية نيويورك، يجب ان توفر له حماية خاصة. وقال ديفيد باترسون وهو يمازح المراسلين، في إشارة الى ان الحقائق لا بد ان تظهر «لا تنسوا اننا مدينة البنايات الزجاجية، التي تطل من فوق السحاب، ويشاهدها العالم بأسره». وعندما سئل عن شعوره كاول حاكم اسود لولاية نيويورك قال «اشعر انني أجلس فوق برج من رمال شيده الآخرون.. هناك اميركيون افارقة كثيرون كافحوا خلال القرنيين الماضيين، من أجل منح الفرص لأنفسهم وللآخرين».