أميركا اللاتينية.. الغضب جزء من الهوية

يتحاربون لأسباب صغيرة: كرة القدم.. عبور الحدود.. والأفيون! ولماذا هم غاضبون على «الغرنغو»؟

جنديان فنزويليان يقومان بدورية حراسة عند نقطة على الحدود مع كولومبيا بعد التوتر بين البلدين الايام الماضية (أ.ف.ب)
TT

الأسبوع الماضي، أعلن هوغو شافيز رئيس فنزويلا، عن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع كولومبيا المجاورة. قبل ذلك بعشرة أيام، كان قطعها.  وكان قد حشد قواته لغزو هذا البلد، لأن قوات كولومبيا عبرت الحدود الى الإكوادور المجاورة (حليفة فنزويلا)، وقتلت واحدا من قادة المتمردين اليساريين ضدها، التابعين لحركة «فارك». بعد نهاية المشكلة، حضن شافيز وقبل، الفارو يوريبي رئيس كولومبيا، في مؤتمر قمة للتوسط، دعت له منظمة دول اميركا الجنوبية والوسطى، عقد في جمهورية الدومينيكان. وايضا حضن رئيس كولومبيا وقبله رفائيل كوريرا رئيس الاكوادور المجاورة. والذي، هو الآخر، كان قطع علاقته مع جارته، واغلق سفارتها. لكنه يبدو اكثر غضبا من رئيس فنزويلا، لأنه اعلن بعد ذلك: ان «الوضع لا يزال متوترا.. ليس سهلا اعادة الثقة.. سأفكر في اعادة العلاقات الدبلوماسية بعد فترة».

وهكذا، خلال اقل من شهر، فجأة توترت العلاقات بين ثلاث دول مجاورة في اميركا الجنوبية، وكادت تصل مرحلة الحرب. ثم، فجأة، همدت النار، وربما كأن شيئا لم يكن، بعد ان اعتذرت كولومبيا على عبور حدود فنزويلا. ليست هذه اول مرة تثور فيها دول في اميركا الوسطى والجنوبية (اميركا اللاتينية)، ثم تهدأ. وهناك ثلاثة أسباب: أولا: الدور الأميركي. ثانيا: تجارة المخدرات. ثالثا: المزاج اللاتيني.

لا يحدث شيء في اميركا اللاتينية، خيرا أو شرا، من دون أن يكون لواشنطن دور فيه. وظل الحال هكذا منذ اكثر من مائتي سنة.  في البداية، صنفت واشنطن هذه الدول حسب مصالحها: عدوة، او صديقة. ثم صنفتها حسب انواع الحكم فيها: دكتاتورية او ديمقراطية. صادقت دولا دكتاتورية، وعادت دولا ديمقراطية. والآن، بعد ان صارت كل الدول ديمقراطية (ما عدا كوبا)، صنفتها حسب مصالحها. وعادت دولا ديمقراطية «متطرفة»، مثل فنزويلا. وصادقت دولا ديمقراطية «معتدلة» مثل كولومبيا.    تقف فنزويلا في اليسار والى يسارها كوبا فقط. وتقف في الوسط: البرازيل، والارجنتين، وشيلي. وتقف في اليمين كولومبيا، التي تعتبر اكبر حليف لواشنطن في المنطقة. وذلك لسببين: الاول هو ان واشنطن تساعد كولومبيا في الحرب ضد المخدرات. لأن مخدرات كولومبيا هي ثمانون في المائة من المخدرات التي يستهلكها الاميركيون. (يستهلك الاميركيون  نسبة 40% من المخدرات في العالم). ومنذ سنة 2000، صرفت واشنطن اكثر من 5 بلايين دولار على هذا البرنامج.

والسبب الثاني هو أن كولومبيا تقف إلى جانب واشنطن ضد شافيز رئيس فنزويلا، الذي يشن حملات عنيفة ضد واشنطن. في السنة الماضية، جاء الى اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك، وشتم الرئيس بوش شخصيا. وزاد غضب واشنطن عليه لأنه يساعد متمردي «فارك» اليساريين. وقالت صحف في فنزويلا، ان واشنطن وراء خطوتين اتخذتهما كولومبيا نحو متمردي «فارك»: فقد ساعدت واشنطن كولومبيا في رفع شكوى ضد فنزويلا الى محكمة العدل الدولية، رتب محامون اميركيون اوراق اتهام شافيز رئيس فنزويلا، بأنه «ارهابي» لأنه يساعد حركة «فارك» التي قالت الاتهامات انها تمارس «الابادة» في كولومبيا.

وساعدت واشنطن قوات كولومبيا التي عبرت الحدود وقتلت قائد حركة «فارك». وانها امدت قوات كولومبيا بمعدات مثل «نايت غوغلز»، مناظير الليل، وصور بالاقمار الفضائية.

في الاسبوع الماضي، قالت مجلة «تايم»: إنه «بالاضافة الى انقسام اللاتينيين الى مؤيدين لفنزويلا اليسارية، ومؤيدين لكولومبيا التي تتحالف مع بوش، هناك غضب جبال الانديز» التي تشق اميركا الجنوبية من الشمال الى الجنوب. هذا وصف مؤدب للمزاج اللاتيني الذي يثور فجأة، ثم يهمد فجأة. وفي الاسبوع قبل الماضي، اشارت المجلة الى اعلان شافيز رئيس فنزويلا، بأن يوريبي رئيس كولومبيا، ليس الا «كلبا في حضن الامبراطورية الاميركية». وأنه لا بد من «حرب تشمل كل اميركا الجنوبية»، وعلقت المجلة على ذلك، واستعملت وصف «عواطف لاتينية» و«لغة طبول الحرب». وايضا، هذا وصف مهذب.

يظهر المزاج اللاتيني في مجالين: في علاقة هذه الدول مع واشنطن. وفي علاقتها مع بعضها البعض. والحرب التي كادت تشتعل في الشهر الماضي، لم تكن لو حدثت، اول حرب بين جيران. ففي سنة 1941، تحاربت بيرو ولاكوادور بسبب نزاع بين قبائل الهنود الحمر في البلدين. وفي سنة 1935، تحاربت بوليفيا ويورغواي بسبب ايواء رئيس دولة هرب الى الدولة الأخرى. وفي سنة 1931، تحاربت شيلي وبيرو بسبب نزاع صيادي الاسماك على الحدود بين البلدين. وفي سنة 1912، تحاربت البرازيل والارجنتين، بسبب نزاع حول رعي الابقار في منطقة الحدود. غير أن أغرب حرب كانت سنة 1969 بين السلفادور وهندوراس، بسبب مباراة في كرة القدم. لم تكن المباراة هي السبب الرئيسي، لكنها كانت الشعلة التي اشعلت الحرب. في منافسات «فيفا» (بطولة العالم) في هندوراس، فازت هندوراس بإصابة دون مقابل. وخرجت مظاهرات احتجاج في السلفادور بأن المشجعين السلفادوريين الذين سافروا لتشجيع فريقهم، تعرضوا الى ضرب ونهب وشتائم. في الاسبوع التالي، في السلفادور، فازت السلفادور بثلاثة اهداف دون مقابل. وخرجت مظاهرات احتجاج في هندوراس بأن المشجعين الهندوراسيين تعرضوا الى نفس الشيء. غير ان صحفا في هندوراس نشرت ان رجالا من السلفادور، اغتصبوا فتيات من هندوراس بعد فوز فريقهم.

وكانت هناك حشود عسكرية على حدود البلدين. وزادت الاخبار المثيرة من حرارة الموقف، وبدأت حرب ارضية وجوية بين البلدين. لم تكن حرب غزو بقدر ما كانت حرب انتقام. قصفت طائرات كل بلد المواقع الحدودية للبلد الآخر. بدون ان تتوغل، او تقصف عاصمة الدولة الاخرى. زادت الحرب الانتقامية مع اقتراب المباراة الثالثة والنهائية، في المكسيك. فازت السلفادور، وانتقلت الى الادوار النهائية. لكن، صار واضحا ان هناك صلة بين المباريات والحرب. ومثلما حدث في الاسبوع الماضي، توسطت الدول المجاورة، وتوقفت الحرب.

أوضح كتاب «ثقافة جنوب اميركا» الذي كتبه د. سواريز غارسيا، اميركي من اصل مكسيكي، ان ثقافة اميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) تعتمد على المسيحية البروتستانتية، والاستعمار البريطاني، وحضارة شمال اوروبا. بينما تعتمد ثقافة اميركا الجنوبية على المسيحية الكاثوليكية والاستعمار الاسباني، وحضارة جنوب اوروبا. وقال: «في الشمال عقلانية، وفي الجنوب عواطف. في الشمال حذر، وتفكر، وتفاؤل. وفي الجنوب غضب، واندفاع، وتشاؤم. في الشمال تمهل في التفكير، وفي الجنوب تمهل في العمل».

ربما لا يريد الكتاب ان يتهم اللاتينيين بالكسل، والفوضى، والتأخر الحضاري. لكن، يتضح ذلك من هذا الكلام. وربما هذا هو اساس الاختلاف الاساسي بين الاستقرار والتأني في الولايات المتحدة وكندا، وبين الغضب والثورة والتمرد في اميركا الجنوبية، غير ان جزءا من هذا الغضب هو غضب على الولايات المتحدة.

واضاف الكتاب عاملا آخر، وهو وجود عدد كبير من الهنود الحمر، ويسمون «اميرانديانز» (هنود اميركيون) في دول اميركا اللاتينية. يبدو ان هؤلاء لن ينسوا ان اخوانهم في الشمال ابيدوا، او كادوا ان يبادوا، على يدي الرجل الابيض (الغرنغو، كما يسميه اللاتينيون). 60% من سكان بوليفيا منهم، 30% خليط منهم ومن البيض (مستيزو)، و10% فقط من البيض. وقبل سنتين، وصل أول هندي الى منصب رئيس جمهورية في بوليفيا. وربما، لهذا، ليست صدفة أن بوليفيا «ثورية». وفي فنزويلا، 50% من السكان خليط من الهنود والبيض (مستيزو)، واقل من ذلك بيض. وليس صدفة ان شافيز «الثائر» ليس من البيض. في الجانب الآخر، كل سكان الارجنتين تقريبا من البيض. وربما ليس صدفة انها اكثر دول المنطقة استقرارا، واقلها غضبا وثورة.

وقالت تيري موريسون في كتابها: «قبلة، وانحناءة، ومصافحة» (عن ثقافات الشعوب المخلتفة) ان اللاتينيين «اقل عجلة (تقصد أنهم يميلون نحو البطء)، واقل تخطيطا (تقصد انهم يميلون نحو الفوضى). ولا يرون عيبا في الحديث بصوت عال، وبالمبالغة في تحريك اليدين عند الحديث، وباللمس، والتقبيل». وقالت: «يميل اللاتينيون نحو مناقشة مشاكلهم بين بعضهم البعض. ويفضلون عدم ادخال غريب أو أجنبي فيها. واذا تدخل أجنبي، يعتبرون ذلك «عدوانا». واذا ادخل واحد منهم اجنبيا في شؤونهم، يعتبرون ذلك «عمالة». وربما يفسر هذا الشكوك التاريخية نحو الولايات المتحدة، وتدخلاتها المباشرة وغير المباشرة في شؤونهم.

قبل سنوات قليلة، أصدرت الأمم المتحدة تقريرا يدعو للقلق، لأنه قال ان اللاتينيين يمرون بمرحلة ما بعد الديمقراطية، وسماها «التذمر من الديمقراطية»، لأنهم «يعتقدون انها لم تحل مشاكلهم». اذا تحقق ذلك، يكون اللاتينيون قد تحولوا خلال ثلاث اجيال من الحكومات العسكرية الى الحكومات الديمقراطية، ثم الى الحكومات «الشعبية»، وهي تفضيل حل المشاكل الاقتصادية على انتخابات حرة ونزيهه، مثلما يحدث، منذ ثلاث سنوات، في فنزويلا.

اجرى تقرير الأمم المتحدة دراسات في 18 دولة لاتينية. وسأل حوالي عشرين الف شخص في كل هذه الدول. واستشار اكثر من مائتي  شخصية سياسية واقتصادية واجتماعية، بما في ذلك 40 رئيسا ونائب رئيس سابق. حسب التقرير، قالت نسبة 60% الآتي: اولا: لن ترفض ان تحل «الشعبية» محل الديمقراطية. ثانيا: يقدر الحاكم «على ان يخرق القانون في سبيل امن البلاد ومصلحتها». ثالثا: «التطور الاقتصادي اهم من الديمقراطية الحقيقية». واضاف التقرير: «عبر تاريخهم، كان اللاتينيون يشكون في حكامهم لأنهم غير ديمقراطيين. الآن، صاروا يشكون في الديمقراطية نفسها». وتعمد تقرير الأمم المتحدة الا يلوم دولة من دون أخرى، والا ينتقد ثقافات وعادات اللاتينيين. لكنه قال: «بصورة عامة، لا يحس المواطن في المنطقة بالعدل والمساواة، وذلك بسبب فساد بعض المسؤولين، وغلظة رجال الشرطة، وعدم استقلال المحاكم». عندما صدر التقرير، علقت عليه صحيفة «نيويورك تايمز»، وقالت: «هذا شيء يدعو للخوف. هذا شيء خطير». لكن، حاول انريك فيلوي سفير المكسيك في الأمم المتحدة، التقليل من خطورة الموضوع. وقال: «لا يرفض اللاتينيون الديمقراطية. لكن الديمقراطية لم تتعمق كثيرا في عقولهم».  لم يقل السفير ان المزاج اللاتيني له صلة بالموضوع. او بعبارة اخرى، تاريخهم. تاريخ تدمير الأوروبيين لحضارات الهنود الحمر في «المايا» و«الازتكس». وتاريخ الكنيسة الكاثوليكية التي لم تشجع التعليم والعلم. ولم تساهم في اضطهاد المرأة فقط، ولكن في اضطهاد الرجل ايضا. ولا تذكر سيطرة اللاتيني على اللاتينية، الا وتذكر الراهبة هوانا دي لاكروز، التي كتبت، في القرن السابع عشر، قصيدة «هومبروس نيكيوس» (رجال منفعلون ومنافقون). صورت ثلاثة اشياء هي اساس المزاج اللاتيني: اولا: سيطرة الرجل. ثانيا: انفعاله. ثالثا: نفاقه (تحدثت القصيدة عن ادانة الرجال للكذب وكذبهم في نفس الوقت. وادانتهم للدعارة، وممارستهم لها في نفس الوقت).

تعتبر راهبة القرن السابع عشر «ام التمرد» في الشخصية اللاتينية. التمرد على الظلم، والنفاق. ليس فقط الاجتماعي، ولكن السياسي ايضا. وليس فقط الداخلي، ولكن الخارجي ايضا، متمثلا في ظلم شركات الموز وقصب السكر والمعادن والبترول الاميركية. ومتمثلا في نفاق السياسيين الاميركيين الذين يحرصون على الحرية والعدل في بلدهم، ولا يهمتمون به في الدول المجاورة.

لهذا، ليس صدفة ان المزاج اللاتيني غاضب. وليس صدفة ان الثورة جزء من الشخصية اللاتينية، ومن تاريخ المنطقة. وليس صدفة ان كل الأدباء اللاتينيين الخمسة الذين نالوا جائزة نوبل صوروا الظلم والغضب: خمس جوائز نوبل: كولومبيا: غارسيا ماركيز. تشيلي: غابريال مسترال. غواتيمالا: ميغيل استورياس. تشيلي: بابلو نيرودا.

في سنة 1982، فاز بالجائزة غارسيا ماركيز (من كولومبيا). ومن رواياته: «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا». وصاحب نظرية «الواقعية الثورية». وصديق فيدل كاسترو، زعيم كوبا. وصديق ثوار «فارك» (سبب المشكلة الأخيرة بين فنزويلا وكولمبيا والاكوادور). ويدعو الآن لانفصال جزيرة بوتوريكو (لاتينية في البحر الكاريبي) عن الولايات المتحدة (شبه مستعمرة، وليست ولاية). وفي سنة 1945، فازت بالجائزة غابريلا مسترال (من تشيلي). من قصائدها: «أغنية الموت». وعلى خطي راهبة القرن السابع عشر، تحدثت عن اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية للمرأة. كانت صديقة الينور روزفلت. وتعتبر «أم النساء الثوريات اللاتينيات». وفي سنة 1967، فاز بالجائزة ميغل استورياس (من غواتيمالا)، فقد ركزت رواياته على حضارة «المايا» (حضارة هنود حمر). وكتب رواية «يا سيادة الرئيس»، عن الحكم الدكتاتوري في غواتيمالا، وعن حياة المنافي للذين هربوا منه. وفي سنة 1971، فاز بالجائزة بابلو نيرودا (من تشيلي). كثير من أشعاره عن الحب والجنس. لكنه انشد للثورة ايضا. مثل قصيدة «عشرون قصيدة للحب واليأس». كان ثوريا، وكان صديق سلفادور الليندي، رئيس جمهورية تشيلي الثوري الذي قتله انقلاب الجنرال اغسطو بونيشيه اليميني سنة 1973. وفي سنة 1990، فاز بالجائزة اوكتافو لوزانا (من المكسيك)، الذي ركز على التعايش بين المسيحية، والماركسية، والهندوسية، والبوذية. وانشد: «حجر الشمس» و«انفجار سحابة» و«ليل الماء». كان شيوعيا، ثم ترك الشيوعية، وقال انها خيبت امله. لكنه ظل، بمقاييس اميركا اللاتينية، غاضبا، تماما مثل الهوية اللاتينية.