أطفال غزة يتساءلون .. أين السعادة؟

معظمهم يعانون حالاتٍ نفسية ومن التبول اللاإرادي وقضم الأظافر والأحلام الليلية المزعجة والبكاء والانطواء.. بسبب عمليات الجيش الإسرائيلي

طفلان فلسطينيان يشاهدان من فتحة في باب منزلهم احتفالات بيوم الكرامة (أ.ف.ب)
TT

كان لخميس وافي، 10 اعوام، سبب وجيه للفرحة، فلأول مرة لم يرتبك هذا الطفل لسماع الصوت الناجم عن ثقب بالون الهواء المنتفخ. هذا «الإنجاز» كان نتاج عملية تدريب اشرف عليها المعالج النفسي، علي نسمان، الذي أخذ على عاتقه معالجة بضع عشرات من الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة، وتحديداً من مناطق الشمال من الصدمات التي اصيبوا بها جراء سماعهم الانفجارات الناجمة عن عمليات القصف الإسرائيلية التي استهدفت قطاع غزة، لا سيما خلال عملية «الشتاء الساخن»، مطلع الشهر الماضي.

الفكرة التي تقوم عليها عملية العلاج هي تعويد الأطفال على سماع أصوات الانفجارات بحيث يتقلص التأثير النفسي لهذه الانفجارات على الأطفال. بعض الأطفال حققوا نتائج جيدة، وبعضهم ما زال يشعر بالفزع لمجرد سماعه صوت بالون الهواء المنفجر. الاستثمار في مجال معالجة الأطفال من الصدمات النفسية التي ألمَّت بهم جراء عمليات القصف له ما يبرره، حيث أن قلما يجد المرء بيتا فلسطينيا لا يوجد فيه أطفال يعانون من صدمات نفسية ناجمة عن عمليات القصف. أحد الأمثلة على ذلك، هو بيت إبراهيم هواش، 42 عاماً، فبين الفينة والأخرى يحرص هواش على الاتصال بزوجته نهى من مكان عمله الليلي للاطمئنان على أنها تواظب على تنفيذ الخطة العلاجية التي وضعها طبيب الأسرة لوضع حد لحالة التبول اللا إرادي التي يعانيها اطفالهما الأربعة الذين يدرسون في المرحلة الابتدائية. الطبيب أكد أن الأطفال الأربعة فقدوا القدرة على التحكم في عملية التبول نتيجة حالة الفزع التي أصيبوا بها جراء قيام طائرات الجيش الإسرائيلي بقصف منزل مجاور لمنزلهما الكائن في مخيم «جباليا»، شمال قطاع غزة أثناء حملة «الشتاء الساخن» العسكرية قبل ثلاثة أسابيع.

وما زال الأطفال الأربعة يذكرون تلك الليلة الرهيبة عندما استيقظوا فزعين على صوت الانفجار المدوي الذي ضرب المنطقة، ليجدوا أن زجاج نوافذ المنزل تطاير على فراشهم. وقال إبراهيم الذي يعمل في أحد الأجهزة الأمنية الفلسطينية لـ«الشرق الاوسط» أن أولاده يرفضون الآن النوم لوحدهم، ويصرون على أن يناموا في نفس غرفة النوم الخاصة بالأب والأم، فضلاً عن خشيتهم من الليل. ويضيف أنه وظف جهداً كبيراً من أجل اقناع اثنين من أولاده بالتوجه للمدرسة من جديد، حيث كانا يخشيان أن يقتلا في عملية قصف إسرائيلية أثناء توجههما الى المدرسة، أو خلال وجودهما فيها.

ما أصاب أطفالَ إبراهيم الأربعة تعرض له عشراتُ الآلاف من الأطفال الفلسطينيين. الطفل محمد خرسا، 10 سنوات، الذي يقطن في حي التفاح شمال شرقي مدينة غزة، والذي يتعرض بشكل كبير لعمليات الاجتياح قال لـ«الشرق الاوسط» إنه يفر الى بيت عائلته كلما سمع هدير الطائرات الإسرائيلية في سماء المنطقة، «كلما سمعت صوت الطائرة أحسست أنها جاءت لقصفي».

الدكتور عايش سمور، مدير مستشفى الأمراض النفسية في غزة يقول إن 30% من الأطفال الفلسطينيين ممن أعمارهم تقل عن عشر سنوات يعانون من مشكلة التبول اللا ارادي بسبب استحكام الخوف، مشيراً الى مشاكل عصبية أخرى مثل قضم الأظافر والأحلام الليلية المخيفة وآلام جسيمة غير معروفة السبب والبكاء والانطواء. وفي حديث مع «الشرق الاوسط»، قال سمور «الطفل الذي يتعرض لهذا القدر من العنف يصبح عنيفاً في تعامله مع زملائه وأشقائه، ويعمل على تدهور مستواه التعليمي، وضعف القدرة على التركيز». وأشار الى أن الطفل الفلسطيني الذي يتعرض للتجارب الصادمة خلال عمليات التوغل والقصف الإسرائيلي يصبح أقل طاعة لوالديه، الى جانب أنه يفقد القدرة على التعامل معهما بانفتاح. وحول عدد الأطفال الذين يستقبلهم المستشفى جراء ظهور هذه الأعراض، قال سمور إنه منذ مطلع العام الجاري زادت نسبة الأطفال الذين يترددون على المستشفى، حيث يستقبل حالياً 33 طفلا شهرياً، مؤكداً أن هذا يمثل زيادة بنسبة 30% عما كانت عليه الأمور العام الماضي. وأشار سمور الى أن 47% من الأطفال أصبحوا مصابين بصدمات نفسية دون أن تعي أسرهم ذلك. «أطفال غزة ليسوا مثل الأطفال الذين يعيشون حياة طبيعية، فهم يعيشون في ظل معاناة نفسية صعبة من جراء ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، مما يؤثر سلباً على حياتهم وصحتهم النفسية وقدرتهم على التأقلم مع الحياة»، قال سمور. وأضاف أن مشاهد القتل والدمار والدبابات والطائرات التي تسقِط الصواريخ فوق البيوت وصور الأطفال الذين يتعرضون للقصف، والجرافات التي تقتلع الأشجار وجنازات القتلى والدخان المتصاعد، وصور سيارات الإسعاف التي تعرض على شاشات التلفزيون وما يجري على الأرض من أحداث سبب مأساة حقيقية وحالة نفسية وعصبية خطيرة للأطفال الفلسطينيين. ويرى سمور أن الضمان الوحيد لتخلص أطفال قطاع غزة من هذا الواقع «البائس» هو إنهاء الاحتلال. وحسب دراسة أجراها برنامج غزة للصحة النفسية تبين أن كل طفل فلسطيني تعرض لأكثر من تسعة أحداث صادمة. وأضافت الدراسة أن 95.6% من الأطفال شاهدوا صور الجرحى والقتلى، في حين أن 95% تأثروا سلباً جراء سماعهم لأصوات الانفجارات الناجمة عن القصف. وأشارت الدراسة الى أنه تقريباً كل الأطفال تعرضوا لصدمات نفسية، حيث ان 60% من الأطفال تعرضوا لصدمة نفسية متوسطة، و6.7% تعرضوا لصدمة نفسية بسيطة، في حين أن 33.3% من الأطفال تعرضوا لصدمة نفسية شديدة.

وذكرت الدراسة أن 15.6% يعانون بدرجة خفيفة من أزمة ما بعد الصدمة، في حين أن 62.2% يعانون بدرجة متوسطة، في حين 20% يعانون بدرجة شديدة. كما أظهرت الدراسة وجود علاقة طردية ذات دلالة إحصائية بين تعرض الأطفال للأحداث الصادمة ودرجة الاضطرابات النفسية الناتجة عن ذلك.

الدكتور إياد السراج، مدير «برنامج غزة للصحة النفسية»، يقول إن الطفل الفلسطيني فقد أهم ركنين في حياته، وهما الشعور بالأمان بسبب الغارات والقصف والدمار، والشعور بالبهجة والسرور. وأضاف أنه عندما يرى الطفل أن والده الذي في نظره يمثل «رمز القوة والرجولة والصلابة عاجزاً، وغير قادر على توفير الأمان، فإنه يشعر بحالة من الاغتراب». وأضاف أنه استناداً الى معطيات دراسة أجرتها المؤسسة التي يرأسها، فان 45% من الأطفال قالوا إنهم شاهدوا جنود الاحتلال وهم يضربون آباءهم ويهينوهم أمام أعينهم. واضاف أن «لجوء الأطفال الفلسطينيين للتنظيمات الفلسطينية يعكس رغبتهم في نيل هوية جديدة قوية تستطيع أن تحميهم». وأشار السراج الى أن ما جعل الأمور تزداد تعقيداً هو حقيقة أن الأطفال الفلسطينيين بسبب الحصار يعانون من حالة مزمنة من سوء التغذية التي تؤثر على ذكائهم، الأمر الذي وجد تعبيره في حقيقة أن 15% من أطفال غزة يعانون من خلل في القدرات العقلية سببه سوء التغذية. واضاف أن الكبت والعنف المتراكم داخل الطفل الفلسطيني أثرا على قواه العقلية وإبداعه، وجعلاه يلجأ إلى طرق وأفعال متطرفة يعكس من خلالها ما في داخله من ألم وإحباط. ولكي يدلل على صحة استنتاجه هذا، أشار السراج الى أنه في الانتفاضة الأولى كان الأطفال الفلسطينيون يرمون الحجارة على الجيش الإسرائيلي، ولكن في الانتفاضة الثانية كبر هؤلاء الأطفال ليصبحوا «استشهاديين». إضافة إلى أن ما يقارب 36% من الأطفال الذكور الذين تتراوح أعمارهم ما بين 8 ـ 12 عاما، و17% من الإناث أصبحوا يتمنون الموتَ في عمليات فدائية ضد جيش الاحتلال.

فاتن شكاكة، مرشدة اجتماعية تعمل في برنامج الدعم النفسي للأطفال الذين تأثروا بعمليات القصف، قالت إن «مشاهد العدوان والقتل والدمار التي عايشها الأطفالُ في شمال قطاع غزة تحديداً أثناء حملة، الشتاء الساخن، تركت آثاراً نفسية وجسدية وسلوكية خطيرة على معظم الأطفال، وهو ما ظهر بجلاء في سلوك الأطفال الذين يدرسون خاصة في المرحلة الابتدائية». وأضافت أن مشاهد العدوان لا زالت حاضرة وبقوة في ذاكرة الطلبة، وهو ما ظهر بوضوح من خلال اللوحات الفنية التي قاموا برسمها، والتي جاءت في مجملها متضمنة أشكالا للطائرات والدبابات والجرافات والشهداء والمنازل والأشجار المدمرة.

من ناحية ثانية، هناك ارتباط عائلي وثيق بنتائج العدوان. فحسب دراسة فلسطينية تبين أن 15% من الأطفال في قطاع غزة قتل أحد اقاربهم بنيران الجيش الاسرائيلي، في حين أن 9% منهم لديه قريب معاق بسبب اطلاق النار عليه من قبل قوات الاحتلال، و21% عانوا من إبعاد أقارب للخارج، في حين أن 42% لديهم معتقلون سياسيون.

سميح أبو زاكية، اخصائي في مجال الطفولة، ويدير مركزاً يعنى بفنون الطفل الفلسطيني يشير الى خطر آخر يهدد حتى الأطفال الذين لا يتعرضون بشكل مباشر للعمليات الإسرائيلية، وهي المشاهد المؤلمة التي يشاهدها الأطفال عبر وسائل الإعلام المختلفة وخاصة الفضائيات، والتي تزيد من نسبة الضغوط النفسية التي يعيشونها، معتبراً أن السماح للأطفال بمشاهدة هذه المشاهد يمثل «انتهاكاً لحقوق الطفل». وحذر أبو زاكية من أنه في حال عدم معالجة الآثار السلبية، فإن النتائج ستكون وخيمة، مطالباً في الوقت ذاته بتطبيق برامج تهدف الى تفريغ الضغوط التي تعرض لها الأطفال خلال الأحداث الدموية الأخيرة.

ولا تتوقف الكوارث التي لحقت بالطفل الفلسطيني عند الأضرار النفسية، بل أن العشرات من الأطفال قتلوا فقط خلال الاشهر الثلاثة الاولى من العام الحالي. فحسب تقرير أعدته دائرة العلاقات القومية والدولية في منظمة التحرير الفلسطينية، يتبين أن عدد القتلى الفلسطينيين الذين سقطوا خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية منذ بداية العام الجاري وصل إلى 274 قتيلا بينهم 50 طفلاً، منهم رضيعان (20 يوماً و7 أشهر) و18 امرأة. الذي يجعل هذا الوضع كارثياً هو النسبة الكبيرة التي يمثلها الأطفال مقارنة بالعدد الإجمالي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. فحسب معطيات المكتب المركزي الفلسطيني للإحصاء، فإنّ 50% من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة هم أطفال تحت سن 16 سنة، وهذا يعني أن ما يقارب مليونين من الأطفال عانوا نفسياً بسبب الممارسات الاسرائيلية القمعية.

ويرى الدكتور فضل أبو هين، أستاذ علم النفس في جامعة «الأقصى» بغزة، أن الطفل الفلسطيني بفعل الضغوط النفسية التي يتعرض لها، وبسبب الخوف والهلع، يلجأ إلى أساليب مختلفة من أجل التكيف مع هذا الواقع العصيب، مشيراً الى أن أحد تلك الأساليب المنتشرة لدى الاطفال الهدوء المبالغ فيه كرد فعل للتوتر والقلق والخوف الداخلي والعزلة والانسحاب لدى الأطفال وعدم مشاركته في الأنشطة الاجتماعية والأسرية. وفي بحث علمي أجراه، يصل أبو هين الى أن الطفل الفلسطيني بسبب الضغوط يلجأ إلى ممارسة أساليب سلوكية لا تخص مرحلته العمرية، عبر إظهار بعض الخصائص السلوكية الباكرة وغير المناسبة لسن الطفل. ويضيف أنه في بعض الأحيان تزداد الأمور سوءاً لدى بعض الأطفال كنتيجة للخوف والتوتر الناجم عن العمليات الإسرائيلية، فتنتشر ظواهر الانشطار فى وعي الطفل وتظهر في شكل المشي أثناء النوم. كما تظهر بعض المشاكل الصحية الناتجة عن الأمور النفسية الصعبة لدى الأطفال. الدكتور تيسير دياب، باحث بارز في مجال الصحة النفسية، أجرى برئاسة فريق من المعالجين النفسيين دراسة شاملة على تأثير العنف والحصار الإسرائيلي على الأطفال الفلسطينيين في غزة. وتبيَّن لدياب أن الأطفال أظهروا ارتفاعاً شديداً في حالات تمثيل العنف فيما بينهم، لاسيما أثناء اللعب في المدرسة وخارجها، عن طريق تشكيل عصابات واستخدام الجنازير والعصي والاشتباك بالأيدي واستخدام الألفاظ النابية. ودلت نتائج الدراسة على أن الأطفال أظهروا مزيداً من تبلد المشاعر وفقدان الإحساس بالخطر، حيث أظهر الأطفال تبلد مشاعر، وفقدان الاحساس بالخطر حيث أصبح الاطفال يتجهون ويتجمعون حول أماكن القصف مثلا ويذهبون لجمع قواعد الصواريخ وبقاياها. ويروي الدكتور دياب قصة أحد الأطفال أجريت عليه الدراسة، حيث فاجأه الطفل متسائلاً «هل الجنة فيها كهرباء؟» ورد الطفل قائلا: «أنا لما بتقطع الكهرباء بخاف!». ومن القصص الحزينة التي تدلل على ميل الاطفال الفلسطينيين للحزن، هو أن الأخصائيين النفسيين الذين شاركوا في اجراء الدراسة طلبوا من 26 تلميذا أن يتخيلوا أحلى موقف ممكن لهم أن يتخيلوه. وتبين من النتائج أن اياً من الأطفال لم يستطع على الاطلاق تخيل شيء سعيد وانحصرت خيالاتهم في وجودهم في أماكن تميل للحزن والمعاناة كالمقبرة أو تخيل الأب في السجن والابن يبكي لفراقه. أما تمرين الرسم، فقد طلب من الأطفال أن يرسموا صورة لبيوت حيهم، فرسم معظم الاطفال بيتا واحدا وصغيرَ الحجم، وهو ما يفسر بمشاعر الحزن المسيطرة عليهم.

لكن إذا كانت هذه معاناة الأطفال الفلسطينيين الطلقاء، فإن معاناة الأطفال الثلاثمائة المعتقلين في السجون الإسرائيلية النفسية أكثر فظاعة، كما يقول الدكتور فؤاد الخفش، مدير مركز أحرار لدراسات الأسرى الفلسطينيين. وأضاف أن «جهاز المخابرات الإسرائيلي يضع كل طفل فلسطيني يتم اعتقاله في زنزانة لوحده لمدة أسبوع، حيث يتم التحقيق معه حول مشاركته في عمليات الرشق بالحجارة». وقال إن المحققين يهددون الأطفال خلال التحقيق بالاغتصاب الى جانب إسماعهم ألفاظاً نابية. واضاف في تصريحات لـ«الشرق الاوسط»: أن «تصرخ في وجه طفل كل يوم، وتهدده باعتقال شقيقته وتهديده في كل لحظة، بكل ما هو منافٍ للقيم والأخلاق، أمرٌ محطمٌ للنفسية وقاتل للروح باعث على الانتحار». وأشار الى أن المخابرات الاسرائيلية لا تزال تبتدع طرقا وأساليب جدية من أجل اجبار الأطفال الذي يتم اعتقالهم لكي يصبحوا عملاءَ، فقط من أجل تفتيت النسيج الاجتماعي الفلسطيني. واضاف الخفش أن جهاز المخابرات الاسرائيلية، أن هناك حربا مرسومة ومدروسة ومتعمدة يسير عليها جهاز الشاباك تجاه الأطفال المعتقلين بهدف زرع أكبر عدد من العملاء في صفوف الشعب الفلسطيني، مؤكداً أن كل الأطفال الأسرى يعرض عليهم «الشاباك» الارتباط به ويتم مساومتهم بشتى الوسائل؛ وبالذات الضرب والتهديد بالاغتصاب من أجل إيقاعهم في مستنقع العمالة.