تونس: التغيير الهادئ

المعارضة «المشتتة» تسعى لمواجهة الحزب الحاكم في الاستحقاق الرئاسي العام المقبل

تونسيون يقومون بالإدلاء بأصواتهم في مركز اقتراع بالعاصمة خلال انتخابات اكتوبر 2004 الرئاسية والبرلمانية (رويترز)
TT

لم تعرف الساحة السياسية التونسية الهدوء منذ إعلان الرئيس زين العابدين بن علي، الشهر الماضي، عزمه إجراء تعديل دستوري استثنائي يسمح لقادة الأحزاب بالترشح لانتخابات الرئاسة. ففي حين اعتبرت أحزاب معارضة الأمر «خطوة أخرى في الاتجاه الصحيح» عدته أحزاب أخرى «استهدافا لحق الكفاءات والأحزاب» في الترشح للانتخابات الرئاسية. وفي حال تم هذا التعديل الذي أعلنه الرئيس في 20 مارس (آذار) الماضي (ذكرى استقلال البلاد)، فإنه سيحول دون ترشح أحمد نجيب الشابي، الذي كان قد أبدى رغبته في خوض سباق الرئاسة لعام 2009 وكان تخلى عام 2006 عن قيادة الحزب الديمقراطي التقدمي لصالح مية الجريبي.

وتحركت بعض الأحزاب محاولة بلورة خطة لمواجهة حزب «التجمع الدستوري الديمقراطي» الحاكم. وعقد قادة ثلاثة أحزاب معارضة (الحزب الاجتماعي التحرري، والاتحاد الوحدوي الديمقراطي وحزب الخضر للتقدم)، أخيرا لقاء أثار الكثير من الجدل حول ما يمكن أن ينبثق عنه. إلا أن هذه الأحزاب اعتبرها متابعون مقربة من السلطة. واجتمع شق آخر من المعارضة ضم أحزاب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد والتكتل من أجل العمل والحريات، وأصدر بيانا هو الآخر.

وبين هذين الشقين تشهد الساحة السياسية تحركات أخرى أطلقت عليها تسمية «الخط الثالث» أو ما يعرف بمجموعة «الواقعية السياسية»، وهي مجموعة تعبر عن آرائها داخل الحزب الديمقراطي التقدمي الذي كان أحمد نجيب الشابي أمينا عاما له. فبعض أعضاء المكتب السياسي لهذا الحزب اعتبر الإجراء الرئاسي الأخير «خطوة إصلاحية جديدة تستوجب التفاعل الايجابي لا الرفض والصد». ويسعى هذا الخط الثالث إلى رفض الموالاة المطلقة وعدم قبول المعارضة «المتطرفة» التي لا ترى إلا بعين واحدة. وكان أعضاء الحزب الديمقراطي التقدمي قد أعلنوا في ندوة صحافية يوم 25 مارس (آذار) تشبثهم بترشيح الشابي للانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في خريف 2009. وإذا لم يتراجع الحزب عن موقفه الحالي، فانه سيجد نفسه خارج دائرة السباق.

وفي نفس هذه الفترة انعقد اجتماع ثلاثي بمقر حزب التكتل من أجل العمل والحريات ضم حركة التجديد ممثلة في أمينها العام أحمد إبراهيم وسمير الطيب عضو أمانة الحركة، والحزب الديمقراطي التقدمي ممثلا من قبل أمينته العامة مية الجريبي وعصام الشابي عضو المكتب السياسي، والتكتل من أجل العمل والحريات ومثله أمينه العام مصطفى بن جعفر وخليل الزاوية والمولدي الرياحي أعضاء المكتب السياسي. وبحث الاجتماع «الوضع العام بالبلاد وآخر المستجدات على الساحة السياسية في علاقة بالاستحقاقات الانتخابية» وذلك حسب ما ورد في خبر مقتضب صدر في جريدة «الطريق الجديد» الناطقة باسم حركة التجديد. وما لم تنبثق عن هذا اللقاء الأول أية نتائج تذكر، فإن أهم ما يمكن الإشارة إليه هو اتفاق هذه الأحزاب الثلاثة مبدئيا على تدعيم العمل المشترك وعلى تنظيم لقاءات أخرى ربما تكون لها نتائج أفضل. وحول هذا اللقاء الثلاثي، يقر عادل الشاوش عضو المكتب السياسي لحركة التجديد، في حديث لـ«الشرق الأوسطش، بصعوبة التقاء المعارضة بصفة عملية، حول مرشح واحد، إذ أن المعارضة التونسية هي في نهاية المطاف مجموعة معارضات يمكن تصنيفها على وجه العموم إلى معارضة تحافظ على استقلالها أو معارضة مستقلة، ومعارضة ثانية تعرف بالموالاة أو ما يطلق عليها تسمية «المعارضة الواقعية». ولا يمكن بالتالي الحديث عن تحالفات سياسية بقدر ما نتحدث عن تنسيق للمواقف وتحركات مشتركة بغية المحافظة على الحد الأدنى من الاتصال يبن أحزاب المعارضة التي تناضل عموما من أجل نفس الهدف.

وحول حظوظ المعارضة التونسيةإ سواء إذا تقدمت مشتتة أو مجتمعة إلى الانتخابات الرئاسية، عبّر عضو المكتب السياسي لحركة التجديد عن صعوبة الحديث عن وصول المعارضة إلى السلطة بوضعها الحالي، معتبراً أن هذه الانتخابات هي بمثابة تمرين إضافي على الممارسة الديمقراطية وتعريف التونسيين ببرامج الحزب حتى يتمكن من خلق مصداقية حول ما يقدمه. أما المنجي اللوز الأمين العام المساعد المكلف الشؤون الوطنية بالحزب الديمقراطي التقدمي، فيؤكد اهتمام المعارضة المستقلة بالانتخابات الرئاسية سنتين قبل الموعد المحدد لها، وهذه المعارضة ترفض بالتالي إعادة نفس سيناريوهات الانتخابات الرئاسية السابقة: أي انتظار ما ستقرره السلطة ثم رد الفعل عما قررته. وإذا كانت المعارضة مختلفة في طور ما قبل الإعلان على نية الحكومة تنقيح الفصل 40 من الدستور، فإن من مزايا هذا الإعلان توحيد جانب مهم من المعارضة التي اتفقت هذه المرة في تقدير خطورة مشروع التعديل الذي تعرض لنقد شديد من قبل حركة التجديد، وللرفض الصريح من قبل الحزب الديمقراطي التقدمي، وللتحفظ الشديد من مصطفى بن جعفر الأمين العام لحزب التكتل من أجل العمل والحريات. كما أن عديد الأحزاب غير المعترف بها في تونس قد عبرت صراحة عن رفضها لهذا المشروع.

وحول قرار الحزب الديمقراطي التقدمي ترشيح أمينه العام السابق أحمد نجيب الشابي للانتخابات الرئاسية القادمة بالاعتماد على قرار اللجنة المركزية للحزب ودخوله في حملة انتخابية قبل أي حزب سياسي آخر، تنقل على إثرها إلى ولايات (محافظات) ومناطق صفاقس، والقصرين، وسيدي بوزيد، وتوزر، ونفطة، وبنزرت ونابل، أشار المنجي اللوز عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي التقدمي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن ذلك غير مخالف للقوانين، ففي أعرق الديمقراطيات الغربية، ما أن تضع انتخابات رئاسية وبرلمانية أوزارها حتى ينطلق الحزب الذي لم يصل إلى الحكم في إعداد العدة من جديد للإطاحة بالطرف الفائز، وهذا ما نلاحظه في فرنسا على سبيل المثال. وحول الإشكال الذي طرأ على قرار اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي التقدمي بعدم إمكانية ترشيح أحمد نجيب الشابي إلى الانتخابات الرئاسية القادمة لعدم استجابته للشروط الاستثنائية الجديدة للترشح، وتململ بعض الأطراف داخل الحزب فيما يسمى بـ«الخط الثالث»، أشار المنجي اللوز إلى أن قرار مقاطعة الانتخابات الرئاسية القادمة من عدمه، كما حصل في انتخابات 2004، يجب أن تتخذه اللجنة المركزية للحزب لوحدها تماما كما اتخذت قرارها بترشيح أحمد نجيب الشابي منذ فبراير (شباط) الماضي. وإذا اتضحت فائدة سياسية من مواصلة الحملة عبر الأمينة العامة للحزب الحالية، مية الجريبي، فإننا لن نتأخر، ولكن هذه المسألة خاضعة لقرار اللجنة المركزية للحزب وكذلك للتقدير لأن المسالة لا تتعلق بالأشخاص، على حد قوله، بل ببناء قوة سياسية بإمكانها إقامة التوازن مع السلطة السياسية الحالية، وهذا التوازن لا يمكن التفكير فيه بدون التفاف المعارضة المستقلة من أجل بلورة أفكار مغايرة وإيصالها للناخب التونسي. ولكن التنسيق بين الأحزاب لم يرق إلى مستويات عالية وربما كان هذا التعديل الجديد مناسبة جادة لمراجعة الحسابات. وكان المكتب السياسي لحزب الخضر للتقدم، المحسوب على السلطة، قد اجتمع أخيرا برئاسة المنجي الخماسي الأمين العام للحزب وأصدر بيانا عبر فيه عن ارتياحه للتأكيدات الرئاسية الجديدة على التعددية، ودعا إلى التفاعل الايجابي مع الاستحقاقات الانتخابية من أجل تثبيت الخيار التعددي، واعتبر أن «إعلان رئيس الدولة عن تنقيح استثنائي للفصل 40 من الدستور لتيسير شروط الترشح للانتخابات الرئاسية لسنة 2009 هو إجراء مهم وتاريخي لأنه يوفر هوامش إضافية لم تكن متوفرة في السابق» إلا أنه في نفس الوقت ناشد رئيس الدولة بما له من صلاحيات لـ«فتح حوار وطني شامل وواسع خلال السنوات المقبلة من أجل وضع تصورات ومقترحات جديدة تهم شروطا نهائية للترشح لرئاسة الجمهورية». ومن ناحيته، قال مصطفى بن جعفر الأمين العام للتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، لـ«الشرق الأوسط»، إن التعديل الطارئ على الفصل 40 من الدستور ليس له ما يبرره وهو يطرح شروطا تعجيزية، على حد قوله، لمن يرغب في الترشح للانتخابات الرئاسية. فهو لم يترك الفرصة للأحزاب لاختيار من تراه مناسبا للترشح، كما أنه حرم الشخصيات المستقلة من إمكانية الترشح لهذه الانتخابات. ولم ينف ايجابية «الانفتاح» على الأحزاب غير الممثلة برلمانيا من خلال هذا المشروع، إلا أن ذلك يفترض، حسب رأيه، الانفتاح الحقيقي ومناقشة عديد المواضيع التي تهم الأحزاب على غرار التمويل وفتح الفضاءات العمومية أمام الأحزاب وتمكينها من تقديم برامجها بوسائل الإعلام طوال السنة. وحول اللقاء الذي جمعه أخيرا بمجموعة من الأحزاب المعارضة، أكد الاتفاق المبدئي بين هذه الأحزاب على عملية الكشف عن الوضع الخاص بمسألة الانتخابات، ومن المنتظر عقد سلسلة من اللقاءات لمواصلة الحوار. ويرى مصطفى بن جعفر أن هذه الأحزاب اتفقت هذه المرة اتفاقا تاما حول مسألة الانتخابات الرئاسية حتى لا تتم في نفس الظروف التي عرفتها انتخابات سنة 2004.

وينطلق مرشح التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم منذ سنة 1987، بحظوظ وافرة خلال الانتخابات المزمع تنظيمها في خريف سنة 2009 وذلك حسب ما يتضح من المشهد السياسي الحالي، ومن المنتظر أن يعقد مؤتمره المقبل تحت شعار «التحدي» وذلك خلال الفترة بين 30 يوليو (تموز) و2 أغسطس (آب) المقبلين. ومن المتوقع أن يتجاوز عدد الحضور في هذا المؤتمر حدود الخمسة آلاف شخص بينهم أكثر من ثلاثة آلاف من نواب الحزب الذي يدخل هذه المرحلة الجديدة «مدججا» بأكثر من مليوني منخرط. وحول الوضع الحالي لأحزاب المعارضة وعلاقتها بالحزب الحاكم، قال المحلل السياسي برهان بسيس لـ«الشرق الأوسط» إنه لا يمكن الحديث في تونس عن جسم معارض متجانس في مواجهة هذا الحزب، ولكن يبقى النظر في موقع المعارضة متصلا باتجاه المسار الديمقراطي التعددي. هذا المسار أراده الفاعلون في رسم ملامحه أن يكون متدرجا رغم أن البعض يراه بطئا في النسق. ويضيف بسيس أن هذا المسار يبقى مسارا يأخذ بعين الاعتبار واقع التحولات ولكنه يحتفظ بإمكانات التعثر والعطالة مثل ما عرفته تجارب أخرى. وهذا ما يفسر النسق المتدرج الذي يأخذ بعين الاعتبار مدى نضج الاستعداد لعملية تحول ديمقراطي لم تكتمل بعد وهذا بإقرار القيادة السياسية نفسها. وحول إمكانيات التحالف داخل صفوف المعارضة، فانه يعتبر أنها تبقى واردة بين المجموعات المتقاربة في طرحها السياسي ولكن بدون انتظار تحالفات جديدة على الساحة السياسية التونسية. ويبقى هذا التحالف، إن وجد، مرتبطا بدرجة نضج هذه الأحزاب السياسية وبمواقفها من السلطة ومن بقية الأطراف الفاعلة. وكانت انتخابات الرئاسة لسنتي 1999 و2004 قد شهدت بدورها تعديلات دستورية مكنت المشهد السياسي التونسي لأول مرة منذ الاستقلال من التنافس الصريح على منصب رئاسة الجمهورية. وشهدت انتخابات سنة 1999 ترشح كل من زين العابدين بن علي (التجمع الدستوري الديمقراطي) ومحمد بلحاج عمر (حزب الوحدة الشعبية) وعبد الرحمان التليلي (الاتحاد الديمقراطي الوحدوي). وعرفت الانتخابات الرئاسية لسنة 2004 أربعة ترشحات لرئاسة الجمهورية وتنافس على المنصب زين العابدين بن علي (التجمع الدستوري الديمقراطي) ومنير الباجي (الحزب الاجتماعي التحرري) ومحمد علي الحلواني (حركة التجديد) ومحمد بوشيحة (حزب الوحدة الشعبية) ولم يتمكن أي من المرشحين للانتخابات الرئاسية خلال الدورتين المذكورتين من إحراج مرشح حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي يحظى بقاعدة جماهيرية عريضة اكتسب معظمها من سنوات التدريب على تسيير دواليب الدولة منذ الاستقلال، إذ اعتبر الحزب الحاكم برئاسة زين العابدين بن علي الوريث الشرعي لتركة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة. وقد مكنته هذه القاعدة الجماهيرية العريضة من اكتساح خصومه الذين لم يتجاوزوا مجتمعين حدود 6 بالمائة من الأصوات. أما بالنسبة لمواقف أحزاب المعارضة التي تبقى مشتتة بالرغم من عراقة البعض منها، فإنها لا تزال متباينة بخصوص الترشح من عدمه، وعليها أن تعد العدة جيدا من أجل مشاركة فعلية والخروج بنتائج مشرفة من هذه التجربة الجديدة.