دويلة.. بثلاثة رؤوس

جزر القمر بين الفرنسيين والرئيس سامبي الذي يسعى إلى ترويض المعارضين

TT

انفتح المشهد السياسي في أرخبيل جزر القمر المطل على المحيط الهندي على مصراعيه، بعدما نجح الرئيس القمري عبد الله سامبي المُكنّى بآيات الله، في وضع حد حاسم ونهائي على ما يبدو للتمرد الذي كان يقوده غريمه العقيد محمد بكر في جزيرة أنجوان منذ العام الماضي.

واذا أردنا التحدث بلغة سامبي، فيمكن القول إنه أحرز رمية ثلاثية بلغة كرة السلة التي يعشقها ويجيدها منذ سنوات شبابه: فهو من ناحية كرَّس شرعية الاتحاد الذي يضم ثلاث جزر فقط، هي موهيلي وأنجوان فيما تظل مايوت تحت الاحتلال الفرنسي رغم الاستقلال عام 1975. ومن ناحية ثانية يكون سامبي قد تمكن من ترويض المعارضين لفكرة تعديل الدستور الوطني بما يلغي أي تعارض لصلاحيات رؤساء الجزر الثلاثة مع مسؤوليات رئيس الدولة. والهدف الثالث لسامبي أنه مهد الطريق نحو إعادة المطالبة بسيادته على جزيرة مايوت التي ما زالت فرنسا تصر على تبعيتها لها وترفض أي محاولة للتنازل عنها.

خلال عامه الثاني كرئيس للدولة القمرية التي تعد أصغر وأفقر الدول الأعضاء في الجامعة العربية، برهن سامبي عن حنكة سياسية غير معتادة بين سياسيي هذه الدويلة. فهو على الرغم من معرفته مسبقا بالنوايا الانفصالية لغريمه بكر، قرر مسايرة محاولات الوساطة الإقليمية بحثا عن حل سلمي، حتى ينزع عن بكر أي دعم إقليمي مستتر.

في نهاية المطاف، لم يكن قرار الحرب وشن غزو بمساعدة قوات من ثلاث دول أفريقية هي السودان وتنزانيا والسنغال وبتمويل ليبي تحت اسم عملية الديمقراطية في جزر القمر، قررا سهلا. سامبي تحدث عن هذا القرار لـ«الشرق الأوسط»، وقال: «كان صعبا للغاية.. ربما كان من أصعب القرارات التي اتخذتها حتى الآن خلال المدة التي قضيتها في الرئاسة، لكن مصلحة الوطن فوق الجميع وبقاء الاتحاد القمري أهم من أي طموح انفصالي لرئيس جزيرة محلية».

صعوبة القرار ترجع بالأساس إلى كون سامبي من مواليد موتسامودو، عاصمة جزيرة أنجوان، علما بأن والده كان داعية ومدرس قرآن.

الآن يؤكد سامبي أن قواته تتولى حاليا السيطرة على زمام الأمور في الجزيرة، وقال: «كما كنا نتوقع فالمتمردون فروا من أمام القوات الحكومية والأفريقية.. معظمهم استسلم في وقت قصير». وأكد سامبي أنه التزم طيلة هذه الأزمة بمبدأ إتاحة الفرصة لكل الوساطات الإقليمية والأفريقية السلمية بحثا عن حل يؤدي إلى تجنب القتال في أنجوان، معتبرا أن غريمه السابق العقيد بكر أوصد كل الأبواب أمام كافة الحلول السلمية بحيث لم يعد هناك بديل عن شن عملية عسكرية لتحرير الجزيرة.

وأضاف سامبي متحدثا لـ«الشرق الأوسط»: هدفنا كان تحرير الجزيرة بأقل قدر ممكن من الخسائر حرصا على أرواح المواطنين والممتلكات العامة، والحمد لله نجحنا تماما في هذا الإطار». وشاركت قوات عسكرية تابعة للاتحاد الأفريقي تضم نحو 1700 من عناصر من ليبيا والسودان والسنغال وتنزانيا في هذه العملية إلى جانب الجيش القمري، تعبيرا عن مساندة المجتمع الدولي للسلطة الشرعية في جزر القمر.

احتاج سامبي إلى نحو تسعة أشهر لتهيئة المناخ السياسي والعسكري للعملية التي ستنزع مؤقتا شعارات الانفصال عن جزيرة أنجوان التي عرفت في السابق بها. لم يكن الأمر سهلا. فالعقيد بكر حاكم أنجوان يتمتع بصلات قوية مع فرنسا وثمة وجود فاعل للمخابرات الفرنسية في جزيرته التي تعد الأقرب من بقية الجزر الأخرى إلى مايوت، المستعمرة الفرنسية التي تكبد خزانة الدولة الفرنسية كل عام نحو 350 مليون يورو.

لكن سامبي لم يكن قلقا من احتمالات حدوث حرب أهلية أو تعرضه لانقلاب عسكري في دولة اشتهرت بتاريخها الطويل والمزمن مع الانقلابات العسكرية منذ الاستقلال.

بدأت قصة تمرد بكر الذي وصل إلى السلطة بانقلاب في التاسع من شهر أغسطس (آب) عام 2001 وأعلن نفسه رئيسا للجزيرة الانفصالية وتسلم مهامه في الرابع عشر من شهر أبريل (نيسان) عام 2002، برفضه قرارا رئاسيا بإقالته من منصبه بعد انقضاء فترة ولايته الأصلية بعدما أعلنت المحكمة الدستورية أن المنصب بات شاغرا بعد انقضاء مدة ولاية بكر. وطلبت من الرئيس عبد الله سامبي استخدام صلاحياته الدستورية ولعب دور الحكم بين المؤسسات.

اعتصم سامبي بالصبر واستجاب لضغوط إقليمية وفرنسية بفتح قنوات حوار مع بكر عبر وسطاء إقليميين، لكن الأخير أصر في المقابل على إجراء انتخابات نصبته رئيسا للجزيرة خلافا لقرار الرئيس سامبي.

وتدهورت العلاقات سريعا بين الطرفين بعدما قرر بكر الهجوم على مقر الرئاسة في جزيرة أنجوان والاستيلاء على ممتلكاتها والهجوم على منزل الرئيس الاتحادي الخاص وتصفية كل مؤسسات الدولة في الجزيرة، بالإضافة إلى منع هبوط الطائرة التي كانت تقل سامبي وأعضاء الحكومة.

وهكذا أصبح الموقف خطيرا للغاية وباتت البلاد على شفا كارثة حقيقية تتطلب تدخلا خارجيا لحسم المعركة لصالح أي من الطرفين.

لكن لماذا استطاع رجل انتخب كبقية الحكام الآخرين أن يتحدى الحكومة المركزية والمجتمع الدولي؟ يقول سامبي: «الجواب ببساطة لأنه كان يمتلك سلاحا يعود تاريخه إلى عام 1997 عندما قرر الرئيس السابق محمد تقي عبد الكريم القضاء على التمرد الذي حدث في نفس الجزيرة. وفشلت المحاولة وصودرت الأسلحة التي كانت بحوزة قواته وبقيت بيد مليشيات الجزيرة وأفراد الشعب، وعندما حضرت قوات من جنوب أفريقيا لمراقبة الانتخابات الرئاسية عام 2006 بدلا من جمع تلك الأسلحة تركتها كعهدة في أيدي سلطات أنجوان».

كانت لدى سامبي شكوك قوية في أن فرنسا تدعم بكر لكنه لم يخرج بهذه الشكوك إلى العلن، وهو أبلغ «الشرق الأوسط» العام الماضي أن بكر مدعوم من جهات خارجية تعمل في الظلام، وأنه لم يكن ليقدم على هذا التحدي إلا على هذه الخلفية.

علاقات فرنسا بالجزر التي كان العرب أول من أطلقوا عليها اسم القمر قديمة وتاريخية يسهل تجاهلها، حيث استعمرت فرنسا جزر القمر الكبرى وأنجوان ومايوت وموهيلي بينعامي 1843 و1920، قبل أن تصبح لاحقا عام 1947 واحدة من الأقاليم الفرنسية فيما وراء البحار وأعطيت تمثيلاً في البرلمان الفرنسي. وفي عام 1961 مُنحت الجزر استقلالاً ذاتياً. وفي عام 1973 وقعت فرنسا وجزر القمر اتفاقاً أفضى في عام 1978 إلى الاستقلال التام. وبينما صوتت جزر نجازيجيا (القمر الكبرى) وموهيلي وأنجوان للاستقلال التام، فان مايوت (ماهوري) فضلت البقاء مرتبطة بفرنسا. وجاء ذلك في استفتاء عام وافق فيه 65% من سكان جزيرة مايوت على البقاء جزءًا من فرنسا مدعية أن علاقاتها الثقافية والدينية واللغوية مختلفة عن الجزر الثلاث الأخرى.

مايوت التي لا يزيد عدد سكانها عن 120 ألف نسمة وتتمتع بمعدلات نمو اقتصادية عالية نظرا للدعم الفرنسي مقارنة بميزانية لا تزيد عن 60 مليون دولار أميركي للدولة القمرية، تراهن على أن مسيحية معظم سكانها ومصادرها الطبيعية، تؤهلها للبقاء في عهدة الفرنسيين.

لذلك لم يكن مستغربا أن تكون الحكومة الفرنسية أول من يؤكد أن العقيد بكر الذي فر من أنجوان متخفيا في زي امرأة يوجد حاليا في جزيرة مايوت. ولا يستبعد مقربون من سامبي أن يكون بكر قد حصل على مساعدة من طرف خفي في عملية هروبه في إشارة إلى المخابرات الفرنسية.

وقال دبلوماسي قمري لـ«الشرق الأوسط» ان الفرنسيبن هم من ساندوا تمرد بكر وأيدوه سرا وعندما تيقنوا من أنه سيخسر المعركة لا محالة نقلوه إلى مايوت تحت حمايتهم. أما بالنسبة لسامبي، فان بكر يجب أن يخضع مع مساعديه وكل من ساندوه لمحاكمة عادلة، فهذا الرجل كما يقول كان يتلاعب بمصير دولة بأكملها ويضع مصالحه الشخصية فوق مصالح شعبها.

وثمة اتفاق مبرم بين الحكومتين القمرية والفرنسية لتبادل تسليم المطلوبين للعدالة، لكن ثمة شكوكا أيضا في أن تقدم فرنسا على تسليم رجلها العقيد بكر إلى سامبي. ولا يملك سامبي ولا مساعدوه أي رد في هذا الإطار، لكنهم يراهنون على أنه في أسوأ الأحوال فإن فرنسا ستلتزم بعدم السماح لبكر بممارسة أي نشاط سياسي أو إعلامي مناوئ للسلطة الشرعية في العاصمة القمرية موروني.

وعرفت أنجوان بنزاعاتها الانفصالية على مدى السنوات التي تلت حصول جزر القمر عام 1976 على استقلالها من فرنسا، فيما شهدت جزر القمر على مدى نحو ربع قرن حوالي 25 محاولة انقلابية سعى فيها العسكر إلى الاستيلاء على السلطة.

بيد أنه سيتعين على سامبي أن يخوض جولة أخرى مع مروجي الإشاعات ضده، وهو ينفي عن نفسه ما يردده خصومه من أنه تشيع أثناء وجوده في إيران، وأنه من تلامذة المرجع المدرسي في حوزة القائم بطهران.

في المقابل، يؤكد الرئيس الذي لقبته الصحافة بآيات الله منذ عودته من طهران عام 1986، أنه ذهب إلى ايران للدراسة تماما كما فعل في السودان والسعودية. ويقول: «أجدادي من عائلة آل ماثيلي بعلوي في حضرموت وأنا سني أنتمي الى المذهب الشافعي». إلا ان هذا النفي المتكرر لم يمنع العام الماضي من حدوث احتقان طائفي بعدما طالب 60 من علماء السنة بطرد الأجانب الذين يساعدون على نشر التشيع في البلاد. لكن السؤال الذي يبقى برسم الإجابة كما يقول محمد على ديا، السفير السابق ورئيس حزب التجمع القمري المعارض، هو: هل يعقل أن دولة صغيرة لا يزيد تعدادها عن 700 ألف نسمة تكون فيها أربع حكومات وأربعة رؤساء وأربعة أعلام، علما أن ميزانية الدولة الفقيرة لا تستطيع تحمل هذا الترف؟

كلام ديا يأتي على خلفية ما حدث عام 2001 عندما تم إجراء تعديل على الدستور لإعطاء كل جزيرة «حكما ذاتيا» وتغيير اسم البلاد إلي اتحاد جزر القمر، على أن ينتخب رئيس الاتحاد من خلال الاقتراع العام لمدة 4 سنوات ويتم تداول الرئاسة بشكل دوري.

يعتقد ديا كغيره أن التجربة برهنت على أن الدستور يحتاج إلى تعديل بالنظر إلى ما سماه بالاشكالات المترتبة على وجود ثلاث حكومات محلية وحكومة فيدرالية.

لكن هل ينوى سامبي السعي لفترة رئاسة ثانية وهو ما يتطلب أيضا تعديل الدستور؟ يقول أحد مساعديه: «لا.. في الوقت الحالي هذا غير مطروح، لكن من يدري ربما يحدث ذلك عام 2010 عندما يحين موعد تولى جزيرة موهيلي رئاسة الاتحاد وفقا لدورية الرئاسة التي يتم تناقلها بين الجزر القمرية الثلاث».

وهو أمر ربما يدفع سامبي إلى أن يستعيد ذكرياته مجددا في لعب كرة السلة لعله يحظى برمية ثلاثية جديدة لكن هذه المرة في شباك المتطلعين إلى خلافته، ولكن تلك قصة أخرى.