كل شيء يعتمد على ربطة العنق

حرب أوباما وهيلاري لكسب أصوات «الياقات الزرقاء» أدت إلى تغيير في استراتيجية كل منهما

أوباما بلا رباط عنق، مشمرا عن ساعده خلال حملته الانتخابية في انديانابوليس (رويترز)
TT

فاز، بفارق كبير في الانتخابات الاولية يوم الثلاثاء في ولاية نورث كارولينا، السناتور باراك أوباما على السناتور هيلاري كلينتون، في المنافسات المستمرة بينهما لاختيار مرشح لرئاسة الجمهورية باسم الحزب الديمقراطي. في نفس اليوم، في ولاية انديانا، فازت هي عليه، لكن بفارق ضئيل. وصار واضحا ان على هيلاري ان تبذل المستحيل لتفوز عليه في جملة اصوات المندوبين الى مؤتمر الحزب العام الذي سيعقد في نهاية الصيف، والذي سيعلن مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية.

في ولايتي نورث كارولينا وانديانا، حصل أوباما على تأييد 95 مندوبا، وحصلت هيلاري كلينتون على تأييد 75 مندوبا. وبهذا، صارت جملة المندوبين المؤيدين لأوباما في المؤتمر المقبل للحزب 1.840 مندوبا. بالمقارنة مع 1.690 مندوبا لهيلاري (يحتاج كل واحد منهما الى 2.000 مندوب للفوز بترشيح الحزب).

وقال د. رتشارد شنكمان، استاذ العلوم السياسية في جامعة جورج مايسون (ولاية فرجينيا)، ومؤلف كتاب «روايات، واكاذيب، وخرافات في تاريخ اميركا»، لـ«الشرق الاوسط»: «ربطة العنق. لاحظ ربطة العنق. كل شيء يعتمد على ربطة العنق» كان يشير الى استراتيجية أوباما الجديدة بأن يكون «شعبيا»: يخلع البدلة، ويخلع ربطة العنق، ويشمر قميصه، ويتصرف وكأنه مواطن عادي.

لماذا فعل أوباما ذلك؟ لأن هيلاري، قبل اسبوعين، هزمته في الانتخابات الاولية في ولاية بنسلفانيا بفارق كبير.  ليس لانها قدمت برنامجا مختلفا اختلافا كبيرا عن برنامجه. ولا لانها جذبت الناخبين بجمالها واناقتها. ولا لانها امراة، وهو رجل. ولا حتى لأنها بيضاء، وهو اسود (او نصف اسود). ولكن لانها كسبت المواطن العادي.

فمن هو «المواطن العادي»؟

كتب كيفين اوكيف، في كتاب «آفريج اميركان» (الاميركي العادي)، ان القاموس السياسي الاميركي يسميه «ميدل كلاس» (الطبقة الوسطى).  تنقسم الطبقة الوسطى الى ثلاث: عليا (دخل العائلة في الشهر عشرون الف دولار تقريبا)، ومتوسطة (عشرة آلاف دولار تقريبا)، ودنيا (خمسة آلاف دولار تقريبا). وتنقسم الطبقة السفلى الى ثلاث: عليا (ثلاثة آلاف دولار تقريبا). ووسطى (الفا دولار تقريبا)، ودنيا (اقل من الفين، وتعتبر طبقة فقيرة تحتاج الى مساعدات حكومية). وتنقسم الطبقة العليا الى ثلاث: دنيا (مليون دولار في السنة تقريبا). ووسطى (ملايين الدولارات في السنة). وعليا (مليارات الدولارات في السنة).

لكن، بسبب السياسات الرأسمالية المتطرفة للحزب الجمهوري خلال العشرين سنة الماضية، زادت الهوة بين الاغنياء والفقراء، وارتفع مستوى الطبقة العليا، وصارت اغلبية الاميركيين في حدود الطبقة الوسطى الدنيا. وصار المواطن الاميركي العادي كالآتي: اولا: ينتمي الى الطبقة الوسطى الدنيا.  ثانيا: ابيض. ثالثا: يزيد عمره عن خمسة وعشرين عاما. رابعا: دخله الشهري ثلاثة الاف دولار تقريبا. خامسا: اكمل الثانوية، لكنه لم يكمل الجامعة. سادسا: متزوج. سابعا: سيطلق مرة واحدة، على الاقل. ثامنا: يملك منزلا، ولكن ليس كبير الحجم. تاسعا: يعمل في مكتب في وظيفة عادية، او في مصنع. من هنا جاء اسم «بلو كالار» (صاحب الياقة الزرقاء)، بالمقارنة مع «وايت كالار» (صاحب الياقة البيضاء)، وهو التعبير الذي يستخدم للإشارة الى الاثرياء. في الاسبوع الماضي، ارسلت صحيفة «واشنطن بوست» مراسلها ايلي ساسلو الى ولاية انديانا، لقضاء يوم كامل مع سكوت وينشيف، رجل من «بلو كالار» (طبقة وسطى دنيا). يعمل في مطعم «شارلي» خارج مدينة لافاييت، حيث جامعة بيردو (لكنه لم يدخل جامعة بعد ان نال الشهادة الثانوية).  في الصباح، ذهب الى متجر «وول مارت» لشراء ملابس لاولاده وبناته الاربع (المتوسط الاميركي اثنان فقط).

قال: «انا شعبي، واريد رئيس جمهورية شعبيا مثلي. طبعا، لا اريده ان يعيش مثلي شعبيا. لكن اريده ان يعرف: كيف اعيش؟ ما هي آرائي؟  ما هي حاجياتي؟».

يملك منزلا صغيرا على مسافة عشرين ميلا من المدينة لان منازل المدينة غالية. وتستهلك سيارته اربعة غالونات بنزين كل يوم (قيمتها خمسة عشر دولارا تقريبا). وذلك لانه يعمل في مكان آخر، غير المطعم، وهو مساعدة مزارع قريب منه لإطعام خرافه كل صباح.

ولكسب اصوات المواطن الاميركي العادي فعلت هيلاري كلينتون الآتي في ولاية انديانا، قبل الانتخابات الاولية يوم الثلاثاء:

اولا: قالت ان جدها علمها الصيد ببندقية.

ثانيا: حاولت ان تستعمل «لكنة الولايات الريفية».

ثالثا: قالت ان جدها وجدتها كانا فقيرين.

رابعا: اكلت قطعة دجاج بيديها، وليس بشوكة وسكينة.

خامسا: زارت نساء ريفيات في منازلهن، وجلست داخل مطابخهن.

خلال كل هذه «الحركات»، تابعها الصحافيون وكاميرات التلفزيون.  وتعجب كثير من الناس كيف تجرأت هيلاري على كل ذلك.

لم تقل ان متوسط دخلها وزوجها الرئيس كلينتون هو عشرة ملايين دولار في السنة (يجعلها هذا طبقة عليا متوسطة). ولم تقل انها تربت في ضاحية راقية من ضواحي شيكاغو. ولم تقل انها درست في جامعة ييل المحترمة.  ولم تقل انها كانت مستشارة قانونية لشركات كبيرة في ولاية آركنسو، عندما كان زوجها حاكما للولاية. ولم تقل انها وزوجها الآن يملكان بيتا قيمته خمسة ملايين دولار في ضاحية من ضواحي مدينة نيويورك، ومنزلا قيمته اربعة ملايين دولار في منطقة راقية في واشنطن العاصمة.

في الجانب الآخر، ايضا، حاول أوباما ان يكون مثل المواطن العادي:

اولا: تخلى عن البدلة وربطة العنق، وشمر عن ساعديه.

ثانيا: لعب «بولينغ» الشعبية (يرمي الشخص كرة من بعيد لضرب مجموعة اهداف، ويفوز او يخسر حسب عدد الاهداف التي تسقطها الكرة).

ثالثا: قلل من كلام النظريات والفلسفات، وكان يبدو وكأنه استاذ جامعي.

رابعا: ذهب الى مطعم، واكل «بان كيك»(فطائر محمرة).

لكن، لسوء حظه، سمعه الصحافيون الذين كانوا يصورونه وهو يأكل تلك الفطائر يقول ما معناه انه كان يود الا يأكلها امام الصحافيين. وطبعا، نسي ان كل هذه الاشياء ليست إلا «شبه مسرحية» ليثبت السياسي انه مثل المواطن العادي.

غير ان أوباما لم يقل للمواطن الاميركي العادي انه درس في جامعة هارفارد المحترمة. ولم يقل انه كان رئيس تحرير دورية كلية القانون في الجامعة. ولم يقل انه ليس مثل بقية السود. لم تواجه هيلاري كلينتون مشكلة اللون، لكن أوباما يواجهها كل يوم.  ومشكلة أوباما هي ان الاغلبية البيضاء تنظر اليه كأسود اولا (رغم ان والدته بيضاء). ولهذا، تتوقع منه ان يتصرف مثل السود: يتكلم مثلهم، ويمشي مثلهم، ويغني «هيب هوب» مثلهم.

لكن، طبعا، أوباما ليس مثل هؤلاء. في جانب، يساعده ذلك على كسب اصوات بعض البيض. وفي الجانب الآخر، يظل بعض البيض لا يثقون به بسبب لونه.

وظهرت مشكلة العلم الاميركي.  منذ هجوم 11 سبتمبر، بدأ سياسيون اميركيون (بقيادة الرئيس بوش) يضعون علما اميركيا صغيرا على الجانب الايسر من البدلة، رمزا للوطنية، وحب اميركا. ولنفس السبب، رفع الاميركيون العلم الاميركي على ابواب منازلهم، ووضعوه كملصقات على سياراتهم. لكن، بعد سنة او سنتين، قلت هذه الظاهرة، التي كانت بسبب رئيسي هو الخوف من هجمات اخرى. ومن الارهابيين. (ومن المسلمين، رغم ان حياء الاميركيين يمنعهم من ان يقولوا ذلك علنا).   ثم بدأ جدل عن معنى ذلك: لماذا العلم؟ ما هو معناه؟ هل كل من لا يفعل ذلك اقل وطنية من الذي يفعله؟

في البداية، كان أوباما يضع علما صغيرا على بدلته. ثم ترك العادة سنة 2004. لكن، مع ارتفاع نجمه السياسي، وترشيحه في الانتخابات، انتقده معارضوه، واتهموه بعدم الوطنية. في الاسبوع الماضي، كتب رتشارد كوهين، معلق ليبرالي في صحيفة «واشنطن بوست»: «احسن شيء يفعله أوباما هو ألا يضع العلم. مع كل الاحترام للعلم الاميركي، ليس لهذا اي معنى، ولا يزيد او يقلل من وطنية اي شخص» واضاف: «ليست هذه مشكلة عن وطنية أوباما، ولكنها عن النفاق والخوف من الآخرين». وفي الاسبوع الماضي، في برنامج تلفزيوني، سأل مذيع أوباما، وكأنه يحرجه: «لماذا لا تضع العلم الاميركي؟» واجاب أوباما سريعا: «العلم الاميركي في قلبي».

لم يتحدث رتشارد كوهين عن نفاق آخر، وهو ان هيلاري كلينتون لا تضع علما على فستانها. ولا تعلقه على رقبتها. ولا تفعل النساء ذلك. ربما لأنهن لا يحتجن لاثبات حبهن لوطنهن، او لأن ذلك ليس مهما مثل حب الرجال لوطنهم.

قال رتشارد شنكمان، مؤلف كتاب «روايات واكاذيب، وخرافات في التاريخ الاميركي» لـ«الشرق الاوسط»: «لا تقتصر ظاهرة تقرب السياسيين من المواطن العادي على هيلاري كلينتون، او أوباما، او جون ماكين (مرشح الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية). عبر تاريخنا، ظل السياسيون يحاولون ذلك. وافضل استراتيجية، او حيلة، يستعملونها هي ادعاء انهم فقراء، مثل عامة المواطنين».

في سنة 1940، ترشح وليام هاريسون لرئاسة الجمهورية، وكرر بأنه ينتمي الى عائلة فقيرة (رغم انه ولد في مزرعة عملاقة، ووقع والده على اعلان الاستقلال).

وفي سنة 1892، ترشح كروفر كليفلاند لرئاسة الجمهورية، واصدر كتابا قال فيه انه عاش «في فقر»، ودمه «دم عادي» (لكنه كان من عائلة شبه ارستقراطية).

وفي سنة 1980، ترشح رونالد ريغان لرئاسة الجمهورية، ونشر دعاية بانه من عائلة فقيرة. ووزع صورة قديمة له يقف امام منزل سماه «كوخ»، حيث ولد فيه في ديكسون (ولاية إلينوي). لكنه، اولا، لم يكن كوخا، وثانيا، اكمل ريغان كلية جامعية، وثالثا، نجح كمذيع في الراديو، ورابعا، ذهب الى هوليوود وصار ممثلا مشهورا ومليونيرا.

نعم، ولد رؤساء اميركيون في اكواخ، ولم يضطروا ليعلنوا في الانتخابات انهم فقراء. مثل ابراهام لنكولن، ورتشارد فلمور، واندرو جونسون. لكن، لم يكن اغلبية الرؤساء مواطنين عاديين. بداية بجورج واشنطن، الرئيس الاول. ولد في مزرعة في ولاية فرجينيا مساحتها اكثر من عشرة آلاف فدان (بالقرب من واشنطن العاصمة، وصار المنزل متحفا).

وكان والد الرئيس الثاني، جون ادامز، عمدة في ولاية ماساتشوستس. وكان والد الرئيس الثالث، توماس جيفرسون، يملك مزرعة من الف فدان في ولاية فرجينيا. وكان والد جيمس ادامز رئيسا للجمهورية. وكان والد بنجامين هاريسون رئيسا للجمهورية.

في سنة 1840، عندما ترشح وليام هاريسون، الوالد، لرئاسة الجمهورية، بدأ تكتيك «المواطن العادي»، وذلك بأن وضع خطة ليصور نفسه مواطنا عاديا، رغم ان والده كان رئيسا للجمهورية. كانت العادة هي ان يدعو المرشح الناخبين الى منزله، او الى مكان عام، ويرتب احضارهم واعادتهم الى امكانهم، ويغدق عليهم الطعام والشراب، ويخطب فيهم، ويدعوهم للتصويت له. ولم يكن واضحا هل صوت له الناس لانه اشبع بطونهم، او لأنهم يتفقون معه في الرأي.

لكن، قرر هاريسون ان يقوم بجولة انتخابية، ويزور الناس في اماكن عملهم، وفي منازلهن، ويأكل اكلهم، ويشرب شرابهم، ليقنعهم بأنه واحد منهم.

وصارت هذه عادة، سار عليها المرشحين حتى اليوم:

في انتخابات سنة 1980، صورت كاميرات التلفزيون ريغان وهو يقطع الخشب في مزرعته في ولاية كاليفورنيا. وفي انتخابات سنة 1984، صورت بوش الاب وهو يأكل «بورك رند» (لحم خنزير مجفف) امام منزله في ولاية مين. وفي انتخابات سنة 1992، صورت كلينتون يأكل هامبرغر في واحد من مطاعم «ماكدونالد» في ولاية آركنسو. وفي انتخابات سنة 2000 صورت بوش الابن يقطع الاخشاب في مزرعته في ولاية تكساس.

لكن، في سنة 1976، عندما صورت فورد يأكل ساندوتش «تامالي» (المكسيكي)، نسي ان يزيل غطاء قندول الذرة الذي يقدم فيه الساندوتش. وفي سنة 1984، عندما صورت بوش الاب يصطاد حماما، اخطأ وقتل طائر «سونغ بيرد» (طائر الغناء) الذي منعت ولاية تكساس قتله. وحققت معه الشرطة، وغرمته مائة وثلاثين دولارا. وفي سنة 2004، عندما صورت السناتور جون كيري يأكل ساندوتش «فيلادلفيا» (لحم وجبن)، قال انه لا يحب الجبن، واساء الى عادة عمرها مئات السنين. واخيرا، هذه الاسئلة: عندما يتصرف المرشح وكأنه مثل عامة الناس، هل يصوت الناس له لأنه اقنعهم بأنه مثلهم؟ او هل يعرفون انه «يمثل»، ولا يصوتون له؟ او هل يعرفون انه «يمثل» ويصوتون له؟

قال رتشارد شنكمان، «يبدو غريبا اننا، في هذا العصر العقلاني الذي ندعي فيه كلنا العقلانية، نميل نحو الخرافات. لكن، يحدث هذا، حتى في اميركا. اثبتت ابحاث علمية ان الاميركي العادي، اذا خير بين الحقيقة والخرافة، وفي حالات معينة، يميل نحو الخرافة».

واضاف ان الاميركي العادي يميل نحو الاقتناع بأن المرشح الذي يأتي الى منزله، ويأكل اكله، ويشرب شرابه هو مثله. لكنه، في نفس الوقت، يعرف انه ليس مثله. لكنه، في نفس الوقت، يثق به ويصوت له.