اللبنانيون.. والحافة

30% عاجزون عن تأمين احتياجاتهم ومليون من أصل 4 ملايين فقراء.. والهجرة باب الرزق الأسرع

اللبنانيون يعانون من توتر الوضع السياسي وارتفاع غير مسبوق في الاسعار («الشرق الأوسط»)
TT

يعيش اللبنانيون في الوقت الراهن تجربة معيشية تكاد تكون الاقسى منذ عقود، تظهر تأثيراتها في الحياة اليومية للغالبية العظمى منهم.

ويكاد المواطن العادي يحصر همه بالحصول على قوته اليومي، ولو بالحد الادنى، بعد ارتفاع اسعار اللحوم والاجبان والالبان والحبوب والفواكه. وحتى رغيف الخبز ارتفعت اسعاره اخيراً بالرغم من الاستمرار في دعمه بما يساوي 65 مليون دولار سنوياً. وليست صور بعض المطاعم والمقاهي والملاهي المتخمة بالرواد سوى طبقة الثلج التي تخفي المستنقع الآسن.

وعلى صعيد السكن، لم يعد في مقدور المواطن العادي اللحاق بركب اسعار الشقق، بعدما حققت قفزات خيالية في الاشهر الاخيرة نتيجة عدة عوامل، منها ارتفاع اسعار المواد الاولية واليد العاملة والاراضي. ويكاد بيع الشقق الفخمة (من 250 متراً مربعاً وما فوق) يقتصر على الرعايا الخليجيين واللبنانيين العاملين في الخارج، وطبقة محدودة من اللبنانيين المقيمين، فيما بات المواطن العادي يفتش عن الشقق الصغيرة او «الشعبية»، وحتى الاستوديوهات باتت مطلب شريحة واسعة من اللبنانيين كما هي الحال في الدول الاوروبية وغيرها من الدول التي تتميز بارتفاع اسعار العقارات فيها. وحتى الذين يقبلون على شراء هذا النوع من الوحدات السكنية لا يقوون على ذلك بدون اللجوء الى القروض المصرفية، وفي حال تعذر ذلك يكتفون بالاستئجار.

ويجد الكثير من اللبنانيين صعوبة في الاستشفاء بعد رفع بدلات المعاينة الطبية، واسعار الدواء وكلفة الاستشفاء، ولا سيما بالنسبة الى الذين لا تشملهم الهيئات الضامنة (ضمان اجتماعي، تعاونية الموظفين، وجهاز السكن العسكري)، خصوصاً ان ضمان الشيخوخة الاختياري تهاوى قبل ان ينطلق، فيما يعاني المنتسبون الى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ـ وهم اكثرية اليد العاملة ـ من تأخير متزايد في تسديد المستحقات للمضمونين بفعل الفوضى والبيروقراطية.

وفيما كان المواطن يسعى الى اقتناء سيارة فخمة نوعاً ما، مستعملة او جديدة، بات يفتش عن السيارة الصغيرة والاقتصادية وسط زحمة من العروض التي تقدمها الوكالات، ان لجهة التقسيط الطويل الامد، وان لجهة فترة السماح، وان لجهة الفوائد الميسرة، او استبدال السيارة القديمة بسيارة جديدة.

هذه نماذج مما آلت اليه حال اللبنانيين في ظل الازمات السياسية والامنية والاقتصادية المتلاحقة، وقد تفاقمت هذه الحال في الآونة الاخيرة بفعل ازمة الغذاء العالمية الناتجة عن ارتفاع اسعار المواد الغذائية، وارتفاع اسعار النفط مقابل هبوط الدولار ازاء العملة الاوروبية خصوصاً، التي سجلت رقماً قياسياً منذ نشوئها بلغ 1.60 دولار. وهذا كافٍ لندرك مدى تأثر الاقتصاد اللبناني الذي كان يعتمد على 50% من مستورداته من اوروبا، مما اضطره اخيراً الى التوجه نحو اسواق الصين وجنوب شرق آسيا، وحتى الولايات المتحدة.

ويشير مسح اجرته وزارة الشؤون الاجتماعية بالاشتراك مع البنك الدولي وبرنامج الامم المتحدة الانمائي، الى ان 2.5% من اللبنانيين يعانون من الجوع، فيما تبلغ نسبة الذين يعيشون في فقر مدقع 6.8% من السكان و7.1% من الاسر في عام 1996، والى ان هناك اكثر من 30% غير قادرين على تأمين حاجاتهم الاساسية، مع وجود تباينات مناطقية مهمة وبارزة. وتبلغ نسبة الفقر المدقع اقصاها في الهرمل (البقاع) وعكار (شمال لبنان) لتشارف 25.6% و25.4% على التوالي. وتذهب دراسات اخرى الى رسم صورة اكثر سواداً لمستوى الفقر في لبنان. فلجنة «الاسكوا» تظهر في دراسة لها ان عدد الفقراء في لبنان يناهز مليون شخص (في عام 1997)، اي ما يشكل 28% من مجموع السكان، منهم 25% من الفقراء المعدومين (دخل الاسرة المكونة من 5 افراد يقل عن 306 دولارات شهرياً، وهو الدخل المقدر لتكاليف الغذاء فقط)، في حين ان 75% منهم يعيشون ضمن خط الفقر المطلق (دخل الاسرة من 5 افراد يقل عن 681 دولاراً شهرياً).

اما دراسة بعثة «بانتل» (التي اعدت الصيغة الاولى لخطة اعادة اعمار لبنان) فأفادت ان ما بين 68% و80% من اللبنانيين فقراء، فيما الاغنياء تتراوح نسبتهم ما بين 5% و7% ومتوسطي الحال ما بين 15% و25%. ولم تشمل هذه المعطيات انعكاسات التضخم الكبير الذي حصل في عام 1992، وبلغ متوسطه اكثر من 125%، وادى الى انهيار المداخيل بنسبة تصل الى 70%.

واذا اضفنا الى كل هذه النتائج موجة التضخم الآنية والقياسية لبررنا لجوء بعض الناس الى مستوعبات القمامة بحثاً عن قوت يومي، او الى افتراش المدافن والجسور، او الموت على ابواب المستشفيات، ولأدركنا حتمية انفجار ازمة الاجور التي لم تصل بعد الى خواتيمها السعيدة في ظل تشبث الاتحاد العمالي العام برفع الحد الادنى للاجور الى 960 الف ليرة فيما الهيئات الاقتصادية تصر على زيادة الحد الادنى 100 الف ليرة فقط ليصبح 400 الف ليرة، وتحاول الحكومة رفع هذه الزيادة الى 150 الف ليرة، منها 100 الف زيادة غلاء معيشة والباقي زيادة بدل نقل.

ولكي ندرك حجم الازمة، لا بد من الاشارة الى ان الاجور في لبنان في القطاعين العام والخاص، مجمدة منذ عام 1996. وجاءت الصدمات السياسية والامنية المتلاحقة منذ اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري في فبراير (شباط) 2005، وما قبلها وبعدها من اعتداءات اسرائيلية لتزيد حدة الازمة. يضاف الى ذلك التآكل المتواصل في القدرة الشرائية للمواطن، ولا سيما في الاشهر الاخيرة. وكان حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة قد اعلن في نهاية العام المنصرم ان الاجور في لبنان فقدت 15% من قيمتها الشرائية، فيما اعتبر الخبير الاقتصادي كمال حمدان انها فقدت الثلث، بحيث بات الحد الادنى يوازي 134 دولاراً بدلاً من 200 دولار، كما هو الآن. ولم يقتصر التناقض في احتساب معدل التضخم في عام 2007 على هاتين المقولتين، بل تعدتهما الى مجموعة من التقارير والدراسات الصادرة عن منظمات دولية ومؤسسات خاصة ورسمية.

فاذا اخذنا البنك الدولي لوجدنا انه اشار في تقريره الفصلي الثالث عن لبنان الى معدل تضخم معتدل لم يتجاوز 3.7% على اساس سنوي. وقد صدر هذا الرقم، بالطبع، استنادا الى ارقام الفصلين الاولين، وحتى لو اخذنا في الاعتبار زيادة اسعار الاستهلاك في الفصلين الاخيرين لبقي معدل البنك الدولي دون المعدل الصادر عن المديرية العامة للاحصاء المركزي التابعة لرئاسة الحكومة.

وقد يتقارب المعدل الذي طرحه البنك الدولي مع المعدل الذي طرحته «ايكونوميست انتليجانس يونيت» في دراسة حديثة لها حول تأثير الازمة السياسية على الاقتصاد اللبناني في عام 2007، اذ اشارت هذه الدراسة الى معدل 4% وتوقعها ارتفاع هذا المعدل العام الحالي الى 5% «نتيجة الضغوط التضخمية المستوردة، ولاسيما ارتفاع اسعار النفط».

ويتدرج المعدل ليبلغ 5.93% في دراسة اعدتها «مؤسسة الاستشارات والابحاث»، معتبرة ان فورة الاسعار التي حصلت في الشهر الاخير من السنة (0.92%) رفعت المعدل من 4.97% الى 5.93%. واشارت الدراسة الى ان كل مكونات المؤشر ارتفعت باستثناء السلع المستدامة كالمفروشات التي تراجعت بنسبة 8.98% والاجهزة المنزلية التي تراجعت بنسبة 2.57%، والزجاجيات التي تراجعت بنسبة 20.45%، فضلا عن نفقات الاستشفاء (2.07%).

ويرتفع الرقم الى 7.5% في الفصل الاخير من العام مع دراسة لـ «جمعية المستهلكين» التي تشير الى ان التضخم المتراكم على مدى الثمانية عشر شهرا الاخيرة منذ اطلاق المؤشر في يوليو (تموز) 2006، بلغ 37.4%، علما ان هذا المؤشر يستند الى سلة من 160 سلعة، موزعة على 12 فئة. ولعل التناقض الابرز والاكثر غرابة هو بين الرقم الذي تطرحه وزارة المالية (4.5%) والرقم الذي تطرحه المديرية العامة للاحصاء المركزي التابعة لرئاسة الحكومة، والذي بلغ 9.3%. ويشير تقرير المديرية الى ان اسعار الاستهلاك ارتفعت بنسبة 6.9% بين سبتمبر (ايلول) وديسمبر (كانون الاول) 2007، وعلى اساس سنوي ارتفعت المواد الغذائية بنسبة 14.8%، في حين ارتفعت كلفة الطاقة والمياه 20.9%، واسعار مستحضرات العناية الشخصية (9.12%)، واسعار المفروشات والتجهيزات المنزلية (11%).

واذا اخذنا ارتفاعات الاسعار في الاشهر الاربعة الاخيرة من العام الحالي لوجدنا ان معدل التضخم خلال الـ 21 شهراً الاخيرة بلغ 43.03%، بحسب «جمعية المستهلك» في كتاب وجهته الى البنك الدولي شرحت فيه واقع القدرة الشرائية للفرد اللبناني وتراجعها «بشكل خطير من دون اي تصحيح للاجور، ما ادى الى مضاعفة الفقر والبطالة والهجرة».

وعلى الرغم من التآكل الكبير للقدرة الشرائية للمواطن اللبناني، فان رئيس جمعية الصناعيين فادي عبود يعتبر ان الحد الادنى للاجر (300 الف ليرة، اي 200 دولار) قبل طرح الزيادة الجديدة هو الاعلى بين الدول السبع عشرة الموقعة على اتفاق التبادل الحر العربي، مشيرا الى انه بحدود 100 دولار في سورية، و150 دولاراً في الاردن، و80 دولاراً في مصر، ومستدركاً أن المواطن المصري يعيش بـ 100 دولار كما يعيش المواطن اللبناني بـ 500 دولار، بفضل تعدد السلع المدعومة في مصر، ولاسيما الوقود.

ويذهب مسح اجراه موقع التوظيف الالكتروني «بايت كوم» حديثاً بالتعاون مع معهد الابحاث «يوغوف سيراج»، الى ابعد من ذلك، فاشار استناداً الى آراء عينة مؤلفة من 9760 من رعايا الشرق الاوسط وباكستان، الى ان 36% من اصحاب الاجر في لبنان يعتبرون انفسهم مرتاحين جداً في اعمالهم، و37% مرتاحين، و22% يعبرون عن مستوى ضعيف من الارتياح. ويعتبر الموقع ان نسبة الارتياح في اوساط اصحاب الاجر اللبنانيين هي الاعلى في المنطقة.

وتبدو البطالة الوجه الاخر للازمة المعيشية وهي تطاول، بحسب الارقام الرسمية او شبه الرسمية قبل عدوان يوليو (تموز) 2006، ما بين 9% و11% من اجمالي القوى العاملة، وتصل الى نحو 15% في الفئات العمرية الشابة ما بين 18 و35 سنة. وبالرغم من ان العديد من المصادر غير الرسمية تشير الى ان المعدلات الفعلية للبطالة باتت بعد عدوان يوليو (تموز) تتجاوز الارقام الرسمية المعلنة لتصل الى ما بين 12% و15%، الا ان ثمة اجماعاً على ان حجم هذه الظاهرة كان يمكن ان يكون اكبر بكثير لولا استمرار حركة الهجرة الى الخارج، وبالاخص الى دول الخليج. وتقول المديرة العامة للتوظيف في شركة «كارير» تانيا عيد ـ التي تنظم معرضاً سنوياً للتوظيف ـ لـ«الشرق الاوسط»: «ما زالت دول الخليج تجتذب صفات اللبنانيين من مختلف المهن والاختصاصات، لما يتمتعون به من اعداد جامعي، وتعدد لغات، وسرعة تكيف وحسن تواصل». وتضيف: «هناك وجهتان حاليا لطالبي العمل من اللبنانيين. فالذين ينشدون تحسين دخلهم وتأمين مدخرات، فيتجهون صوب قطر والكويت، او المملكة العربية السعودية». وتعتبر عيد ان العاملين اللبنانيين في الخليج يحاولون الان التكيف مع موجة التضخم التي تجتاح المنطقة، والتعايش معها في ظل انعدام الفرص في لبنان في الوقت الراهن نتيجة الازمة السياسية التي تكاد تستعصي على الحل!